أعمل في مستشفى الرازي، وهذا أمر سيئ للغاية. هنا لا يوجد مجانين. إنّهم آخر شيء تتوقع العثور عليه في هذا المكان. شخصيّاً، لم أقابل إلا القليلين جداً. في المقابل، فإن هناك الكثير من البؤساء. هناك أناسٌ جائعون، وأناس عراة، ومدمنون، وآخرون فارون من جحيم العمل والعائلة والزواج... والجنون. المكان موحش ويبعث على الاكتئاب، وتنبعث من أقسامه رائحة تبغ محلول في البول. وإن كان للمرض النفسي من «رائحة»، فتأكد أنّها حتماً ما ينبعث من أعقاب السّجائر المنقوعة في البول. منذ قليل قابلتُ مُحمد علي، شاب فصامي كان يبتسم لي كلما يراني. ابتسامة محمد شيء يستحق أن يواصل المرء العمل لأجله في مستشفى الرازي. إنها ابتسامة فصامية. وحين يبتسم الفُصامي، فكأنما فجر ينبلج أو وليد يفتح عينيه للمرّة الأولى.
***
لقد تأكد لي، ولأكثر من مرّة، بأن بعض المرضى لا يحتاجون أدوية، ولا علاجاً نفسياً من أي نوع كان. هؤلاء، في الغالب، لا يتكلمون كثيرا، ولا يتجرّؤون على رفع أبصارهم نحوك، إلا ليتأكدوا من أنك لن تكيل لهم بصفعة. ولا طائل من دفعهم للكلام ليعترفوا لك بما يبدو جليّاً على أجسادهم، وتصرخ به نظراتهم. إنّ كلّ ما يحتاجه هؤلاء، إن كانوا نسوة أو مراهقين أو شيوخاً أو أطفالاً، هو تسليحهم، أو إلحاقهم بمدارس الفنون القتالية ليتعلموا كيفية الدفاع عن أنفسهم. إنَّ لاوعيهم ليخجل من نفسه ويشفق على دفاعاتهم النفسية ويتوقف عن ارباكهم، بمُجرّد أن يرى ما يتعرّضون إليه من ضرب فعلي، وإهانة، وقمع جسديّ يوميّ. في أكثر من مرّة، وددتُ لو ألقيتُ قبّعة النّفسانيّ وارتديت قفّازَي مُلاكمة، ورميتُ بأخرى للمريض، وطفقتُ أعلّمه كيف يرفع قبضتيه ليُدافع عن نفسه ويُتقن تسديد اللّكمات.
***
كان يبكي بلا توقف، حتى قبل أن يدخل المكتب. ثمّ مرّ إلى طور آخر أشد، لمّا أراح مؤخرته على الكرسي، وتأكد من خروج والده الذي صفق الباب خلفه. وحتى ذلك اليوم، لم أكن أعتقد أن شخصاً يُمكن أن يبكي بذلك الشكل. تغريدُه كان مُختلفاً عن كل ما شهدت من نُواح في مستشفى الرازي. باختصار، أعتقد أنّه كان إله البكاء، ولا حاجة لمزيد من الإطناب. كُنّا اثنين على الجهة الأخرى من المكتب، أنا، وزميلتي الطبيبة النفسية. يومها هممتُ بالمغادرة، لكنها رجتني أن أمكث معها قليلاً حتى تنتهي من معايدة ما تبقّى لها من مرضى، وقد فرغ القسم تقريباً. جاءت لمكتبي تحتمي بي لئلا ينفرد بها مريض هائج رفضت أن تصف له حبوب «الباركيزول» المُثيرة، فهدّدها بتشويه وجهها أو تهشيم زجاج سيارتها، وهذه قصّة أخرى قد أحكيها لاحقاً.
