السيدة ميم وقصص أخرى

ربّما حان الوقتُ للحديث عن «السيّدة ميم» في خضم هذه المُذكرات. إنّها ربّة الرّازي، وأرشيفه الحي. ومن لم يعرف ميم، لم يعرف شيئا عن الرّازي. لقد اعتادت أن تزورني في مكتبي من حين لآخر، لتدخن سيجارة عندي ونتجاذب أطراف الحديث. مضت مدة طويلة منذ رأيتها آخر مرّة. لكني أعتقد أنّها لن تتأخر في الظهور. ستتأكد مثل كل مرّة من أني قبضتُ مرتّبي، لتظهر من جديد. هي أيضا تحكي لي حكايات رائعة،
2013-11-20

أيمن الدبوسي

كاتب وأخصائي في علم النفس، من تونس


شارك
من دفتر:
أخبار الرازي
مجدي محمود ــ مصر

ربّما حان الوقتُ للحديث عن «السيّدة ميم» في خضم هذه المُذكرات. إنّها ربّة الرّازي، وأرشيفه الحي. ومن لم يعرف ميم، لم يعرف شيئا عن الرّازي. لقد اعتادت أن تزورني في مكتبي من حين لآخر، لتدخن سيجارة عندي ونتجاذب أطراف الحديث. مضت مدة طويلة منذ رأيتها آخر مرّة. لكني أعتقد أنّها لن تتأخر في الظهور. ستتأكد مثل كل مرّة من أني قبضتُ مرتّبي، لتظهر من جديد. هي أيضا تحكي لي حكايات رائعة، بمقابل بالطّبع. إنّها موسوعة نفسية، وتعرف أشياء عن الأدوية والأمراض النفسية لا يعرفها طالب في السنة الثالثة. ميم بارعة في النّصب والاستغلال، والكثير من الطلبة الجدد تنطلي عليهم حيلها، فتسلبهم أموالهم، وحتى بعض ثيابهم وأمتعتهم الخاصة. الرّازي مجالها الحيوي، وهي تُحسن الصّيد فيه، وتقضّي أغلب يومها هناك. من المؤكّد أنّها حاولت الاقتراب منكم، أو التحرّش بكم لو سبق وأن زرتم الرّازي. إنّها تلك المرأة الأربعينية السمراء، ذات الوجه المتوعّد والعينين الثاقبتين. هل تذكّرتموها الآن؟ لكني أقسم لكم بأنها طيّبة جدا، رغم أنها تُضاجع أغلب المرضى، وتسلبهم أموالهم. ميم لا تتورع عن القيام بأي شيء لأجل الحصول على المال. كانت تحكي لي كيف تُرهبُ الزوار وتبتز الطّلبة، فأكاد أبول من الضحك. ولو تُسعفني الذاكرة، فسأحكي لكم عمّا فعلته معي أوّل ما التقيتها في الرّازي.
كانت تنزع طاقم أسنانها وتومئ به خارج فمها ككلب يعض على عظم هزيل، أو تكشف عن بطنها لتشهر في وجه زائر تائه ندبة طويلة عميقة أو بعضا من جلد جنبها المقروح، عاصرة على لحمها ليطفر القيح والدم. لا أحد كان يصمد طويلا أمام العرض الفظيع، فتراهم يُفرغون جيوبهم أمامها ليفروا بجلودهم. حكت لي مرّة عما فعلته مع الدكتاتور السّابق لمّا زار الرّازي، أول التسعينيات. ورغم أنهم قاموا بحبسها في ذلك الوقت، فإن ميم استطاعت بصراخها أن تلفت انتباه الدكتاتور الذي كان موكبه يمرّ قرب القسم الذي تنزل فيه. الدكتاتور لم يكن يعلم أن مفاجأة كانت في انتظاره، وهو يقترب من قفص الشباك الحديدي الذي تتعلق به ميم. لقد خلعت كل ثيابها وتسلقت القفص عارية، لتربط حمّالة صدرها الحمراء وسروالها الداخلي الأبيض أعلى الشباك، وتأخذ بالهتاف بالنشيد الوطني: «اقترب يا سيّدي الرّئيس. اقترب. هذا علم تونس! هلمّوا هلموّا لمجد الزّمن...»

