تراجع توفير الكهرباء في العراق في الأشهر الأخيرة إلى مستويات غير مسبوقة، والوزارة المعنية بتوفير الطاقة رفعت يدها عن الأمر، وصارت تكتفي بإعلان ساعات التجهيز: ساعة طاقة مقابل 5 ساعات من انقطاعها. قصة التيار الكهربائي في العراق قديمة، وأزماتها تزداد اشتباكاً بالفساد والأجندات الإقليمية والدولية.
أزمة مديدة
تمثل أزمة الكهرباء التي يعاني منها العراقيون منذ 17 عاماً "معضلة" دائمة، تلُهب البلاد صيفاً، وتزيد برودة أجوائها شتاءً. تستخدم الكهرباء في العراق للحصول على أغلبية أنواع الطاقة، وعلى الرغم من ذلك، قد أُحرق خلال الأعوام الماضية مليارات الأمتار المكعبة من الغاز في سمائه، ما تسبب باستمرار الأزمة التي صرفت عليها ملايين الدولارات خلال الحكومات السابقة، من غير إنجاز حل لها.
وبعد اعتماد العراق على استيراد الغاز الإيراني في توفير الطاقة الكهربائية، منذ أواخر حزيران/يونيو عام 2017، ارتبطت أزمة الكهرباء كلياً بالاستيراد، خصوصاً وأن الحكومات المتعاقبة خلال السنوات السابقة، قد عمدت إلى استيراد محطات كهرباء غازية، ما أجبر العراق على هدر الأموال لتوفير التجهيزات لها. وقد باشرت طهران، مقابل ذلك، بتصدير الغاز إلى بغداد من محطة نفط "شهر"، فحصل على 1.2 مليار متر مكعب من الغاز، الأمر الذي حوّل العراق إلى ثاني أكبر مشترٍ للغاز الإيراني بعد تركيا، باستيراد يبلغ نحو 14 مليون متر مكعب يومياً.
غاز محروق
يمتلك العراق مصدرين للغاز الطبيعي، يتمثّل الأول بالغاز المصاحب للنفط كناتج طبيعي يتميز استثماره بانخفاض التكاليف، وليس بحاجة إلى عمليات تنقيب وحفر واستخراج، باعتباره ملازماً للنفط المستخرج، وهو ما يخص 70 في المئة من غاز العراق، أما الثاني فيتمثل بالغاز الحر، والذي يتميز استثماره بالتكاليف العالية، لحاجته إلى عمليات تنقيب وحفر واستخراج ويشكل 30 في المئة من إنتاج الغاز العراقي.
تشير الإحصائيات، إلى أن احتياطي العراق من الغاز الطبيعي يبلغ أكثر من 110 تريليون قدم مكعب، يحرق منه 700 مليون قدم مكعب، وهذه الكمية تُهدر حرقاً لعدم وجود البنية التحتية، وسوء الإدارة والتخطيط، وعجز الحكومات المتعاقبة.
وتقدّر مجلة "إيكونوميست" البريطانية أن كمية الغاز المحروق المصاحب للنفط الخام المنتج في آبار البصرة تقدر سنوياً بحوالي 12 مليار متر مكعب، وهي كميات تفوق الاستهلاك السنوي لدولة النمسا بأكملها. ووفقاً لبيانات وكالة الطاقة الدولية، فإن كمية الغاز المحروقة في العراق يومياً تكفي لإمداد ما لا يقل عن 3 ملايين منزل بالطاقة الكهربائية التي يعاني العراقيون من غيابها منذ أعوام.
وتضع منصة "نويما" الأمريكية للبيانات والأبحاث العراق في المرتبة الحادية عشرة بأكبر احتياطي للغاز خلال عام 2019، بمقدار 132.22 تريليون قدم مكعب. وبحسب مكتب التحقيقات الحكومية، يرتبط حوالي ثلاثة أرباع احتياطيات الغاز الطبيعي في العراق بالنفط، ويقع معظمها في الحقول العملاقة في أقصى جنوب البلاد.
خصخصة الكهرباء في العراق: الطريق سالكة للنهب
22-02-2017
أما إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA)، فقدّرت أن إنتاج العراق من الغاز الطبيعي الجاف في عام 2017 بلغ 357 مليار قدم مكعب (Bcf)، مع زيادة 18 مليار قدم مكعب إضافية مقابل الأعوام السابقة. وشخّصت قيام العراق بـ"إشعال" 629 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي، ليصبح ثاني أكبر بلد مصدر للغاز المشتعل في العالم بعد روسيا، مبينة أنه يتم حرق الغاز الطبيعي بسبب عدم كفاية خطوط الأنابيب والبنية التحتية الأخرى وسط المياه.
ارتفع حرق الغاز على المستوى العالمي منذ أكثر من عقد، حيث بلغ 150 مليار متر مكعب، أي ما يعادل إجمالي استهلاك الغاز السنوي في أفريقيا جنوب الصحراء. ويجري حرق الغاز الطبيعي المرتبط باستخراج النفط، بسبب القيود التقنية أو التنظيمية أو الاقتصادية، أو بسببها كلها.
وتشير الإحصائيات، إلى أن احتياطي العراق من الغاز الطبيعي بلغ أكثر من 110 تريليونات قدم مكعب، يحرق منه 700 مليون قدم مكعب، بحسب التقرير، الذي يوضح أن هذه الكمية تهدر حرقاً لعدم وجود البنية التحتية، وسوء الإدارة والتخطيط، وعجز الحكومات المتعاقبة.
ونتيجة زيادة إنتاج النفط العراقي من 3 الى 4,5 مليون برميل يومياً، ارتفع معدل حرق الغاز من 13,3 إلى 17,8 مليار متر مكعب.
