"زوجة البيه" الحلوانية بعيني ليسيا أوكراينكا

أحبّت الأديبة الأوكرانية ليسيا أوكراينكا مصر ورغبت في أن تكتب عن ناسها أكثر، وأن تصورهم بكلماتها كما هم من دون خلفيات أو رتوش وإسقاطات. وهي هنا تتناول الموضوع بكل تعقيداته بجدية كاملة، وبواقعية لا تشي بأي تهكم أو استعلاء، بل بتضامن كبير مع امرأة هي رهينة منزلها وتحت الحضور الطاغي للزوج، بالإضافة إلى معتقدات وموروثات لا فكاك منها.
2021-02-18

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
مدينة حلوان المصرية، 1900.

حياة "إقبال هانم" كانت النص الأخير لليسيا أوكراينكا. نصّ لم يكتب له أن يكتمل، فالموت خطف هذه الكاتبة الأوكرانية قبل إنهائها مجموعة من النصوص الاجتماعية التي كانت تنوي فيها تدوين مشاهداتها في مصر بشكل عام، ومدينة حلوان التي أقامت فيها بشكل خاص. وقد صرحت عن رغبتها في إحدى رسائلها في الكتابة عن حياة المرأة المصرية وعن أطفال الشوارع في المدن وكيف يتدبرون أمور معيشتهم وموضوعات مصرية أخرى "ليست تاريخية بل حديثة". فمن هي ليسيا، وكيف رأت المرأة المصرية مطلع القرن العشرين؟

ليسيا أوكراينكا هي الأديبة الأوكرانية لاريسا كوساتش (1871-1913). لم تكن شاعرة وقاصة فحسب، بل ناقدة ومترجمة وباحثة في الإنثروبولوجيا والتراث الشعبي وناشطة اجتماعية وحاملة راية حقوق المرأة في بلادها. وقد غدت رمزاً لأصالة أوكرانيا واستقلالها، وأحد الأعمدة الثلاثة التي قام عليها الأدب الأوكراني الحديث، إلى جانب إيفان فرانكو وتاراس شيفتشينكو. وقد ناضلت ليسيا لحفظ مكانة المرأة في المحافل الأدبية والحياة العلمية والعامة، وليس عن عبث أن إيفان فرانكو وصفها بأنها "الوحيدة التي تمتعت بشجاعة الرجل الحقيقي في الأدب الأوكراني". وفي المقابل، ليس غريباً أن يغيب اسمها عن القارئ العربي، إذ إن ماكينة الترجمة السوفياتية الجبارة التي نقلت آلاف العناوين أغفلتها. إلا أن عطاءاتها العلمية والأدبية كانت أقوى من المنع، حيث أقيمت لها، حتى في زمن السوفيات، نصب تذكارية وأطلق اسمها على شوارع في مدن مختلفة حول العالم، كما يحمل اسمها عدد من المؤسسات الثقافية والتعليمية والمسارح والمتاحف والجوائز الأدبية. وتحتفل أوكرانيا في 25 شباط/ فبراير الجاري بالذكرى الخمسين بعد المئة على ولادة ليسيا أوكراينكا. وللمناسبة تصدر ترجمتي العربية لنصوصها النثرية (1) .

ليسيا أوكراينكا، 1871 /1913.

كانت ليسيا أوكراينكا مريضة معظم سنوات عمرها القصير بمرض عرف بـ"سلّ العظام". وقد نصحها الأطباء بقضاء أوقات من كل سنة في بلدان ذات مناخ جاف، ما أتى بها إلى مصر بين العامين 1909 و1913. 

لم تكن الأديبة الأوكرانية ليسيا أوكراينكا شاعرة وقاصة فحسب، بل ناقدة ومترجمة وباحثة في الإنثروبولوجيا والتراث الشعبي وناشطة اجتماعية وحاملة راية حقوق المرأة في بلادها. وقد نصحها الأطباء بقضاء أوقات من كل سنة في بلدان ذات مناخ جاف، ما أتى بها إلى مصر بين العامين 1909 و1913. وكان قد ذاع صيت عيون حلوان الكبريتية، التي تُقصد للاستشفاء من قبل الأوروبيين.

