الوباء الذي يفرج عن المعتقلين!

هذا اللقاء الثاني لسلمى ونادية. لم تتعرف سلمى على العينين الباردتين، لكن نادية تذكرت الوجه المتعب. علي كان شخصاً مشتركاً، فهو الحبيب النذل، وأيضاً القريب الذي يكتب عن الجثث الملقاة في براميل الزبالة.
2021-02-25

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
محمد القاسمي - المغرب

في الصباح، كانت هناك ثلاثة أحداث على مواقع التواصل الاجتماعي وفي تسجيلات الواتساب، وهي بالضرروة ستصل إلى يد وسمع وبصر الأشخاص العاديين من مستخدمي التكنولوجيا، حيث أنه ليس "بالضرورة" أن يكون المرء مطلعاً على منشورات الصحف الإلكترونية بأسمائها الوطنية، وكون الصحافة الورقية قد انقرضت باكراً من البلد. كان الكهول يكافحون في سبيل قراءة الأخبار على شاشات الهواتف المحمولة، الصغيرة، والتي لا يفهمون تقنيتها. ومن بين هؤلاء كان والد سلمى الذي تحصّل هاتفاً ذكياً من وقت قريب، وكان ابنه المراهق، مرافقاً دائماً، يقدم الإرشادات، ويقرأ الإشاعات، ويدله على المواقع، ويرسل إليه بالروابط الإلكترونية للمجلات والصحف التي اعتاد الأب أن يقرأها في الزمن الذي كان قادراً فيه على تحمّل كلفتها. وقد أذهل ذلك الأب لدرجة أنه كان يضحك من السعادة، وبدأ يحلم بالمولد الكهربائي، أو لوح الطاقة الشمسية الذي سيجعل هاتفه مضاءً دوماً. ومع هذا فقد حلّت أيام كره فيها الأب تلك المعرفة، كذلك الأحد الذي افتتح فيه الأسبوع بأحداث ثلاثة.

الخبر الأول كان عن استحداث وظيفة قاضٍ "بنكي"، مهمته أن يجبر البنوك تحت قوة السلاح، بأن تمنح السلطات كشوفات كاملة عن الحسابات البنكية التي تبدأ من ستة أرقام، والتي تكون بالعملة الصعبة. وحالما يعطي البنك تلك الكشوفات للقاضي ذي "الجنبية" الكبيرة، يقرر القاضي أن ذلك الرجل صاحب الحساب هو خائن للوطن، أو فاسد، أو معتد، أو ميت. بالطبع ما لم يكن واحداً من السلطات نفسها. ثم بعد أن يصدر حكمه عليه، يقوم البنك، أيضاً تحت قوة الكلمة المحمية بالسلاح بتحويل تلك الأموال إلى حسابات أخرى تملكها السلطات.

أما الثاني فهو تسجيل صوتي يبدأ من مدينة على ساحل خليج العرب، ويتجول حول العالم، لرجل من خارج البلد، وآخر من مدينة غير التي تقع على الساحل، يقول فيه الرجل الذي من خارج البلد، وله كل السلطة بلهجته المفخّمة البغيضة، إن الإعلاميات هنَّ إما شراميط أو جاسوسات، وأنه في كلتا الحالتين يجب عليهنَّ الرحيل من هذه المدينة الوادعة التي تقع على الساحل الذهبي، والتي تخص الرجل الذي من خارج البلد، وتخص الآخر الذي من خارج المدينة. ثم يقترح عرضاً أن يخضعوا المعنية للتحقيق، فيقترح عليه الرجل الذي من خارج المدينة بأنه لا داعي للقلق بشأنها، وبأنه سيرسل ثلّةً من الشباب الأشداء "ليغتصبوها"، فتنشغل بأمر آخر غير الحديث على التلفزيون. يغضب الرجل من خارج البلد، ويقول بلهجته السميكة إنه لن يقبل قط أن تغتصب السيدة قبل أن تخضع للتحقيق في الشاليه "عنده" وأمامه، ويكرر بلهجة آمرة أن يحضروها قبلاً، ثم يغتصبوها بعد ذلك كيفما أرادوا، لكن البداية ستكون له هو. يجيبه الرجل من خارج المدينة: بالتأكيد!