***

هذه المرّة، وقبل أن أبدأ الحصّة، تأكدتُ من أن «دوستويفسكي» لم يكن مختبئا وراء السّتارة. وتثبت أيضا من كون «دانتي» لم يكن مُندسا أسفل المكتب، ولا «المَعرّي» كان محشورا في الخزانة. غير أني أطلقتُ لقب مادموازيل «سُيوران» على المريضة التي غادرت قبل قليل مُغلقة الباب خلفها في هدوء. وقد انتابني يقين بأن من كان جالسا قبل لحظات على المقعد المُقابل، إنما هو «إيميل سيوران» بشحمه ولحمه. الفتاة دوّختني. كانت أعسر مريض قابلته منذ مُدّة. كان تحتوي على رفض أصليّ للحياة لا مثيل له. إنّها مُعرضة عن كل شيء. وكل شيء مُقبل عليها في اصرار عجيب. المجيء للرازي لم يكن في الأصل فكرتها. جاءت لتضع حدا لإلحاح أحد أصدقائها الأطباء. وبين استمرارِه في حثّها على المُعاينة، والمجيء إلى مُستشفى الرّازي، اختارت الحلّ الثاني، غير مُقتنعة بالخيارين. ولو خُيّرت فعلا بين خيارين، لاختارت ألاّ تختار، ولَمَا أرادت أن تُوضع في موضِع الاختيار أصلا.
أنا مُتأكد من أنها مُكتئبة، ولكن ليس تماما. ومُتأكدٌ من أنّها غير عاديّة، ولكن ليس تماما أيضا. إنّها لا تفعل شيئا، ولا تبذل أدنى جهد، وبالرّغم من ذلك، فإن هنالك دائما شيئا مّا لأجلها. وهو شيءٌ مّا لا تدري من أين جاء ولا لماذا جاء؟ كانت تقول لي قبل قليل انّها أصيبت بالدّهشة لمّا صحت هذا الصباح! لقد تعجّبَتْ وانزعجَتْ قليلا لأنها صَحَت من النّوم. «ماذا فعلتُ لأصحو؟!» قالت لي في لهجة هي أبعد ما يكون عن الاحتجاج. إنّها ببساطة لا تفهم ماذا فعَلتْ حتى تصحو من النّوم، وتُصرّ على أنّها لا تفهم لماذا وقع ذلك، خاصّة أنّها لم تقم بأي شيء لأجل أن يتم الأمر...
كانت بالضبط شخصا عالقا في الحياة. ولا تجد أدنى مُبرر لبذل أي جهد لتخليص نفسها، أو حتى إيجاد معنى لذلك. إنها لا تُريد. نُقطة. لا تُريد. وبالرغم من ذلك، فإنّه يُرادُ لها. لقد درست ثماني سنوات في معهد للموسيقى وأتقنت العزف على آلة الكمان كما كان يشتهي والدها، من دون أن يكون لها ولع خاص بتلك الآلة. ثم انقطعت عن العزف نهائيا ولم تُعاود لمس آلتها بمُجرد أن انتهت الدروس وتحصلت على شهادة في ذلك. والآن، وقد بقي لها ثلاثة أشهر على انهاء دراستها في مجال الهندسة، ومن ثمّ الحصول على شهادة التخرّج، فإنها أخذت تفكر في الانقطاع. قالت لي انها لا تستحق النجاح. وإنّها تشعر ببعض الذنب لكونها تمكنت من النجاح والمرور كل سنة، وبمُعدلات مُحترمة جدا، وذلك من دون بذل أيّ مجهود فعلي. مُتشائمة هي؟ قد تتساءلون. تعيش حالة من الماليخوليا؟ كلاّ. إنّ ذلك أمر مُكلِف للغاية ويُعدّ ترفا بالنسبة لها. إنّها ليست حتى «بالمُتشائلة»، ولا تُفكر في الانتحار. إنّها مُعرضة عن كلّ شيء إعراضا أصليّا، ومن دون أي حماسة في القيام بذلك. هذا، تقريبا، ما هي عليه. حتى ثيابها، التي قالت انّها ارتدتها هذا الصّباح كيفما اتفق، كانت مُتّسقة، ولائقة بها. وجهها جميل، وملامحها ظريفة ورقيقة، وهي ليست مسؤولة عن ذلك. كما أنّها لا تُعاني أي مرض عضوي. عائلتها ميسورة. والداها وإخوتها وحتى جداها وجدتاها كانوا كلهم أحياء وفي صحة جيّدة.
كنتُ أقول انها جميلة، وثيابها متناسقة ولم تبذل أدنى جهد في اختيارها، وناجحة في دراستها، وتتقن العزف على آلة الكمان، ولها أصدقاء رائعون يُحبّونها، وأكثر من شاب يتمنى مُواعدتها والتعرف عليها، وهي لا ترغب في أي شيء من ذلك... إنّها حتى لا تُدخن. لكنها لا تُمانع مثلا إذا ما ناولها أحد أصدقائها سيجارة. وليس لها أي موقف من أي أمر كان.
لم أرتبك يوما أمام مريض مثلما شعرتُ بالارتباك أمامها. شعرتُ بخَلخَلة لم أختبرها إلا عند قراءتي نصوص «باتّاي» و«سيوران». لكنها كانت أخطر، لأنّها لم تكن تملك أيّ وهم اعتقاد، وأي عبقريّة في التعبير عن تشاؤمها الأصلي.
«انّي أنتظِر أن ينتهي كلّ هذا»، قالت تختتم حديثها، رافعة يديها قليلا. لم أكن غبيّا لأفهم أنّ «هذا» هذه، تعني في ما تعني أيضا رغبتها في أن نُنهي الحصّة. وكنتُ متأكدا من لو أن أحدهم دلّها على الحلّ، وعلى سبيل الخلاص من الحياة، فهي لن ترغب حتى في الذهاب إليه. كان واضحا أيضا أنها لا ترغب في أن نقوم بحصة أخرى، ولم أكن لأفرض عليها الأمر. لكني قلتُ لها بأنّي سأترك لها موعدا مفتوحا، ويُمكن أن تأتي متى أحسّت برغبة في ذلك. غير أنّها قالت بشبه ابتسامة:
«أعتقد أن لا حاجة لذلك». ثم حيّتني بلطف، وغادرت.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

وقفة احتجاجية لعاملات الجنس في تونس

المواخير في تونس كانت تحت إشراف وزارة الداخلية، وتحمل العاملات هناك في بطاقات تعريفهن الوطنية صفة "موظفات في وزارة الداخلية". لكن مواخير سوسة وباجة والقيروان هوجمت واحرقت. وقالت السيدة المُشرفة...

حماقات السبعين

في عيد ميلاده الثاني والسبعين، الكاتب التونسي أيمن الدبوسي: «لا زلت أشرب زجاجة ونصف من النبيذ يوميّا وأحلم بالذهاب للعيش في أميركاخصّ الكاتب التونسي أيمن الدبوسي جريدة السفير العربي بلقاء...