الإسلامية السائلة: موسم الهجرة إلى "السلفية المعاصرة"

لا يُختزل التيار السلفي بوجهة واحدة، فهو تيار جامع لتوجّهات وأفكار ومناهج وأسماء مختلفة. أما السلفيّة التي نقصدها هنا فهي حالة وليس تنظيم، تيار جامع لعدد من الشيوخ، يرعى المناهج التعليمية لعلوم فقهية متعددة برفقة عدد كبير من الطلاب ومريدي التعلّم المنهجي لتلك العلوم. وقد اكتسبت تلك السلفية مؤخراً شهرةً كبيرةً بين هؤلاء وصارت حاضرةً في الاجتماع الافتراضي.
2021-02-24

أحمد عبد الحليم

صحافي من مصر


شارك
عبد الله العجيري، إبراهيم السكران وأحمد يوسف السيد

هكذا تغيرت الأحوال! شباب استبدل اللقاءات التربوية الخماسية الهشة عند الإخوان المسلمين، بمقاطع الفيديو التدريسية - العميقة برأيهم - للمهندس أيمن عبد الرحيم، أو للشيخ إبراهيم السكران، بالتوازي مع تيار إسلامي مهتم بالرد على "أعاصير الإلحاد" و"الدفاع عن الإسلام".

 ربما لم يسمع معظم شباب الإسلام التقليدي من ذوي المعرفة البسيطة عما هو الإلحاد، لكنه تعرّف مؤخراً على ما يعنيه من علماء بمرجعية سلفية تتمثل في محمد العوضي، إياد قنيبي، هشام عزمي وغيرهم، فضلاً عن عدد من المنصّات الرائدة التي جذبت الكثير من الشباب المهاجر من اتجاهات إسلامية متنوعة، إلى الإسلامية السلفية الافتراضية المعاصرة.

من نقصد؟

من غير الممكن أن نختزل التيار السلفيّ في مصر، أو في المنطقة، بوجهة واحدة، فهو تيار جامع لتوجّهات وأفكار ومناهج وأسماء مختلفة. مثل السلفيّة الحركية، العلميّة التقليدية، المدخلية، الجهادية، الإصلاحية... كل تيّار منها له أفكاره ونصوصه وشخصياته المرجعية، وبينها العديد من الاختلافات والخلافات في المناهج التي يتعاطون بها في عملهم الدعوي والتنظيمي والمنهجي.

تناولت عدّة دراسات السلفية، وسياقاتها الفكريّة والمنهجية والتاريخية (1) ، أما السلفيّة التي نقصدها هنا فهي حالة وليس تنظيم، تيار جامع لعدد من الشيوخ ترعى المناهج التعليمية لعدد من منصّات ودورات العلوم الإسلامية، برفقة عدد كبير من الطلاب ومريدي التعلّم المنهجي لتلك العلوم. وقد اكتسبت مؤخراً شهرةً كبيرةً بين هؤلاء وصارت حاضرةً في الاجتماع الافتراضي.

من هم "المهاجرون"؟

- اليائسون من الإخوان

تركت جماعة الإخوان شبابها في حالة عالية من التيه التنظيمي والمنهجي، خصوصاً بعدما أحكمت أجهزة الأمن المصرية قبضتها على أي فعالية تنظيمية يمارسها الإخوان بعد تموز/ يوليو عام 2013. فكان مصير الشباب الذي لم تُغيّبه المعتقلات إما السفر، أو حتى التيه وسط الاجتماعات الفكرية المتباينة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بلا أي غذاء فكري أو سياسي أو وروحي يعيش عليه، ولذلك كان البديهي للبعض منهم الهجرة إلى المجموعات السلفيّة (2) .

- التائبون من البراغماتية

كان "حزب النور" مثالاً حياً على السلفية البراغماتية التي تبدّل مواقفها وتتغيّر ألوانها كالحرباء من أجل المصالح. فمن تحالف الكتلة الإسلامية عام 2011، مروراً بالصداقة مع الإخوان عام 2012، وحتى الوقوف مع الانقلاب العسكري منتصف عام 2013، بل ووصفهم بعد ذلك بأشد النعوت "الشرعية"، بمقابل تمجيدهم للحكم العسكري في مصر مستخدمين تبريرات وتأويلات منسوبة إلى القرآن والسنة... كلّ هذا جعل البعض من المنتمين والمؤيدين للحزب والدعوة يقفزون من مركب النور، معارضين للمواقف الدينية والسياسية للحزب، ومتجهين إلى سلفيّة أكثر اتزاناً وثباتاً بشأن الحاكم والسلطة (3) .

