لا يمرّ يوم دون أن تتطرّقَ الصحافة في الجزائر والمغرب، بصورة أو بأخرى، إلى مسألة الحدود البرية المغلقة بين البلدين منذ أكثر من 19 عاماً. ويمكن القولُ دون مبالغة إنّ فتحَها أصبح أشبه بهاجس من هواجس السلطات المغربية، خاصة وأن الملك محمد السادس نفسَه طالب به في أكثر من خطاب.ويُذكر أن الجزائر أغلقت هذه الحدود في 1994 ردّا على فرض السلطات المغربية طلبَ تأشيرة على الجزائريين الراغبين في السفر إلى المغرب، بعد اتّهامها جهاز المخابرات الجزائري بالتورّط في تفجير إرهابي هزّ مدينة مراكش في 24 آب/أغسطس 1994، ثم أثبت تحقيق فرنسي مواز بطلان التهمة وأن الجناةَ ينتمون إلى جماعة إسلامية مسلحة. ورافق قرار وقف الحركة الحدودية بصورة تامة اشتراطُ حصول المغاربة القادمين إلى الجزائر على تأشيرة "عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل" كما قالت الدبلوماسية الجزائرية آنذاك.
وتعترف السلطات المغربية ضمنيا بأن دوافعَ رغبتها في فتح الحدود اقتصادية بالأساس، لخّصها وزير السياحة المغربي، لحسن حداد، في 18 تشرين الاول/أكتوبر الماضي، بقوله إن انعدامَ التكامل الاقتصادي المغاربي يحرم الناتجَ المحلي الخام للدول المغاربية من نسبة نمو قدرُها 2 في المئة سنويا. ويبدو جليا أن آمال المسؤولين المغاربة معلّقة على إتباع تحرير حركة الأشخاص (الذي سيستفيد منه القطاع الثالث بشكل رئيسي) بتحرير حركة البضائع والرساميل، ما سيفتح لكبار الرأسماليين المغاربة آفاقا أرحبَ من أفق السوق المحلية الضيق (33 مليون نسمة). وقد لخص الاقتصادي المغربي فؤاد عبد المومني هذه الآمال بقوله، في حديث أجرته معه مجلة Tel Quel الأسبوعية المغربية (2 تموز/يوليو 2013) : "ليس المغرب الكبير بالنسبة للجزائر أمرا مستعجلا بالنظر إلى ما راكَمته في السنوات الأخيرة من عوائدَ نفطية وغازية، ما ليس حالَ المملكة المغربية. لست أدري في الأزمة العالمية الحالية كيف سيمكنها الخروجُ من الوضع التي هي فيه إذا لم (...) تستثمر مجالَ التعاون الاقتصادي الإقليمي". ويتمثل "الوضع" الذي يشير إليه فؤاد عبد المومني في تباطؤ نموّ الناتج المحلي الخام المغربي (2،7 في المئة في 2012) - ما يفسِّره جزئيا تراجعُ الطلب الأوروبي على المنتجات المغربية - وفي استمرار عجز الميزانية (7،1 في المئة من الناتج المحلي الخام السنة الماضية) تحت وطأة تكاليف دعم السلع الأساسية (17 في المئة من مجموع الإنفاق العمومي) وكذا في ركود الطلب الداخلي (زاد بـ 3 في المئة فقط في 2012 مقابل 5،7 في المئة في 2011) في ظرف ينبغي فيه، بالعكس، أن يرتفع لتعويض تراجع الطلب الخارجي. ويؤجج هذا الوضع المقلق رغبةَ بعض القطاعات الرأسمالية في توسيع نشاطها إلى سوق جديدة قريبة، السوق الجزائرية، قوامُها 37 مليون نسمة، خاصة أنّ متوسّط المداخيل في الجزائر أعلى منه في المغرب (حصة الجزائري من الدخل الوطني الخام هي 283 دولار شهريا، حسب إحصائيات البنك الدولي، في حين لا تتجاوز حصةُ المغربي 185 دولار).