فتنة غرداية مرآة جزائر تحفر بيدها قبر وحدتها

طوال الأسابيع الماضية عاشت غرداية، الواقعة في وادي ميزاب في قلب الصحراء الجزائرية، فتنة حقيقية بين سكانها الميزابيين (وهم إباضيون ناطقون بالأمازيغية) وسكانها غير الميزابيين المتكونين، بالإضافة إلى «الشعانبة» و«المدابيح» (وهي قبائل محلية ناطقة بالعربية)، من جزائريين وفدوا من مختلف أرجاء البلاد في إطار الوظيفة العمومية أو غيرها وكانت حصيلة المواجهات التي دامت أكثر من
2014-02-12

ياسين تملالي

صحافي من الجزائر


شارك
غرداية ـ الجزائر

طوال الأسابيع الماضية عاشت غرداية، الواقعة في وادي ميزاب في قلب الصحراء الجزائرية، فتنة حقيقية بين سكانها الميزابيين (وهم إباضيون ناطقون بالأمازيغية) وسكانها غير الميزابيين المتكونين، بالإضافة إلى «الشعانبة» و«المدابيح» (وهي قبائل محلية ناطقة بالعربية)، من جزائريين وفدوا من مختلف أرجاء البلاد في إطار الوظيفة العمومية أو غيرها وكانت حصيلة المواجهات التي دامت أكثر من شهر عدة قتلى وعشرات الجرحى، فضلاً عن خسائر مادية بالغة جراء الاعتداء على البيوت والمتاجر وتعطل الحركة الاقتصادية. ولم تكن هذه أول مرة ينفجر فيها الوضع في وادي ميزاب بين مجموعتي السكان ذاتهما، لكنها أول مرة تتحيز فيها قوات مكافحة الشغب ضد الميزايين، كما توضح ذلك صور وفيديوهات تظهرها وهي تطلق قنابل الغاز المسيل للدموع على الشباب الميزابي وسط مجموعات شبابية كانت هي الأخرى تقذفهم بالحجارة.

الأباضيون

غرداية (وهي عاصمة ولاية تحمل الاسم نفسه) هي أهم مدن وادي ميزاب التي تأسست في القرن الحادي عشر الميلادي بعد سقوط الدولة الرستُمية (عاصمتها تاهرت، في الهضاب العليا) تحت ضربات الفاطميين ونزوح قبائل أمازيغية إباضية كانت عمادها لتستقر في المنطقة وتنشر المذهب الإباضي بين أهلها. واحتفظ من أصبحوا يسمون بـ«الميزاييين» لا بتفردهم المذهبي في «بلد مالكي» فحسب، بل بدرجة من الاستقلالية السياسية أيضا، فكان ولاؤهم للحكم العثماني شكلياً ووقعوا مع الإدارة الفرنسية معاهدة (في العام 1853) كفلت لهم مستوى معيناً من الحكم الذاتي إن صح التعبير، وإن لم تمنع انخراطهم في مختلف تيارات الحركة الوطنية، من أشدها راديكالية (حزب الشعب المطالب بالاستقلال) إلى أكثرها اعتدالاً (جمعية العلماء المسلمين).
وقد ازدادت هجراتهم كتجار إلى باقي أنحاء الجزائر خلال العهد الاستعماري وبعد الاستقلال، إلا أن اندماجهم في المدن التي استوطنوها محدود نسبياً بسبب رغبتهم في المحافظة على خصوصيتهم الدينية (المذهب الإباضي) والاجتماعية (تصريف بعض شؤونهم من قبل مؤسسات تقليدية مقرها وادي ميزاب)، لكن أيضا بسبب الكليشيهات شبه العنصرية التي تعيب عليهم خصوصيتهم هذه.

أسباب الفتنة المتجددة

ومن الصعب معرفة منشأ هذه الفتنة الجديدة التي رجّت وادي ميزاب، لكن سببها المباشر (محاولة إجبار تجار ميزابيين على إغلاق محالهم في إطار احتجاج مُطالبٍ بالسكن الاجتماعي) هو في الحقيقة ثانوي جدا مقارنة بالسياق السوسيو- اقتصادي الذي لا يزال كفيلا بتحويل أبسط حادث إلى معركة محتدمة بين الميزابيين وغيرهم. ويتمثل هذا السياق في توسّع المدن الميزابية، خصوصا غرداية، بفعل الهجرات المتتالية إليها من أصلاء المنطقة «العرب»، ومن مناطق أخرى، وعجز الحكومة عن لعب دور الحكَم المنصف بين مكوناتها البشرية من خلال مشروع تنمية محلية متكاملة يوفر للجميع أدنى حقوقه.وبطبيعة الحال، ليست هذه الهجرات الأولى من نوعها في تاريخ وادي ميزاب، فالمصادر التاريخية تشير إلى أن التعايش بين القبائل العربية والأمازيغ يرجع على الأقل إلى القرن الرابع عشر، وأن معاهدات حقيقية كانت تنظم حياة العرب في القرى الإباضية المذكورة أعلاه وكذا حياة الإباضيين في القرى العربية (متليلي). الجديد في هذه الهجرات هو ما أحدثته من تنافس على ملكية العقارات (قطع الأرض، السكن)، نجم عنه تعزيز «الحس المحافظ» لدى الميزابيين وتعميق شعورهم بأن نمط حياتهم المتوارَث منذ القديم، وما يتيحه من مساواة اجتماعية نسبية باتا مهددين. 