- العائدون من الجهادية

بعد القضاء على "تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق" (داعش) ، تخلّى عنه الكثير من الشباب المتحمّس للانخراط في الحركة السلفية الجهادية، وحتى النقاشات على فيسبوك وتويتر حول مشروعية، ووجود الدولة الإسلامية انعدمت، كما انتهت المعارك، ومعها الأفلام التسجيلية التي كان يبثها التنظيم لأغراض الدعاية والاستعراض، ما دفع الكثير من اليائسين من فكرة الجهاد إلى التوجه إلى سلفيّة افتراضية معاصرة، لا تؤيد الحكام أو السلطة، بل جلَّ تركيزها على إحياء التراث، ومجابهة الإلحاد، وفضح فظاعات الحداثة الغربية من تاريخ استعماري وحشي، وانتقاد للثورة الجنسية الغربية، فضلاً عن المراجعات الفكرية التي تتميز بديناميّة عالية بين كثير من العائدين.

- التقليديون في التديّن

التقليديون في الإسلام، هم الذين يمارسون شعائرهم بشكل منتظم إلى حد كبير، وتلك الفئة موجودة في الحالة الطبيعية للمجتمع المصري، وغالباً ما تكون أقرب إلى الاندماج داخل جماعة الإخوان، في الحضر والريف (4) .

من الممكن مرور بعض الشباب بتلك المراحل المنهجية والتنظيمية والفكرية سابقة الذكر، فالبعض من شباب الإخوان قد التحقوا بالتنظيمات الجهادية، ومن ثمّ بالسلفية الافتراضية، وصولاً واستقراراً عند التقليدية. كما لا نستطيع أن نحدد النسب المتنقلة من وإلى الممارسات السابقة.

الدافع النفسي والاجتماعي للهجرة

تدريجياً، وبدايةً من تموز/ يوليو 2013، وحتى وقتنا الحالي، تمّ التضييق على الفضاءات والملتقيات الفكرية غير الرسمية، ولا تسمح السلطة الحالية إلا لفضاءات معينة بمناقشة المنهجيات الإسلامية والتديّنية بشكل رسمي عبر الأزهر الشريف ودار الإفتاء، بل هي تحاول بشتّى الطرق تشكيل الخطاب الصادر منهما على مقاس سياستها الداخلية والخارجية، لتضفي بعداً دينياً عاطفياً يخاطب الكثيرين، بالإضافة إلى بعض المساحات التي تمررها الدولة لمؤسسات وهيئات علمية تابعة للأزهر، أو حتى لجماعات دعوية محايدة أو موالية للسلطة كـ"جماعة التبليغ والدعوة" و"حزب النور" والمتصوّفة. لذا لم تكن المدارس والحلقات التعليمية كافيةً لكمّ الشباب الهائل المقبل على تعلم الأدوات الشرعية من فقه وتاريخ وفلسفة إسلامية، فضلاً عن اقتصار تلك المساحات القليلة على محافظتيّ القاهرة والإسكندرية، مثل MOIC شيخ العمود رواد الحضارة، مما يصعّب على شباب المحافظات الأخرى الذهاب للتعلم.

أصبح الفضاء الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي هو البديل الوحيد. وجدت تلك العقول والأجساد مادتها الجاهزة للتبنّي، وتنظيمها السائل، الذي لا يقف عند جغرافيا محددة، بل يسع الكثير من التائهين الذين يبحثون عن الإشباع النفسي الذاتي للتعلم، وخصوصاً بعد طرح أسئلة الوجود و"انتصار الشر" و"هزيمة الخير"، بالإضافة إلى حاضنة اجتماعية جديدة. ترافق ذلك مع ظهور عشرات الشخصيات ممن اعتبرها "قدوة" متديّنة ومثقفة، ينتظرون الآلاف من المريدين، عوضاً عمن سقطوا من الأنظار في وقت سابق. وهم اشتبكوا مع الفقه والفلسفة الإسلامية أمام هؤلاء الشباب الذين تعرّى جهلهم وقتها، فباتوا يبحثون عن لباس يغطي هذا العريّ.

