كان نِزار شاباً فصاميّاً عمره ثلاثة وعشرون عاماً. صار يتردّد على عيادتي بعد أن دخل مكتبي مرّة على سبيل الخطأ. صرتُ أتابعُه بشكل مُنتظم منذ تلك الحادثة، وقد نشأت بيننا علاقة علاجيّة متينة. لمّا عرفته، كان في حالة انطواء شديد، لكن الصّدفة التي شاءت أن تكون إحدى روايات سليم بركات مرميّة على مكتبي في ذلك اليوم، هي التي جعلته يخرج من عزلته الفصاميّة ويتعلق بي.
«لوعة الأليف اللاّموصوف المُحيّر في صوت سارماك» كان عُنوان الرّواية في حد ذاته تقليعة فصاميّة. نزار قرأ العُنوان، ثم تصفحّ بعض الصّفحات، قبل أن يضع الكتاب على المكتب، ويقول، بصوت منهك، إنه كتابٌ صعب. ذلك اليوم دعوته للجلوس، وانغمسنا في حديث مطوّل، استأثرتُ أنا فيه بالكلام. ليس لأني كنتُ أريد ذلك، ولكن لأن نزار لم يكن يتحدّث كثيرا. مع مُرور الحصص صار يتحدث أكثر، وصار يرفع عينيه إليّ ويحدق في وجهي. كنتُ أراه مرّة كل أسبوعين. وكان يأتي في الموعد برفقة والدته. شيئاً فشيئاً عاد للمطالعة، مثلما كان يفعل قبل أن يحل به المرض.
صار يأتيني بملخص قصّة قصيرة أو رواية يقرأها لنناقشها معاً، إلى أن جاء يوم قال لي فيه بالحرف الواحد: «لقد هزمتها العُزلة الشرسة». ثمّ علمتُ بعد ذلك من والدته بأنه صار يُجالسهم في البيت ويُشاركهم مُشاهدة التلفاز، ويُحادثهم أكثر، وصار يرغبُ في الخروج للتنزه. وقد أراد ذلك أكثر من مرّة، إلا أنها منعته لأنه مريض حسب رأيها، ويُمكن أن يُصيبه أي مكروه لو يخرج من دُون رفقة.
في آخر حصّة رأيتُه فيها، كان نزار يرتدي نظارات سوداء ضخمة، خلعها ووضعها على المكتب بمجرد أن صافحني وجلس. كنتُ تعمدتُ أن أظهر له إعجابي بنظاراته، وأنا أقول له بأنها تليق به، فابتسم، وقال لي إنه يرتديها ليحدّ من الأصوات المُقلقة التي يسمعها باستمرار. عند ذلك قاطعتنا والدته وتدخلت في خشونة، لتقول إنه يرتديها كذلك في اللّيل، وهذا أمر سخيف، وأن المجانين وحدهم يفعلون شيئا مماثلا. نزار لاذ بالصّمت، وأخفض رأسه، بعد أن حدّق بي في يأس. قُلتُ لوالدته بلطف إنه يرتديها لغرض آخر، يختلف عن الاستعمال العادي للنظارات، إلاّ أنها تبقى جسماً عازلا يُعينه على التقليل من تأثير أمر مّا سيّئ. «أنت فهمتني دكتور» قال لي الشاب بشبه ابتسامة، قبل أن يعود ويلوذ بالصّمت. لكن والدته احتدمت بغتة وقالت إنها تقبل بأن يكون ابنها مريضاً يتناول الدّواء، وتقبل بأن يتردّد على مُستشفى الرّازي، برغم كل ما سيقوله عنهم الناس، لكنها لن تقبل البتة بأن نشجّعه على عصيان أوامرها والقيام بأشياء سخيفة لا يقبلها المنطق، ثم سحبته من يده وغادرت المكتب في غضب شديد، لتبقى نظّارات الشاب مرميّة على المكتب مثل سلاح منزوع.
هذا الصّباح كان لي موعد مع نزار، لكنه لم يأت.