وكان قد ذاع صيت عيون حلوان الكبريتية، التي تُقصد للاستشفاء من قبل الأوروبيين، قبل عقود من وصول ليسيا أوكراينكا إليها. وكان الخديوي عباس حلمي الثاني قد افتتح عيون حلوان سنة 1899، بعد تشييد مجموعة من الأحواض. وقبله بني بأمر الخديوي إسماعيل منتجع في المكان وفندق إلى جانبه سنة 1872، ثم كثرت المصحات في تلك المدينة وجوارها، وكان أن نزلت ليسيا في مصحة "فيللا كونتينينتال"، حيث عملت في البحث والترجمة، واستشفت، وجمعت ملاحظاتها لنصوصها النثرية والشعرية. ولعل أكثر هذه النصوص شهرة مجموعتها الشعرية "الربيع في مصر".

إقبال هانم

نشرت مجلة "ليتيراتورنو ناأوكوفي فيستنيك" (البشير الأدبي العلمي، 10/1913 ص4-9) ) نص ليسيا على الرغم من أنه لم يكتمل، وذلك لأنه نصّها الأخير فحفظته لنا. كما يوجد مخطوط للنص محفوظ في معهد تاراس شيفتشينكو للآداب التابع للأكاديمية الوطنية الأوكرانية للعلوم (ل.أ. الملف 2، الوثيقة 825). وفيه تصحيحات بخط المؤلفة وتحرير في الأسلوب. وقد أرفق محرر المجلة النصّ المنشور بملحوظة، مما جاء فيها: "تحوم الأفكار المحتضرة لكاتبتنا فوق هذه القصة التي تمسّ الحياة في الشرق، عندما تقول: ها هو الغروب المصري قد بدأ بالفعل. هنا تعرف الشمس كيف تتظاهر بالانتصار الأخير قبل احتضارها وهزيمتها الحتمية. هكذا بكل فخر وبهجة، ومن دون أدنى ظل من حزن المساء، سكبتْ الشمس هداياها الملونة في السماء وعلى الصحراء والنهر الكبير، وعلى كل التفاصيل الصغيرة في البلد الحبيب، حتى ولو لدقيقة واحدة قبل هجمة الظلام الذي لا مناص من الإيمان بحتميته. وهذه الصفحات هي آخر شعاع قبل حلول الظلام".

السيدة إقبال، وفق ليسيا، هي الزوجة الأولى للبيه، الذي يبدو أنّه شريك في المصحة أو صاحبها، وقد نقل زوجته وابنته (زينب) ليعيشان في منزل ملحق بها. وهذا المنزل بلا فناء خاص به، بل يطل على فناء المصحة. ويظهر أن البيه في زمن سابق قد اقترن بامرأة ثانية، إيطالية، ما خلق أزمة كبيرة لدى إقبال. تتناول ليسيا الموضوع بكل تعقيداته بجدية كاملة، وبواقعية لا تشي بأي تهكم أو استعلاء، بل بتضامن كبير مع امرأة هي رهينة منزلها وتحت الحضور الطاغي للزوج، بالإضافة إلى معتقدات وموروثات لا فكاك منها. وفي جو عام ترضخ فيه مصر العظيمة للاحتلال الغربي. وذلك ما عبرت عنه ليسيا عبر مقاربة تاريخية فكتبت: "كيف أمكن الشعب المصري، المقتدر والمجتهد، أن يرضخ لهذا النير؟ أنا متأكدة أنّ النير لم يلق عليه فجأة، إنما ببطء شديد، كما هي الحال لدينا في أوكرانيا...".

فندق "الحياة"، حلوان 1900.

ومما أوردته ليسيا يمكننا إدراج بعض الملاحظات:

- التقدم في السن مرعب: على الرغم من أن إقبال في الثلاثين من عمرها، إلا أنها تعتبر أن الشيخوخة زحفت إليها، لا سيما وأنها في صراع غير متكافئ مع امرأة أخرى أجنبية، وأن المجتمع وضعها في مكان لا مناص منه، والغاية الوحيدة هي الظهور الدائم أمام البيه – الزوج في مظهر أفضل من منافستها: "بدأت ترسم وجهها بالكامل بهدوء، حتى اكتسب الشكل المرغوب فيه. قناع من المساحيق، حاد الحاجبين مع حواف سوداء حول العينين، وبقعتين دمويتي اللون بدل الشفتين. ثم بدأت في تصفيف شعرها. لم يكن من السهل إخضاع الشعر الأفريقي الغزير وحشره في القالب الباريسي، فمظهرها في المساحيق بات أكثر ملاءمة للبوستيج الاصطناعي الميت من شعرها الحي الحقيقي، لكن كان على أفريقيا أن تخضع لأوروبا. حققت إقبال هانم مبتغاها. فإذا ما نظرت إليها من الخلف، إن لم تحسبها باريسية، فستخال أنّها إفرنجية من إحدى المستعمرات".