مقالات ذات صلة

صار الكثير من هؤلاء يتابعون برامج "سلسلة اليقين" الذي يقدّمها الدكتور إياد قنيبي، وحلقات أخرى يقدّمها الكويتي محمد العوضي، والسعودي عبد الله العجيري، فضلاً عن متابعة الإصدارات الكتابية والمرئية لعدة منابر بحثية مثل "مركز رواسخ" الكويتي، موقع "السبيل" الأردني، مركز "اليقين" في مصر، مركز "تكوين" في السعودية، ومتابعة مقاطع فيديو كرتونية على يوتيوب "قناة طحالب". تحصد تلك القنوات والإصدارات ملايين المشاهدات، ما حقق لها شهرةً على نطاق واسع عند مختلف الإسلاميين.

هناك عدة منصات تقدم مساقات في الفقه والعقيدة والتاريخ والفلسفة الإسلامية، وكلّ عام تأتي آلاف من طلبات الالتحاق بالمناهج الدراسية لتلك المنصات، ويتمّ الاحتفاء النفسي والاجتماعي بشكل كبير من مريدي التعلّم المنهجي للعلوم الإنسانية والشرعية. 

لم يقتصر الأمر على المشاهدة وتكوين قدوة حسنة، ومخيال فكري عن طريق المتابعة فقط، بل وفّرت تلك الصحوة الافتراضية عدة منصات لتكون بديلاً تعليمياً افتراضياً للآلاف من الشباب، مثل صناعة المحاور، أكاديمية مساق، أكاديمية زاد، برنامج البناء المنهجي.. وهم يقدّمون عدّة مساقات في الفقه والعقيدة والتاريخ والفلسفة الإسلامية، وكلّ عام تأتي آلاف من طلبات الالتحاق بالمناهج الدراسية لتلك المنصات، ويتمّ الاحتفاء النفسي والاجتماعي بشكل كبير من مريدي التعلّم المنهجي للعلوم الإنسانية والشرعية.

ماذا بعد الهجرة؟

لم يتوفر أيّ بديل إسلامي سوى السلفية، التي - عدا الجهادية - لم تنخرط في صدام الإسلاميين مع النظام المصري بعد تموز/ يوليو 2013، ولذلك فهي تمتلك ماكينة بشرية شبابية. ولدى السلفية باختلاف أماكن وجودها من مصر، السعودية، الأردن، لبنان، إلى الكويت، تراث متين وواضح. تراث يستند إلى ابن تيميّة وابن القيّم وغيرهم من الأعلام الإسلامية القديمة والوسطى والحديثة، كما انفتحت تلك المناهج الموضوعة حديثاً على الدراسات الغربية حول الإسلام وعلومه.

لم يتخلَّ هذا التيار عن إسلامويته، أي أن ابتعاده عن الأفق السياسي التنظيمي لم يجعله "ما بعد إسلاموي"، بل هو في صلب الإسلاموية ومشروعها الفكري والسياسي والاجتماعي، ولكنها إسلاموية بلا تنظيم، وبلا خيال سياسي. ذئاب إلكترونية منفردة، احتواها تيار صاعد على أسس قديمة ومناهج جديدة ومناخ نفسي واجتماعي يلبي احتياجات المنتسبين (5).

تلك "الهجرة"، وبرؤية مبتعدة تماماً عن الأيديولوجيا، يكمن انتقادها في أنّها هجرة سائلة، جاءت نتيجة لظروف ومتغيرات الواقع، وغياب تنظيمات موجودة في الواقع، كتنظيم الإخوان المسلمين. لذلك هي هجرة تعليمية مستندة إلى غياب الحضن النفسي والاجتماعي لهؤلاء. فيطرح سؤال ماذا بعد الانتهاء من الدراسة؟ التيار التعليمي تنتهي مدته، ما يساعد على تيه البعض مرة أخرى، في حالة أنّه لم يكن يعرف ماذا يريد بالأساس، فتتحول المعرفة والانتماءات لديه لأشياء ليس لها أصل، وربما تحتضنه اجتماعات أخرى تكون متناقضة بالأصل مع الاجتماع الماضي.