«انتهى. يكفي هذا القدر من العمل في الرّازي. هذه المرّة سأغادر نهائياً». كم مرّة قلتُها؟ وفي كلّ مرّة كنتُ أتراجع. حدسي كان يقول لي دائما إنّ الأمور في الخارج يُمكن أن تكون أسوأ.
كنتُ أحسّ أنْ لا مفرّ من البكاء، لأنه لم يكن في استطاعتي القيام بأي شيء آخر. أذكر أني بكيتُ آخر مرّة لمّا توفيت والدتي، وكنتُ في حال مثل هذا الصباح، غير قادر على القيام بأي شيء لأجلها. البكاء عزاء العين التي ترى عجزها. والدموع، في انفلاتها الرقيق، تنقذنا من اليأس المُطلق، لأننا حتى ونحن مقيدون، مكممون، مذلون ومهانون، تبقى لدينا تلك القدرة الفذة على تحرير الماء من أعيننا. وعليه، فإن ما من قوة في الكون يُمكن أن تحبس الدمع المُنفلت، ماء وجه الإنسان المقهور. كنتُ جالساً وحيداً على مقعد خشبي تحت ظل برتقالة بإحدى حدائق الرّازي. لا مرضى هذا الصباح أعاينهم، فاليوم سبتٌ. أحسستُ أني لا محالة باكٍ وأنا آتي على الصفحات الأخيرة من رواية شتاينباك، «فئران ورجال». ليس أقسى على قلبي من رؤية أحلام الرّجال تتكسّر وتلويها المُقتضيات الجبّارة. وفي الرّازي، رأيتُ من القساوة ما يكفي لأن أبكي دهراً، ومع ذلك لم أبك. لأني كنتُ مُهيّأ بمقتضى تكويني وتجاربي، لاحتمال كل ذلك. كنتُ قد رأيتُ الصّبايا يُسقن إلى الزواج كما تُساق النعاج إلى المسلخ، ولم أبك. ورأيتُ المراهقين يفشلون وينتحرون وقد ضاقت بهم انتظارات آبائهم وأحلامهم، ورأيتُ أطفالا يغتصبهم عمّ لهم، أو أب أو خال، ولم أبك. ورأيتُ عجائز سَلب الخَرَفُ وقارهن، ورأيتُ شيوخاً يعرضهم أبناؤهم على الفحص الذهني ويأخذونهم أمام القضاء ليُثبتوا عليهم عجزاً أو قصوراً حتى يرثوهم، ولم أبك. ورأيتُ الأطفال المُتوحدين في توحدهم، والفصاميين في فصامهم، والمكتئبين في اكتآبهم، والمصابين بالايدز، والمُستسلمين لحتفهم من مرضى السرطان، والمشردين المنبوذين، ولم أبك. ورأيتُ الشبان المُنتحرين، الحارقين أجسادهم، والفاتحين شرايينهم، والمُتجرّعين مُبيد الجرذان، والمرتمين من الشبابيك والشرفات، وأمام العربات، والمدمنين المُستنزَفين، ولم أبك. ورأيتُ المُتخلفين عقلياً، والقتلة السفاحين، والأمّهات الثكلى، والأرامل واليتامى، والرّجال المغدورين، والهاربين من الوظيفة، والهاربين من الخدمة العسكرية، والهاربين من البيت، والبرصى، والعاهرات، والمعوّقين، والصم والبكم، والعميان، والأمهات العازبات، والرُضّع المتروكين في المُستشفيات على طاولات الولادة، وأمام صناديق القمامة، ولم أبك. ورأيتُ أعظم من طاقتي على الاحتمال... وهذا الصباح أبكتني رواية. لكم تبدو بسيطة أحياناً أحلام الرّجال، ويا لامتناعها المرّ. إنّ ما أحسستُ به هذا الصّباح ودفعني للبكاء، هو ذلك الانتماء الفظيع لأحلام الرّجال وعذاباتهم أينما كانوا. وهو أيضاً وقوفي على الكسر الرّائع الذي ننتمي إليه جميعاً. والأدب الأميركي في عظمته، من عجوز «همينغواي»، إلى طريق «كيرواك»، وحتى رجال «شتاينباك»، يبقى أدب «الكسْر» والهشاشة الأرضيّة الفذة.