أكبر الدول إحراقاً للغاز الطبيعي
تضع هذه الإحصائيات العراق، بحسب تقرير للبنك الدولي صادر في منتصف العام 2020، في المركز الثاني عالمياً للسنة الرابعة على التوالي بين أعلى الدول إحراقاً للغاز الطبيعي، خلف روسيا، وتتبعه الولايات المتحدة ثم إيران، حيث تشير بيانات البنك إلى أن العراق أحرق عام 2016 ما مجموعه 17.73 مليار متر مكعب من الغاز، ثم ارتفع ذلك عام 2019 ليصل إلى 17.91 مليار متر مكعب تحرق في الأجواء.
وتشير تقديرات من بيانات الأقمار الصناعية، وفق البنك الدولي، إلى أن حرق الغاز على المستوى العالمي ارتفع إلى مستويات غير مسبوقة منذ أكثر من عقد، حيث بلغت 150 مليار متر مكعب، أي ما يعادل إجمالي استهلاك الغاز السنوي في أفريقيا جنوب الصحراء. ويجري حرق الغاز، أي حرق الغاز الطبيعي المرتبط باستخراج النفط، بسبب القيود التقنية أو التنظيمية أو الاقتصادية أو بسببها كلها.
تعوّد العراقيون خلال السنوات السابقة على الوعود الكبيرة التي يطلقها مسؤولو الحكومات العراقية، بتنفيذ المشروعات التي يُخطط لها في كل عام، وخصوصاً الأعوام التي تقرب فيها الانتخابات البرلمانية، حيث يبدأ إطلاق الأحاديث عن وضع حجر الأساس لمشروعات متنوعة، أهمها الكهربائية، بدءاً من استثمار الغاز، وليس انتهاءً بتجديد شبكات الطاقة.
وبهذه الحال، فإن العراق يهدر حوالي 62 بالمئة من إنتاجه من الغاز، أي ما يعادل 196 ألف برميل من النفط الخام يومياً، هو الأمر الذي يمثّل هدراً مالياً كبيراً... وهذا الهدر، لوحده، كان يمكن أن يكون كافياً لبناء صناعة غاز جديدة بالكامل.
حرق يومي
لا يُمثّل هدر الغاز في العراق، بكل الأحوال، حرقاً للأموال فحسب، وإنما يؤثر على حياة السكان بشكل مباشر، فمحطات التوليد الكهربائية في العراق تعتمد على استيراد الغاز بأكثر من 850 ألف متر مكعب يومياً، وبمبالغ تصل إلى أكثر من 4.5 مليار دولار سنوياً.
وبدلاً من معالجة هذا الحرق، ألغت وزارة النفط عقد حقل غاز المنصورية المبرم مع تحالف "تي .بي. أي أو" الذي يضم شركات تركية وكورية جنوبية وكويتية، بعد تعثرها في تنفيذ التزاماتها. وبمقابل ذلك، اتجه العراق إلى عقد اتفاق مع إيران لاستيراد الغاز لتشغيل محطات الكهرباء.
وتضغط الولايات المتحدّة الأمريكية، بالمقابل، على العراق لتقليل الاعتماد على إيران في استيراد الغاز، لكن واشنطن ظلت تمدد، على الرغم من ذلك، استثناءات لبغداد من العقوبات المفروضة على إيران، في استيراد الغاز من "الجارة الشرقية" التي تتصارع هي وواشنطن على النفوذ في بلاد ما بين النهرين.
العراق لمن؟
17-09-2020
وبالنسبة لواشنطن، فإن تقليل الاعتماد على إيران في ملف الغاز لا يعني مساعدة العراق على استثمار ما يحرق في أجوائه، وإنما الاتجاه إلى استبدال إيران بدولة حليفة للولايات المتحدة في المنطقة مثل السعودية، لتعويض نقص الكهرباء المزمن الذي يعيشه العراق، والذي يتسبب، كل صيف، بتظاهرات حاشدة في مدن وسط وجنوب العراق، التي ترتفع فيها درجات الحرارة إلى أكثر من 50 درجة مئوية.
وعود مستمرة وتصريحات كاذبة
تعوّد العراقيون خلال السنوات السابقة على الوعود الكبيرة التي يطلقها مسؤولو الحكومات العراقية، بتنفيذ المشروعات التي يُخطط لها في كل عام، وخصوصاً الأعوام التي تقرب فيها الانتخابات البرلمانية، حيث يبدأ اطلاق الأحاديث عن وضع حجر الأساس لمشروعات متنوعة، أهمها الكهربائية، بدءاً من استثمار الغاز، وليس انتهاءً بتجديد شبكات الطاقة.
بالنسبة لواشنطن، فإن الضغط على العراق لتقليل اعتماده على إيران في ملف الغاز لا يعني مساعدته على استثمار غازه الذي يُحرق في أجوائه، وإنما دفعه إلى استبدال إيران بدولة حليفة للولايات المتحدة في المنطقة، مثل السعودية، لتعويض نقص الكهرباء المزمن الذي يعيشه العراق.
ولكن استمرار اعتماد العراق على "جارته الشرقية" لتوفير الطاقة، يبيّن أن تهاوناً متعمداً لدى المسؤولين يمنع إصلاح منظومة البلاد، وإيقاف استيراد الغاز الإيراني، واستثمار العراقي منه على وجه الخصوص، وبدلاً عنه. واستطراداً، فإن "حرق الغاز" لا يعني "إهمالاً" كما تطلق عليه المؤسسات الدولية عند الحديث عن الغاز، وإنما إمعاناً للسلطة في عقاب العراقيين، واستمراراً لنهج المحاباة المُعتمد من قبل الأحزاب المتنفذة للدول الساندة لها، حتى ولو على حساب أهم القضايا الوطنية مثل استثمار الموارد الطبيعية.