البَكّاء مرّ إلى السرعة القصوى. كان واضحاً أنّه مُصاب باكتئاب حاد. عيناه كانتا منتفختين من الدموع والأرق، فهو لم ينم منذ أكثر من أسبوعين. لكن الأخطر من ذلك كان تهديده الصريح بالانتحار. حِدّة القلق التي كانت بادية عليه، والطريقة الواضحة التي صرّح بأنه سينتحر بها، جعلتنا نُدرك أنّه لم يكن يمزح البتة. كان يُفكّر في الخروج من المكتب والتوجه مباشرة نحو القنال ليرمي بنفسه في التيّار. الأمر الإيجابي أنّ البَكّاء قبِل مباشرة بفكرة نزوله بالمستشفى للعلاج، أوّل ما اقترحنا عليه ذلك. كنّا نعتقد بأن الأمر حُسِم، وبأننا خلِصْنا يومها، ولم يبق غير ملء استمارات الإيواء، لمّا اقتحم والده المكتب، ليعلن رفضه ذلك الاجراء العلاجي. يبدو أنّه كان خلف الباب يسترق السّمع لما يُقال. ظهوره في المشهد جعل البكَّاء يرقى إلى مستويات أسطورية من البكاء. صرنا في الجحيم، وكل ما حولنا يبكي ويذرف الدّموع. ما إن تفرّستُ في والده حتى فهمتُ الأمر. وكنتُ لشدّة اهتمامي بالبَكّاء، أوّل ما دخل المكتب، لم أتفطن إلى أنّ الأب يستحق أيضاً كل الاهتمام. وجْهه يوحي بأنّه هو الآخر كان إلهاً سابقاً للبكاء، مع جفاف في العينين، يشير إلى أنّه بلغ سنّ اليأس منذ أمد طويل. وجهه كان نحيفاً، ممتقعاً، ميالاً نحو الطّول، وله أنف معقوف ولحية مُرسلة اختلط سوادها بالبياض. ملامحه كانت تبعث بحزن مُحيّر، كضرب من الكآبة المنحوتة بعمق على الجليد. كان أبرد حزن رأيته في حياتي. والواضح أنّه مُتديّن بشدّة، بل ناشط دعوي، فمنذ دخوله المكتب وهو يقصّ علينا حكاية النفوس التي أنقذها مذ كرّس حياته للدعوة لله. الأمور تأزّمت فجأة بشكل غير متوقّع. الأب لم يكن رافضاً لفكرة تناول ابنه دواء مّا، لكنّه يرفض رفضاً قطعيّاً نزوله في مستشفى الرّازي للعلاج. قال إنّه جرّب رُقيته، وسيُجرّب معه «الحِجامة» هذه المرّة، ورقية ثانية لو كلّف الأمر. وختم قائلاً بأننا نحن نداوي الأعصاب وهو يداوي النّفوس. في الأثناء، كان البكَّاء يحطّم أرقاماً قياسية. زميلتي الطبيبة بدأت تفقد صبرها واحتدت لهجتها وهي تُحاول بكل السّبل إقناع الأب الذي ازداد تمسّكاً بموقفه. كان قبوله بنزول ابنه بالمستشفى للعلاج يُعدّ إقراراً بفشله هو في علاجه. كان عِلمه في مواجهة علمنا، وطِبّه في مواجهة طبّنا. الأمر بات مسألة نرجسيّة. كنت أشعر بما كان يحسّ به من صراع داخلي، وكنتُ أتفهّم موقفه، رغم أنّه كان واضحاً بأنّه مستعد للتضحية بابنه لأجل إثبات وجهة نظره. بل إن كلّ وجوده هو كان على المحك. وبالرّغم من كثرة النفوس التي أنقذها من الضلال، طوال مسيرته الدّعويّة، إلاّ أنّه في هذه اللحظة عاجزٌ عن إنقاذ ابنه. زميلتي الطّبيبة كادت تنتف شعرها وهي تسمعه يقول بأنّه سيأخذ ابنه للركض والاستجمام في الجبل كلّ صباح، بعد صلاة الفجر.
«وماذا لو ألقى بنفسه من الجبل وانتحر؟» قالت مُحتدمة.
«سيدخل جهنّم خالداً فيها أبداً»، أجاب الأب، بكل برود. في الأثناء، كان البَكّاءُ يُحطّم أرقاماً قياسية جديدة.