مقالات ذات صلة

مرة أخرى، يلبس المنتسبون لهذا التيار، كعادة بعض الإسلاميين ثياب الاغتراب والتفرّد، فيظن واحدهم بعد دخوله للاجتماع السلفي المعاصر، أنّه وحيد في وسط المجتمع الذي يعيش فيه، ويبدأ الانعزال تدريجياً عن الاجتماعات التي تنتمي إلى تياراتٍ أخرى، بالضرورة غير إسلامية، بل ويبدأ في أحيان أخرى في معاداتها. التفرّد، بمعنى التميّز عن بقية الاجتماعات، سمة طالما لوحظت وانتقدت خاصةً عند الفتيات قديماً من الأخوات المسلمات اللواتي ظنن أنهنَّ، بلباسهنَّ وانتمائهنَّ لتنظيم إسلامي، متميزات عن غيرهنَّ من الفتيات اللامنتميات. ويطرح كذلك تكرار أزمة تقديس الكيانات والبرامج والأشخاص التي كثيراً ما تورّط فيها المنتسبون للتيارات الإسلامية.

ابتعاد هذا التيار عن الأفق السياسي التنظيمي لم يعنِ تخليه عن اسلامويته، ولم يجعله "ما بعد إسلاموي"، بل هو في صلب الإسلاموية ومشروعها الفكري والسياسي والاجتماعي، ولكنها إسلاموية بلا تنظيم، وبلا خيال سياسي. ذئاب إلكترونية منفردة، احتواها تيار صاعد على أسس قديمة ومناهج جديدة ومناخ نفسي واجتماعي يلبي احتياجات المنتسبين

لم ينضم إلى هذا التيار كلُّ التقليديين أو اليائسين من الإخوان أو التائبين من السلفية البراغماتية أو العائدين من الجهادية. بل ربما كفرت الغالبية من تلك الفئات، بما هو سياسي وفكري وتعليمي وتديّني، وسعت نحو تأمين معيشتها الاقتصادية فقط، بعيداً عن أي نمط من التديّن، ساعينَ إلى الانخراط داخل اهتمامات واجتماعات أخرى.  

______________

1  - ومنها "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟" للباحث عزمي بشارة، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2018، ودراسة للباحث الفرنسي ستيفان لاكروا بعنوان "مصر: السلفيون البراغماتيون" صدر عن مركز كارنيغي للشرق الاوسط 2016

2- أحمد عبد الحليم، "شباب الإخوان المسلمين: الجيل الثاني من المنشقّين"، المعهد المصري للدراسات، تشرين الثاني/ نوفمبر 2019.

3- محمد توفيق، "السلفيون في معادلة الثورة المضادة في مصر"، المعهد المصري للدراسات، تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.

4- محمود هدهود، "الأمس لا يموت أبداً: كيف يستمر الإسلام السياسي رغم إخفاقه؟"، "معهد العالم للدراسات"، القاهرة، حزيران/ يونيو 2018.

5- "ما بعد الإسلاموية" هو مصطلح أطلق بدلاً من الإسلاموية، ليعبّر عن المرحلة التي سعت فيها حركات الإسلام السياسي إلى الانتقال إلى دوائر الحكم وخوض الصراعات الديمقراطية والسياسية. للمزيد. حول المفهوم وتاريخه وسياقاته وتجاربه. يمكن الرجوع إلى كتاب الباحث الإيراني- الأمريكي آصف بيات، "ما بعد الإسلاموية، الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي"، ترجمة محمد العربي، 2016، صادر عن "جداول للطباعة والنشر"، بيروت. وهناك أيضاً كتاب "ما بعد الإسلام السياسي: مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية"، وهو لمجموعة مؤلفين، تحرير محمد أبو رمان، 2019، صادر عن مؤسسة فريدريش إيبرت، الأردن. 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه