«أنا غْريب. غْريب. وطول عُمري نْعيش غْريب». هذه الجُملة التي خطّها مجهول، بأحرف ضخمة، على جدار قسم العيادات الخارجية، ظلّت محفورة هناك لأربعة أشهر مُتواصلة، قبل أن يقوموا بإعادة طلاء الجدار هذا الصباح.
***
قبل قليل لمحتُ محمد علي في موقف القسم. كان واجما، يستند إلى مقدمة سيّارة، يُحدّق في اللاشيء، وفوق رأسه تحوم كوكبة من البعوض. ما إن رآني حتى هرع إلي وسألني سؤالا غريبا:
«هل يُعْدي الجنون يا دكتور؟»
كوكبة البعوض لحقته ولبثت تحوم حول رأسه في طواف غامض.
كنتُ سأقول له:
في حالات قليلة جدا، ثم امتنعت، وقلتُ له بأن الجنون لا يُعدي. إلا أنه باغتني بسؤال آخر:
«هل تعلم أن المجانين يدخلون الجنة مباشرة، ولا يُحاسبون؟»
«يُقال إنّهم مرفوعوا القلم»، أردفتُ على كلامه مُبتسم.
«هذا ما قاله الإمام بالأمس في الجامع يا دكتور. خسارة، وددتُ لو كان الجنون مُعديا لأعدي من أحب وأدخله الجنّة».
لم أتمالك نفسي وقلتُ له:
«إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء».
أضاء وجه محمد بتلك الابتسامة الفصاميّة الفريدة، ثم قال لي وأنا أهم بالانصراف:
«أخشى ألا يدخل الجنة غير المجانين يا دكتور».
«أخشى أن نكون في الجنّة في هذه الحالة ونحن لا ندري»، قلتُ وانفجرتُ ضاحكا. إلا ان محمد علي لاحقني بالكلام وأنا أغادر الموقف:
«دكتور، دكتور، أنا منحبش نكون مجنون. قلتو يا ربي أعطيني المال والفكر، والجنة نجيبها بذراعي».
عند ذلك انقشعت عن رأسه كوكبة البعوض، وافترقنا.
***
رجعتُ للكتابة بعد يومين. هذا الصباح لم يكن في الأجندة غير موعدين. جلبتُ قهوة من الكافيتيريا وعدت للمكتب لأطالع ما كتبتُ منذ أيام، ثم أغلقتُ الدفتر وبقيتُ أفكر في أمر الفتاة التي عايدتها قبل قليل. اسمها نرجس أو نسرين، لا يهم. المهم أنّها حاولت الانتحار بابتلاع علبة أقراص منع الحمل التي لوالدتها. لم يحصل لها شيء بالطبع، رغم أن والدها سارع بها إلى قسم الطوارئ. هناك، قاموا بتوجيهها إلى الرازي. والدها يعمل في حظائر البناء، يسكن حيّا شعبيّا ويُعيل عائلة من زوجة وثلاث بنات.بعد إجراء اختبار ذكاء، أشارت النتائج إلى أن نرجس تُعاني من تأخر ذهني طفيف. لكنّي ألقيت ورقة الاختبار في القمامة وقلتُ للأب، الذي جاء خصيصا ليتأكد من ذلك، بأن نسبة ذكاء ابنته عاديّة تماما، بل ويُمكن أن تكون متفوقّة في بعض المجالات.
الأب لم يقتنع بكلامي رغم أني شرحتُ له أن الذكاء مُتعدد الأشكال والمجالات. بالنسبة له، ابنته معتوهة وسيجد صعوبة في تزويجها، ذلك كلّ ما كان يشغله. أمّا نرجس فكان لها طموح وحيد: «أن تعوم مع الدّلفين». منذ أن شاهدَتْ وثائقيا يعرض فتاة تقوم باستعراض في مسبح مع مجموعة من الدلافين، صار ذلك كل هاجسها. نرجس غادرت المدرسة في آخر مرحلة من التعليم الابتدائي، ولم تنه تكوينها للحصول على شهادة خياطة بالمركز المهني الذي ألحقها به والدها. لكن نرجس، ومنذ أن شاهدت الفتاة التي تركب ظهر الدلافين الاستعراضيّة، صار كل همّها «أن تعُوم مع الدّلفين». وكلّما كرّرت ذلك، كان الأب يلعن الدلافين ويكاد ينتف شعره أسفا وخذلانا. «من سيتزوجها يا دكتور؟ من سيتزوج حمقاء مثلها؟». ربّما كان على حق! لكنّي متأكد أنّه سيجد لها زوجا. نرجس فتاة جميلة ببنية جسدية رشيقة. إنّها عروس بحر. أنا متأكد أنّه سيعثر لها على دلفين، أو فرس نهر، أو حتى جحش مائي يدفنها في البيت ويُولّدها أبناء كُثر. لما غادرتْ المكتب مع والدها كنتُ أعرف أنّها لن ترجع أبدا. والدها جاء بها لأمر واحد، كان يعتقد أنّنا سنقوم بتعديل دماغها أو نجرّب معها شيئا ما يُنسيها حكاية الدلافين. ما زلتُ أذكر ابتسامتها الرائعة وهي تُطبق الباب، ابتسامة حوريّة. لكن نرجس، وللأسف، كانت حوريّة في صحراء!