«لقد جاوز سنّ البلوغ، إنّه الآن شاب راشد ومسؤول عن نفسه، وإن هو قرّر النزول في المستشفى فلن يقدر على منعه أحد».
«ما رضاء الله إلا برضاء الوالدين»، قال الأب في تحدٍّ، «وإن لم أكن راضياً عنه فلن يرضى عنه الله، ولن يرى الجنّة».
لن يرضى عنّي الله إن لم يرضَ هو، قال البَكّاء ناظراً نحو والده في يأس، ثم أجهش بالبكاء.
«لكنه سينتحر لو لم يبق هنا ويتلقى العلاج، وستكون المسؤول الوحيد عن ذلك»، قالت الطبيبة في تهديد مباشر، وهي تعلم أنّها لو تركته يغادر ومن ثم انتحر، فستكون المسؤولية على عاتقها.
«لو انتحر سيكون المسؤول، ولن يدخل الجنّة»، قال الأب في تعنّت.
«لو انتحرتُ ستكون أنتَ المسؤول، لأنّكَ كنتَ تستطيع إنقاذي ولم تفعل»، قال ثم أجهش بالبكاء.
«لو انتحرتَ فلن تدخل الجنّة، وستكون المسؤول»، قال مواصلاً في تعنته»، بنفس البرود.
«بل أنت المسؤول»، صاح الابن.
«في النّار»، قال الأب باقتضاب.
«ولكن...»
«في النّار...»
كان موقفاً مجنوناً لا نُحسد عليه. زميلتي بقيت مذهولة أمام الرّجلين اللذين واصلا جدالهما وقد نسيا وجودنا تماماً، وكل همّها وقتها كان مغادرة القسم في سلام، هي وسيّارتها. كان الأمر وكأن الولد انتحرَ وقام للحساب يوم القيامة هو ووالده، ولم يبق من المسألة غير أمر إجرائي بسيط يتعلق بتحديد المسؤولية. كنتُ لم أنبس بحرف منذ أن بدأت المقابلة، لكنّي عند ذلك الحدّ قرّرتُ أن أتدخل وأضع حدّاً لذلك العبث. وكنتُ أعوّل في ذلك على لحيتي الطويلة المهملة، وعن أسلوب حمزة في الحديث، لشدة ما كنتُ أقلّده في فيلم «الرّسالة» لمّا كنتُ صغيراً.
«أرجوكما»، صحتُ في حزم.
الاثنان صمتا، والتفتا نحوي، قبل أن يعود البَكّاء ويجهش بالبُكاء.
«تحسبونه شرّا، وهو خير لكم. وتحسبونه خيراً وهو شرّ لكم»، قلتُ بصوت رخيم، مصوّباً بصري نحو الأب الذي تيقظت حواسه وكأنه ينتبه لوجودي للمرة الأولى. ثم أضفتُ:
«إنّما الدّنيا أسباب، فالا تقنطوا من رحمة الله. وعلّ الله جعل شفاءه على أيدينا، فلا تحرمه من رحمة الله يا شيخ»، قلتُ مشدداً على الكلمات الأخيرة. وكما توقّعتُ، راح الشيخ الحزين يتفرس في ملامحي باحثاً في وجهي، بلهفة، عن بعض من نفسه، وكنتُ أثق في طول لحيتي المهملة. ثم إنّي أجهزتُ عليه بجملتين أخريين، كانت بعدها زميلتي الطبيبة تملأ استمارات القبول غير مُصدّقة، مسرعة قدر الإمكان حتى لا يتراجع الأب عن موافقته. أخيراً، غادروا المكتب جميعهم، زميلتي نحو سيّارتها، والأب نحو مكتب القبول ليُتمّم رفقة ابنه بقية الاجراءات. عند ذلك وقفتُ عند الباب وقلتُ بفتور:
«هيّا أخرج من تحت المكتب، أعلم أنك هناك، لقد لمحتُك قبل قليل».
سمعتُ جلبة صغيرة وضحكة مكتومة، لكن أحداً لم يظهر.
«دانتي»، عدتُ أتذمر، «أعلم أنّك هناك، هيّا أخرج أيّها اللّعين».
عند ذلك برز «دانتي آليغيري» من وراء المكتب، ونفض الغبار عن روبه الطّويل، ثم غادر المكتب يجرّ قبقابه الخشبي، وعلى وجهه ابتسامة شرّانيّة.
«وأنت أيضاً يجب أن تخرج»، قلتُ، «أعلم أنّك مُتورّط في الأمر، هذا إن لم تكن إحدى ألاعيبك منذ البداية».
هذه المرّة لم أسمع أيّ جلبة. فأسرعتُ نحو الخزانة الحائطية وفتحتها لأعثر على «المعرّي» مُتقرفصاً بجسمه النّحيل بين الأوراق والملفات.
«هيّا أخرج، انتهت اللعبة الآن»، قلتُ له، لكنّه تجاهلني. «هيّا وإلا سأنادي ناظر القسم»، صحتُ به هذه المرّة ولكزته على كتفه.
قفز المعرّي من مكانه وتوجه نحو باب المكتب فتعثر في بُرنسه حتى خلته للحظة سيسقط وينكب على وجهه. تقدّمتُ نحوه لأسنده، لكنّه هجاني ببيتين وغادر صافقاً الباب خلفه. أطلقتُ زفرة ارتياح وأخذتُ جرعة من كوب قهوتي التي بردت منذ صباح، ثم أخذت حقيبتي وغادرتُ المكتب. لم أبتعد عن المستشفى بسيارتي إلا بضعة أمتار، حتى لمحتُ «المعرّي» «ودانتي» يتسكعان عند محطّة الحافلة، يُسند كلاهما الآخر ويتهامسان كأنّما يُدبّران لأمر مّا.
يبدو أنّهما خرجا في نزهة.
***
اليوم أصبتُ بالذعر بعدما قابلتُ رجلاً أخضر. هذه ليست مزحة. الرجل الأخضر موجود فعلاً، وكان في مكتبي هذا الصباح بمُستشفى الرازي. إيّاكم والاعتقاد بأنه ذلك الذي عرفتموه في السينما الأميركية قادماً من المرّيخ، أو صاحب قوّة خارقة مثل «هولك» العجيب. كلا، الرّجل الأخضر الذي أصابني اليوم بالذعر، ووجدتني أضع في كفّه المُرتجفة والمُشققة، دون تردّد، كل المال الذي كان في حوزتي، كان صناعة محليّة؛ تونسيّ مئة بالمئة. الرّجل الأخضر لم يكن مُستعداً، وتحت أي سبب كان، لسماع كلمة واحدة من قبيل «علاج نفسي» أو «عقدة أوديب» أو حتى كلمة «تشخيص». لقد فاجأني في مكتبي دون موعد. وقف في معطفه الرّث وحذائه الغارق في الوحل، يقطر ماء، وكأنّما جِيء به للتّو من قبر كان يحفره في يوم هطلٍ. وخلفه وقفت إنسانة تُعاني من تأخر عقليّ عميق، وصَرع مُزمن. هي الأخرى كانت ترتجف، ولا أحسب أنّها كانت تُدرك لماذا. الرّجل الأخضر أنفق كل ما لديه من مال ليصل من قريته النّائية إلى مُستشفى الرّازي في هذا اليوم العاصف. وهذا لئلا يفوّت على ابنته موعدها الشهري الذي يُحضرها فيه لتجديد وصفة الدّواء. الرّجل الأخضر باغتني وارتمى على يدي يُقبّلها حين منحته كل ما كان بجيبي. هو لا يعلمُ بأنّي قمتُ بذلك من شدّة الذعر والخجل. وكنتُ مُستعدّاً لقطع يدي وإعطائه إيّاها لو طلبها. الرّجل الأخضر كان فقيراً فقراً فاحشاً. الفُحشُ، لا يُمكن أن يكون إلا الفقر، ولونه أخضر. كان أزرق من البرد والهم، وأصفر من الجوع والوهَن، وهذان الوغدان، إذا التقيا على رجل، يُصيّرانه أخضر اللّون.