عودة فرانز فانون

الرجل الغامض الذي وقف وراء نافذة مكتبي لحظات ليُعدّل من وضع قبّعته، قبل أن يمضي في طريقه، كان زنجياً بالغ الأناقة وخط الشيب فوديه. خلته لوهلة مُمثِلا أميركيا ببذلته البيضاء وطوله الفارع وحضوره القوي. لم أر غير جانب وجهه وصدغه البارز، لكنه بدا لي مألوفا. قمتُ من المكتب وفتحتُ النافذة لأتأكد من أنّه الشخص الذي كان اسمه يجول بخاطري. إلا أنّه ولّى مغادرا حديقة القسم بمشية واثقة، قبل أن يتوارى
2013-11-27

أيمن الدبوسي

كاتب وأخصائي في علم النفس، من تونس


شارك
من دفتر:
أخبار الرازي
فرح السعيدي - العراق


الرجل الغامض الذي وقف وراء نافذة مكتبي لحظات ليُعدّل من وضع قبّعته، قبل أن يمضي في طريقه، كان زنجياً بالغ الأناقة وخط الشيب فوديه. خلته لوهلة مُمثِلا أميركيا ببذلته البيضاء وطوله الفارع وحضوره القوي. لم أر غير جانب وجهه وصدغه البارز، لكنه بدا لي مألوفا. قمتُ من المكتب وفتحتُ النافذة لأتأكد من أنّه الشخص الذي كان اسمه يجول بخاطري. إلا أنّه ولّى مغادرا حديقة القسم بمشية واثقة، قبل أن يتوارى خلف سور أشجار الصّنوبر العالية.
هل يُعقل أن يكون هو؟ من المُستحيل أن يعود للرّازي بعد كل هذه السنوات. من المُستحيل أن يكون «فرانز فانون»!
مضت ثلاثة أيّام قبل أن ألمح الزّنجي الأنيق من جديد. كنتُ في مُقابلة مع مريض لمّا مرّ أمام الشباك. هذه المرّة كان دون قبّعة، وقد التفتَ لحظة جهة النافذة لتنكشف لي ملامحه المُميّزة. ما من شك في ذلك، إنّه «فانون» بشحمه ولحمه، وتلك النّدبة المميّزة على وجهه تؤكد أنّه هو. كان يرتدي قميصا أزرق سماويّا مشمّر الأكمام حتى المرفقين، وسروالا عاجيّ اللّون، وحذاء جلديّا لامعا. أمعن النّظر في وجهي ثم مطّ شفتيه المُكتنزتين، قبل أن يُلقي نظرة على ساعته اليدويّة ذات الجلد البنّي، ويُواصل طريقه كما في المرّة السّابقة. أردتُ أن ألحقه هذه المرّة لكن المريض الذي أمامي كان في حالة انهيار لا تسمحُ بتركه في تلك اللّحظة لأي سبب كان.
أنهيتُ العمل سريعا وغادرتُ القسم أتعقب الرّجل الأنيق. الأكيد أن هناك سببا وجيها لعودته الآن. سألتُ عنه مجموعة من الشبّان المُقيمين، إن كان أحدهم قد لمحه، وكانوا واقفين عند سور القسم. لكن لا أحد منهم كان يعرفه، ولا حتى سمع عن اسم «فرانز فانون». ثم انفجروا ضاحكين لمّا قلتُ لهم بأنّه زميلهم: طبيب نفسيّ مثلهم، عمِل في مُستشفى الرّازي لسنتين قبل أكثر من نصف قرن.
اقتنيتُ قهوة من الكفيتيريا وتابعتُ البحثَ عنه هناك، ثم رحتُ أتمشّى بين حدائق المُستشفى على أمل أن أقع عليه صدفة. مرّت نصف ساعة عدتُ بعدها إلى حديقة البُرتقال عند المدخل الرّئيسي وقد يئستُ من العثور عليه. سرتُ على العُشب المصفرّ لأجلس إلى إحدى الطاولات الخشبية. كنتُ على وشك الجلوس لمّا فوجئتُ بصيحة تحذير من مريض جالسٍ على طاولة مُجاورة. ثم قام ودنا بسرعة من الطّاولة التي كانت مقاعدها مُدمجة من الجانبين، وهزهزها ليُريني بأنّها غير مُثبتة بالأرض، وتنقلب إلى الوراء بمجرّد أن يجثم الشخص بثقله على أحد جانبيها. الرّجل دعاني للجلوس بجانبه على طاولته الثابتة، على ألاّ أتدخل إذا ما جاء شخص للجلوس على الطاولة المُفخخة. بمجرّد أن وافقتُ وجلستُ بعد أن شكرته، وجم ولاذ بالصّمت وبقي يُدخن دون اكتراث لوجودي.