***
كُوب القهوة انسكب بالكامل وأنا لم أفعل شيئا لأوقف انتشار البقعة السوداء على سطح المكتب. أحسستُ كأن أحدا يُقطّر حبرا في بؤبؤ عيني. بقيتُ أتابع انتشار السائل الثقيل، القاتم، يسري ببطء، كإغماءة، كظلام، كستارة تهبط على بصري. ذهلتُ. غرقتُ في سُويداء القهوة. كان الكوب الثالث أو الرابع هذا الصباح. لكن سطلا اضافيا ما كان ليُحرّك رمشة من عيني. لبثتُ في تلك الحالة من «الكتاتونيا» جالسا وراء المكتب، إلى حين انتهى وقتُ العمل. راحت القهوة تنجلي عن بصري شيئا فشيئا، إلى أن رجعتُ تماما، ورجع المكتب، والنافذة التي من ورائها السماء اللامُتناهية. كل شيء كان واضحا أكثر من اللزوم. كل شيء كان صافيا حتى التلاشي، ومألوفا، والسّماء تصرخ بالزرقة المُفزعة. امتصني فراغ النّافذة. لبثتُ لبعض الوقت أحدق عبره في شرود. بغتة، وعند الركن الأيسر، ظهر شاب يركض نصف عار نحو بوابة المُستشفى، يجدّ في اثره نصف حراس الرّازي، قبل أن يختفوا جميعا عند الرّكن الأيمن. المشهدُ مرّ على شاشة النّافذة في صمت، كأنّه فيلم قديم بالأبيض والأسود. قبل أن يعود نصف الحراس للظهور، يدفعون الشاب الهارب أمامهم، يلطمونه على رأسه وظهره، ويديه موثقتين إلى الوراء. عند تلك اللحظة قمتُ وأخذتُ محفظتي وغادرتُ المكتب.
كان يوما عاديّا من أيّام الرّازي العاديّة.
***
لا حاجة لوضع تواريخ على هذه الشذرات. إنّي لا أنتظر، مّما أخطّه هنا، في هذا الوقت المُستَرَق، أن يصير كتابا. فليكن شيئا منهوشا. مزْقا مُكّدسا بلا ترتيب. هناك الكثير من الأشياء الأخرى التي شهِدتها في الرّازي، والتي لا تقل أهميّة عمّا قصصته إلى حدّ الآن، لكنّي لم أدوّنها. إمّا لأنّي نسيتها، وإمّا لأنّي لم أجد القوّة والوقت لفعل ذلك. هناك مثلا قصصٌ طويلة تقتضي نفَسا دوستويفسكيا لحكايتها. ولكن لا هذا زمان دوستويفسكي ولا أنا هو. في هذا العصر، وحدهم المجانين يقدرون على إنهاء رواية لدوستويفسكي دون أن ينتحروا أو يخرجوا للشارع لذبح أوّل من يقول لهم مساء الخير. لكن الرهان يبقى في كتابة نصّ دوستويافسكيّ في أقلّ من صفحة أو صفحتين. هذا هو التحدّي الذي سيقبله «المُقامر»، لو قدّر له أن يُولد في هذا العصر. كلّ ما يُمكن أن أقوله عن هذه الشذرات، هو أنّي بدأتُ كتابتها في فصل الشتاء، وهذا يعني الكثير بالنّسبة لي.
***
أعتقد أن الشيء الوحيد الذي نجحتُ فيه، أو لنقل نجحتُ في الحفاظ عليه بعد أكثر من أربع سنوات من العمل في مستشفى الرازي، هو بالتأكيد، قدرتي على الاندهاش.