ولا يمكننا ونحن نتطرّق إلى الآثار الإيجابية "للتطبيع الحدودي" بين الجزائر والمغرب على الاقتصاد المغربي أن نهمل حلمَ الشركات السياحية المغربية (والأجنبية العاملة في المملكة) بجذب قسم من السيّاح الجزائريين الذين يقضون عطلَهم في تونس (900 ألف في 2012). ولو افترضنا أن الحدود البرية مفتوحة، وأن هذه الشركات نجحت السنةَ الماضية في إقناع نصفهم بزيارة المغرب فإن ذلك كان سيعني زيادةَ عدد السياح الذين دخلوا التراب المغربي (10 ملايين) بحوالي 4،5 في المئة، وهي نسبة لا يستهان بها في ظرف دولي تميّزه هشاشةُ الاقتصاد السياحي بسبب الأزمة المالية العالمية وما ترتب عنها من انطباعِ العادات الاستهلاكية بطابع الحذر والخوف من المستقبل.وعلى فرض أن إغلاقَ الحدود الجزائرية المغربية لم يعد يؤثّر على تنمية شرق المملكة، فإن كثيرا من المنشآت الموجودة في هذه المنطقة (القطب السياحي لمدينة السعدية الحدودية، الخ) أو التي هي في طور البناء (القطب السياحي في الناظور مثلا) لن تُعدم الاستفادةَ من تحرير حركة الأشخاص بين البلدين، مَثَلها في ذلك مثلُ الطريق السيار "وجدة-فاس" (320 كم) الذي دُشّن في تموز/ يوليو 2011 والذي سينتفع لا محالة من ربطه بالطريق السيار الجزائري "شرق-غرب" (1216 كم).
ما الذي تخشاه الجزائر؟
السؤال الأهمّ الذي يطرح نفسَه ليس عما ستجنيه الرأسمالية المغربية والشركات الأجنبية الناشطة في المغرب من فوائدَ من فتح الحدود، بل عن طبيعة المخاوف التي تُستشف وراء شروط السلطات الجزائرية للاستجابة لمطلب الرباط وهي، كما لخّصها "مصدر مسؤول" ليومية "الشروق" الجزائرية في أواخر نيسان/ أبريل الماضي، "التعاونُ المغربي التام لوقف تهريب المخدرات" إلى التراب الجزائري، و"الوقف الفوري للحملات الإعلامية والعدوانية ضد الجزائر"، و"الاعتراف النهائي بأن موقفها من مسألة الصحراء الغربية موقف سياسي ثابت لا رجعة فيه".ويجزم البعضُ بأن التطبيعَ الحدودي بين الجزائر وجارتها الغربية لن تكون له على الاقتصاد الجزائري أثارٌ سلبية تُذكر، بدليل أن الحدود مفتوحةٌ مع تونس دون أن يؤدي ذلك إلى انهياره. لكن هل هذه المقارنة حقا وجيهة؟ لا، لأنّ فتحُ الحدود مع المغرب يُراد له أن يكونَ مقدمةً لتسويق واسع النطاق للسلع المنتجة في هذا البلد في الجزائر ولتسهيل الاستثمارات المغربية فيه، وهي استثماراتٌ ليس بمقدور الرأسمالية التونسية إنجازُها (بلغ حجم الاستمارات المغربية الجارية في الخارج حوالي 3 مليار دولار في 2011).ما يخيف الجزائرَ ليس احتمالَ تفاقم تهريب السلع المدعومة إلى المغرب فحسب، بل هو أيضا أن يكون فتحُ الحدود إشارةَ بدء ضغوط مغربية ودولية عليها من أجل تحرير تام للمبادلات الاقتصادية بين الدولتين في ظرف اقتصادُها فيه غيرُ مستعدّ للمنافسة نظرا لازدياد تبعيته لعوائد البترول والغاز في السنوات الأخيرة، ولعجزِ قطاعه الخاص عن ملء الفراغ الذي تركه تقلص قطاعه العام بعد إغلاق عشرات الشركات في عز الحمى الليبرالية للتسعينيات.وبعبارة أخرى، لا تخشى السلطات الجزائرية الآثارَ الفورية لإعادة تنشيط الحركة الحدودية بقدر ما تخشى أن تطلقَ مسارا سيصعب التراجعُ عنه دون نشوب أزمة سياسية حادة مع جيرانها المغاربة، كما سيعقّد استعمالَ المسألة الحدودية ورقةً دبلوماسية في الصراع الدائر بينهما حول حل قضية الصحراء الغربية.