أنا كذلك نسيتُ وجوده ولبثتُ أفكر في سرّ عودة «فانون». هل عاد للعمل أم لسبب آخر؟ ثم ماذا جاء يعمل عند نافذة مكتبي مرّتين؟ ولماذا نظر إلى ساعته؟ هل قصد بذلك شيئا مّا؟ كنتُ أفكّر مُرتشفا جرعات صغيرة مُتتابعة من القهوة دون أن أبعد الكوب عن فمي، لمّا اقترب كهل وابنه الذي يبدو من لباسه وهيأته بأنّه نزيل هنا. ارتحتُ لمّا رأيتُهما يتجاوزان الطّاولة المُفخخة للجلوس عند طاولة أخرى شاغرة، لكنّهما سُرعان ما عادا ادراجهما بمُجرّد أن وجدا أنّ الطّاولة الأخرى لم تكن في الظّل. كان الولد جامد الملامح زائغ البصر، يمشي مشية بلهاء أكثر تصلّبا. أمّا الكهل المحنيّ الكتفين فيبدو من ملامحه المُتعبة بأنّه والدُه. حطّ الرّجل على الطّاولة كوبي القهوة اللذين كان يُمسك بهما، قبل أن يجلس هو وابنه على نفس الجانب في تزامن، لتنقلب بهما الطّاولة إلى الخلف وينكبّ فوقهما كوبا القهوة بالكامل. هأهأ المريض الذي يُجانبني بضحكة ميكانيكية تُشبه صوت دوران دولاب صدئ. كان ينظر إلى الرّجلين مرفوعي الأرجل في شماتة، ثم ينظر إليّ ليُواصل في ضحكه الذي تحوّل إلى شهيق عنيف. الرّجلان المنكوبان قاما عن الطّاولة بنفس الملامح الثابتة ليتركاها مقلوبة ويعودا من حيث أتيا، وكأن شيئا لم يكن. واصل المريض هأهأته الصّدئة وأنا أشيح بوجهي عن فمه، قبل أن يقوم ويتجه نحو الطاولة المقلوبة ليُعيدها إلى وضعها العادي، ويعود للجلوس ويغرق مرّة أخرى في الصّمت والوجوم، مُنتظرا وقوع شخص آخر. في أقل من نصف ساعة جاء طفل وأمّه، ثم رجل وامرأة، رُفعت أقدامهما في الهواء وانسكبت القهوة عليهما بعد أن انقلبت بهما الطاولة. الغريب أن لا أحد ممن وقعوا في الفخ كان يتذمر. كلّهم ينهضون بنفس الملامح الثابتة، ليعودوا، في تسليم، من حيث أتوا. إلى أن جاءت طالبتان شابتان جلستا بتزامن متواجهتين، لتثبُت الطاولة في مكانها بفعل التوازن على الجهتين.
الأطباء لا يسقطون بسهولة، علّق المريض بجانبي وضرب بكفّه على الطاولة في أسف. ثم بقي يُكرّر الجُملة بآليّة وكأنّه لم يستوعب الأمر، بينما عدتُ لتجرّع قهوتي في انصراف. فُجاءة تبادر إلى ذهني أن أسأله لمَ لمْ يتركني أقع في الفخ، مثلما كان الشأن مع كُلّ الذين مرّوا بالطاولة ورُفعت أرجلهم في الهواء إلى حدّ الآن. طرحتُ عليه السّؤال دون تردّد، فالتفت إليّ وقال نافثا دخانه في وجهي: «لو أنّ الأمر بيدي لتركتك تتشقلب وتُرفع رجلاك، لكنّه أصرّ على تجنيبك ذلك». في الأثناء، نهضت الطالبتان عن الطاولة في خفّة وتزامن، وغادرتا دون مُشكلات. واصل الرّجل وكأنّه يخاطبُ نفسه: «فليفعل ما يشاء. أنا لا دخل لي. على كل حال، هو من اكتشف أمر الطاولة. هذه أمور تخصّه. فليفعل ما يشاء».
صحتُ وضربتُ على الطاولة لأوقفه: توقّف، عمّن تتحدّث، ما هذا الهُراء؟
لم يقل شيئا هذه المرّة، وكلّ ما فعله هو أنّه أشار بإصبعه إلى شيء مّا خلفي، فالتفت. كان «فرانز فانون» واقفا تحت شجرة بُرتقال وارفة الظّلال. آه، للأمانة، كان يضع يديه في جيبه ويبتسم بزاوية فمه اليُسرى الذي تدلّت منه قشّة قصيرة.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

وقفة احتجاجية لعاملات الجنس في تونس

المواخير في تونس كانت تحت إشراف وزارة الداخلية، وتحمل العاملات هناك في بطاقات تعريفهن الوطنية صفة "موظفات في وزارة الداخلية". لكن مواخير سوسة وباجة والقيروان هوجمت واحرقت. وقالت السيدة المُشرفة...

حماقات السبعين

في عيد ميلاده الثاني والسبعين، الكاتب التونسي أيمن الدبوسي: «لا زلت أشرب زجاجة ونصف من النبيذ يوميّا وأحلم بالذهاب للعيش في أميركاخصّ الكاتب التونسي أيمن الدبوسي جريدة السفير العربي بلقاء...