وأخيراً حدثان متزامنان وقعا بنفس الدقيقة، لكن في مكانين مختلفين تماماً، وعبر فاعلين أعداء. في الحدث الأول في مدينة مزدحمة بالسكان العِطاش، قتل قناص خمسة أطفال بين الرابعة والعاشرة، كانوا يتحلقون حول إطار سيارة، وقد اخترقت الرصاصات رؤوس الأطفال بفارق زمني قدره عشرون ثانية لكل رصاصة، مما يدل على مهارة القناص التي لا مثيل لها. وفي الحدث الثاني في مدينة جبلية تجمد ساكنوها من البرد، قصفت طائرة "طائشة" سوقاً مزدحماً، وهرست في قصفها لحوم الباعة والمشترين مع الأبقار والأغنام والكلاب الشاردة. التقط والد سلمى صورةً لرجل كانت ساق بقرة قد التحمت بأحشائه. أفاد الخبر بأنه كان تصرفاً "وفق إحداثيات صحيحة مئة في المئة بأن السوق هو ثكنة عسكرية". وبجانب الخبر شاهد والد سلمى – مصعوقاً - وجهاً أصفرَ صغيراً يفتح عينيه بدهشة.

في الأخبار أنه استحدِثت وظيفة قاضٍ "بنكي"، مهمته أن يجبر البنوك تحت قوة السلاح، بأن تمنح السلطات كشوفات كاملة عن الحسابات البنكية التي تبدأ من ستة أرقام، والتي تكون بالعملة الصعبة. وحالما يعطي البنك تلك الكشوفات للقاضي ذي "الجنبية" الكبيرة، يقرر القاضي أن ذلك الرجل صاحب الحساب هو خائن للوطن، أو فاسد، أو معتد، أو ميت.

قال الرجل أن الإعلاميات هنَّ إما شراميط أو جاسوسات، وأنه يجب عليهنَّ الرحيل من هذه المدينة الوادعة التي تقع على الساحل الذهبي. ثم يقترح عرَضاً أن يخضعوا المعنية للتحقيق، وبأنه لا داعي للقلق بشأنها، وسيرسل ثلّةً من الشباب الأشداء "ليغتصبوها"، فتنشغل بأمر آخر غير الحديث على التلفزيون.

يسأل المراهق والده باستغراب حقيقي، بأن ما الفائدة التي يجنيها المتقاتلون من قنص الأطفال الصغار؟ ولماذا يبدو الجميع متأثراً هذه المرة؟ فكل يوم يقنص المسلحون "الميليشاويون" عشرات الأطفال على الحدود الفاصلة؟

لا يرد عليه الأب، لأنه لا إجابة لديه، فيفكر الفتى، ويبتسم دون قصد:

- ربما لأنه القناص الفائز بأسرع تتابع للرصاصات.

قبيل الظهر، استلمت وداد رسالة طويلة شيئاً ما، ومكتوبة بلغة جميلة حية ومدهشة. تقول الرسالة المرسلة من فتاة باسم سلمى، إنها تريد أن تكون جزءاً من مبادرة البحث عن الجثث والمفقودين، وأن سببها شخصي للغاية، لديها عزيز اختفى منذ فترة، لا تعرف أين، ولا كيف؟ ولا أحد في الحقيقة يعرف، لكنها تعرف أن السبب قد يكون ما يكتبه. فهو يكتب عن أي شيء دون مراعاة لمشاعر الجهات المتصارعة. تقول المرسلة، سلمى، إن هذا الشخص أحمق وقصير النظر، علاوةً على أنه نحيل بشكل مقلق، لذا سيموت لا محالة إن تعرض للتعذيب أو التجويع. وأضافت أنها لا تعرف كيف تشتغل هذه المبادرة، لكنها تريد المشاركة. وأضافت بصراحة أن لا متسع من المال لديها، لكن لديها الإرادة التي ربما ستكون كافية.

امتلأت وداد تأثراً بالرسالة، كانت قد ابتدأت مبادرتها التي التحق فيها كثيرون، ليس بالضرورة من مجاميع كتاب لكل أسبوع وأغنية لكل يوم، لكن أشخاصاً آخرين أرادوا أن يعيدوا جثث من فقدوهم إلى قراهم، ليدفنوهم هناك. وداد التي كانت جاهلةً حتى بجغرافيا البلد نفسها، بأسماء المدن والقرى، بالطرقات والمنحدرات، وجدت نفسها تكافح جهلها، وتصرف وقتاً أكثر مما توقعت على هذا الجانب.

كانت نادية تجلس بجانب وداد حين وصلتها رسالة سلمى، قرأت وداد الرسالة بصوت عال، فنصحتها نادية بأن تطلب مقابلتها لأن هذا قد يكون فخاً. قالت لها: اطلبي منها أن تقابلنا، سنتعرف عليها، وعلى حبيبها المختفي! نفّذت وداد الاقتراح، وبعثت لسلمى تطلب منها أن تقابلها في المقهى نفسه الذي قابلت فيه علي تلك الليلة البائسة، حين هجم المسلحون حرّاس الفضيلة على المكان. بالنسبة لوداد فهذا هو أفضل الأماكن وأكثرها أماناً، وبالنسبة لنادية، قلق جديد تخشى فيه أن يراها أخوها ويفتعل مشكلةً، وبالنسبة لسلمى، هذا هو المكان الذي لن تطأه قدماها مرةً أخرى. الحديقة الهندية.. اقترحت سلمى بحسم.

قبيل الظهر، استلمت وداد رسالة طويلة شيئاً ما، ومكتوبة بلغة جميلة حية ومدهشة. تقول الرسالة المرسلة من فتاة باسم سلمى، إنها تريد أن تكون جزءاً من مبادرة البحث عن الجثث والمفقودين، وأن سببها شخصي للغاية، لديها عزيز اختفى منذ فترة، لا تعرف أين، ولا كيف؟ ولا أحد في الحقيقة يعرف، لكنها تعرف أن السبب قد يكون ما يكتبه.

في العصرية، عبرت الفتاتان بعجوز الحديقة على كرسيه، كان مشغولاً بمذياعه، بعثت وداد برسالة للمدعوة سلمى التي تبحث عن حبيب اختفى، وأعلمتها أنها بانتظارها في الحديقة بجانب بائع غزل البنات، ردت عليها سلمى بأنها قادمة إليها.

السماء التي كانت صافية، كانت باردةً أيضاً، والأشجار التي تزين الحديقة تساقطت أوراقها، وأزهار الجهنمية الحمراء التي تسلقت السور المقابل للبوابة كانت ذابلةً، فتاة تجلس مقابل شاب ارتدت "جاكيتاً" من الجينز، وفتاة تسير وحيدةً، لكنها تحمل وردة حمراء. غير بعيد كانت أصوات أغنية محلية حزينة يتردد صداها، وعبر سرب طيور السماء، "يبدو أنها تهاجر".

 فكرت سلمى، وتأنت في ذهابها لتقابل الفتاتين، وهي لا تعرف بعد من ستقابل، ولا ماذا ستقول، لم تكن لديها ذرة ثقة في نفسها، ولم تعرف إن كانت ستؤخذ على محمل الجد أم لا.

بجانب عربة غزل البنات والبائع الشاب، وقفت فتاتان كلتاهما ترتديان النقاب مثل سلمى، إحداهما تبدو أغنى من الأخرى، يمكن للمرء أن يستنتج ذلك من شكل عبائتها، ومن نعومة يديها اللتين تلوح بهما وهي تتحدث. لم تكن سلمى تتوقعهما منقبتين، لذا أبقت احتمال أنهما الفتاتان الخطأ، وربما التي ستعود بالجثث في مكان آخر لوحدها، لكنها حين اقتربت وتلاقت الأعين، صار واضحاً أن زوجي عيون هما لعائدة بالجثث، وزوجين للباحثة عن الحبيب المفقود.

في المساء، كانت سلمى تتصفح الخبر الذي يقول إن السلطات المختلفة في الأشطار المتجاورة، قررت الإفراج عن بعض من السجناء بسبب موجة الوباء التي ضربت السجون والمعتقلات، وقتلت من يفترض بهم أن يظلوا أحياء.

رفعت الفتيات نقاباتهنَّ تحت شجرة منعزلة، وخلال حديث سلمى عن علي، اتضحت حقيقتان:

- هذا اللقاء الثاني لسلمى ونادية. لم تتعرف سلمى على العينين الباردتين، لكن نادية تذكرت الوجه المتعب.

- علي كان شخصاً مشتركاً، فهو الحبيب النذل، وأيضاً القريب الذي يكتب عن الجثث الملقاة في براميل الزبالة.

لم تصب الدهشة صاحبات الأمر، لكنها أصابت وداد، التي استدارت لنادية، وهي تبلغها كأنما باعتذار: على فكرة، لم أجد وقتاً لأخبرك، لكني عرفت اليوم أنهم سيفرجون عن معتقلين بسبب تفشي الوباء في السجون، وهذا الأمر اعتمدته كافة السلطات في كافة الأشطار.

هنا أشرق الوجهان الكابيان، ودق قلب سلمى، وهي تراقب سرباً آخر من الطيور المهاجرة، وتعجبت كيف يمكن لجزء من الثانية أن يكون كافياً لحلم يقظة يتّسع لحياة. كان علي هناك وكان حياً وكان آسفاً، وكانت هي قد وجدت معنى لحياتها.

في المساء، كانت سلمى تتصفح الخبر الذي يقول إن السلطات المختلفة في الأشطار المتجاورة، قررت الإفراج عن بعض من السجناء بسبب موجة الوباء التي ضربت السجون والمعتقلات، وقتلت من يفترض بهم أن يظلوا أحياء. يقول الخبر: إن كان لديك سجين بجنحة بسيطة أو معتقل بالخطأ أو بتهمة لا وجود لها في العالم، فيجب عليك أن تبدأ بمراجعة الكشوفات المنشورة على الموقع التالي، قد يحالفك الحظ وتجد اسم قريبك وتخرجه بعد أن تدفع كفالة.

في منتصف الليل، شوقي الذي كان يهتم بنظافة الحمام المشترك حين كان علي يشاركه الغرفة، يتسلم رسالة من سلمى تخبره أنها قد وجدت اسم علي في كشوفات المفرج عنهم، وأنها تحتاج لمساعدته. ارتعشت يداه، وقفز من مكانه شاكراً الوباء ومقبّلاً الهاتف. وغير بعيد، خلف هضبة واطئة، بكت سلمى من الغضب والسعادة، بينما جلس أخوها عند قدميها ينتظرها أن تروي له الحكاية التي جعلت منها غريبة تماماً:

- هذه المرة لن يفوتني أي تفصيل! 

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة الثامنة
الحلقة التاسعة
الحلقة العاشرة
الحلقة الحادية عشر
الحلقة الثانية عشر
الحلقة الثالثة عشر
الحلقة الرابعة عشر
الحلقة الخامسة عشر
الحلقة السادسة عشر
الحلقة السابعة عشر
الحلقة الثامنة عشر
الحلقة التاسعة عشر
الحلقة العشرون

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...