ازدهار ذاتي

وإذا كانت البطالة ضاربة أطنابها لدى «الوافدين»، فهي نادرة في أوساط الميزابيين لاستثمارهم أرباحهم التجارية المجنية خارج وادي ميزاب في موطنهم الأصلي. وإذا كان الفقر متفشياً لدى غيرهم، فهيئات التكافل التقليدية لديهم تسعى إلى تحجيمه الخ... هذه العناصر، لا خصوصيتهم المذهبية والاثنية وحدها، تغذي «تفرداً ميزابياً» زاد عمقه إطلاق مستثمريهم، بدءا من مطلع سنوات الألفين (في سياق بحبوحة مالية كبيرة تعرفها الجزائر إلى اليوم) مبادراتٍ اقتصادية هي بصدد تغيير وجه ولاية غرداية (صناعات صغيرة ومتوسطة، شركات سياحية). وتدل الإحصائيات على أن الصناعة ومواد البناء هما اليوم في هذه الولاية أكثر القطاعات جذبا لليد العاملة بعد الوظيفة العمومية، وان عدد العاملين فيهما ثلاثة أضعاف العاملين في الزراعة التي كانت النشاط الأساسي لوادي ميزاب.
وحسب أرقام منشورة على موقع وزارة الداخلية والجماعات المحلية، فإن أغلب الوحدات الصناعية فيها (200 من أصل 202) ملك للقطاع الخاص، تشمل نشاطاتها النسيج وصناعة الخشب والورق وتعليب المواد الغذائية وحتى الصناعة الكيمياوية.وبسبب عجز الدولة عن استغلال مواردها عقلانيا في مشروع نهضة شاملة، فمن المنطقي أن يثير انتعاش المنطقة الاقتصادي الصراع على ثماره الحاضرة والمستقبلية بين الميزابيين، وهم تقليديا من مناصري المبادرة الخاصة، و«الوافدين»، وكثير منهم موظفون أو عمال يرون أن على السلطات تجاههم واجبَ إدماجهم في المدن الميزابية اقتصاديا (توفير فرص الشغل) واجتماعيا (السكن، الخ). ويثبت السبب المباشر للمواجهات الأخيرة (محاولة إغلاق محال الميزابيين خلال احتجاج مطالب بالسكن الاجتماعي في أحياء «عربية») قوة التطلعات إلى استفادة أكبر من الريوع البترولية في ظرف عجز حكومي تام عن حل مشكل البطالة جذريا، والحد من ظاهرة الهجرات الداخلية من خلال خطط تنمية متوازنة. إرضاء مثل هذه التطلعات هو في قلب وظيفة المدينة الجزائرية الحديثة التي يتصورها الكثيرون «ثمرة للريع (النفطي) وقطعة حلوى يجب أن تقتسم، وميدانا يلتقي فيه متنافسون كل منهم جاء إليها لنيل حصته غير مبال بطريقة نيلها» (على رأي الباحث إبراهيم بن يوسف، يومية «الوطن»             (1 شباط/فبراير 2014).

حرف المعنى

ويؤكد تحيز الشرطة خلال المواجهات الأخيرة ثبات السلطات في سعيها إلى توجيه الغضب الاجتماعي إلى غير وجهته، ولو تسبب ذلك في تقسيم المجتمع وتفكيكه (أليس من المحزن أن سبب الأزمة المباشر، أي تلك الحركة المطالبة بالشفافية في توزيع السكن الاجتماعي، نُسي ولم يعد يُذكر).هذا التموقع الانتهازي، فضلا عن أنه قصير النظر، كان ذا عاقبة سياسية وخيمة، إذ زاد راديكالية الشباب الميزابي وعمّق إحساسه بأنه مستهدف بسبب خصوصيته الإثنية والدينية. وتتجلى هذه الراديكالية على الشبكات الاجتماعية حيث كثر الحديث عن «التطهير العرقي» ضد الميزابيين، وتواترت الدعوات إلى «تحقيق أممي» في ملابساته، وكذا النداءات الموجهة إلى أمازيغ كل البلدان لمساندة «إخوانهم» (وهو أمر غير مسبوق في منطقة لم تُمثَّل إلا نادرا في تيار الحركة الثقافية الأمازيغية).ولا يخفى على أحد أن هذه الدعوات شديدة الحساسية في السياق الإقليمي الحالي غير المستقر، خصوصا أنها مرشحة للتصاعد كرد فعل على انتشار الفكر الديني المكفِّر لكل الطوائف الإسلامية غير السنية أو الداعي إلى الحذر منهم. أما قدرة «الأعيان» على التحكم في غضب الشباب الميزابي وإحساسه بالضيم أمام تحيز قوات الأمن، فتبدو جد محدودة إذا نظرنا إلى طول مدة المواجهات الأخيرة (ما لا يبدو أن الحكومة تدركه جيدا وهي تجنِّد «عقلاء» الجانبين للتدخل). ويمكن القول إن سلطتهم هي في طور فقدان الإجماع على شرعيتها. هذا ما يقوله عنها مثلا كمال الدين فخار، رئيس فرع رابطة حقوق الإنسان في غرداية، الذي يمكن أن نعده لسان حال الأجيال الميزابية الشابة: «الأعيان (...) جزء من عملية تبرير الظلم القائم. هم إما أئمة لا حول لهم ولا قوة، يرون الدولة غولا كاسرا، أو سماسرة يدافعون عن مصالحهم».

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

الجزائر: لئلا يُحوَّل ترسيمُ اللغة الأمازيغية إلى جدل "هوياتي" عقيم

يقترح مشروع الدستور الجزائري المعدّل في مادته "3 مكرر" الاعترافَ بالأمازيغية لغةً "رسميةً" إلى جانب "اللغة الوطنية والرسمية"، العربية. ولا يسع كلَّ عارف بما يمثله عدم حل المشاكل اللغوية العالقة...