- صراع حضارتين: يتضمن النصّ اعتراضاً ضمنياً على اللحاق بالقيم الغربية والخضوع لها، فعلى صعيد الشكل "لا جدال بأن الله عادل، لكن وما نفع عدالته حين تبدو الإفرنجيات الشقراوات الفاسدات شابات لفترة تزيد عن أربعين عاماً، فيما المرأة العربية المسكينة، مثل إقبال، تحتاج إلى معجزة لتحافظ على جمالها حتى الثلاثين. ربما كانت لتخدمها تلك المعجزة لبضع سنوات أخرى لو لم تعترض طريقها تلك الإفرنجية!". كما تشير ليسيا إلى صراع آخر يتمثل في الإرساليات الأجنبية ورسالتها الدينية "آه من أولئك الإفرنجيات! ربما خلقهن الله لمعاقبة الناس، كما خلق الجراد والعقارب. وكل إفرنجية، حتى في العالم الآخر، بعد الموت، تأمل في العيش والجمال. تسمع الفتيات العربيات عن أولئك الزوجات المقدسات الصالحات من الراهبات الكاثوليكيات، لكن ماذا عن المرأة المسلمة الوفية، ألديها مثل هذا الأمل؟ بالفعل كانت هناك نساء مسلمات مقدسات مثل خديجة وفاطمة وزينب...".

يتضمن النصّ اعتراضاً ضمنياً على اللحاق بالقيم الغربية والخضوع لها. فعلى صعيد الشكل "لا جدال بأن الله عادل، لكن وما نفع عدالته حين تبدو الإفرنجيات الشقراوات الفاسدات شابات لفترة تزيد عن أربعين عاماً، فيما المرأة العربية المسكينة، مثل إقبال، تحتاج إلى معجزة لتحافظ على جمالها حتى الثلاثين. ربما كانت لتخدمها تلك المعجزة لبضع سنوات أخرى لو لم تعترض طريقها تلك الإفرنجية!".

- المنزل - السجن: "تعيش هنا، كما في السجن، ليس في دار كما يليق بمسلمة محترمة، ولكن في سجن حقيقي بدون حديقة، وبدون أباجورات خشبية محفورة، تمكّنها من النظر باطمئنان إلى الشارع، وبدون أقارب أو صديقات يكنّ على استعداد تام للبقاء معها في المنزل ومسامرتها، فتتبادل معهن الزيارات ويقصدن المناسبات معاً. لا يوجد مكان تذهب إليه هنا حتى لو وجدت من يرافقها. لا توجد مقبرة لائقة فيها قبور الأقارب (من الأفضل أن تقصد المقبرة لا أن تسير في الشوارع بلا هدف!)، لا توجد متاجر هنا باستثناء محل البقالة.. وفيه جميع أنواع القمامة، يقصده الخدم والإفرنجيات. أما امرأة مثلها، ابنة الأصل العربي النبيل فتخجل من عبور عتبته. وكذلك لا يمكن لإقبال هانم أن تزور أحداً، لأنها في المقابل ستضطر إلى استقبال الضيوف، وستضطر أمامهم إلى الكشف عن حياة البؤس التي تعيشها هنا. فهي تعيش في منزل ذي فناء مشترك مع مصحّة مخصصة للمرضى الأجانب الذين يقصدونها للتعافي. إنها مكان يكاد يكون لوكندة. تشعر إقبال هانم بعار شديد من عيشتها هنا، على الرغم من أنها في ما يشبه اللوكندة". وعن إمكانية السفر خارج مدينة حلوان، تقول: "في بعض الأحيان تقام حفلات زفاف وخطوبة وجنازات، ليس هنا بل في القاهرة، فيصعب السفر إلى هناك. يؤسفها أن تترك زينب الصغيرة هنا، وكذلك أن تحمل طفلتها إلى تلك المناسبات البعيدة بين الناس، تخشى أن يصيبها أحدهم بالعين".

- حريّة الخادمة: في مقابل المنزل الذي يعتبر سجناً لزوجة البيه، تظهر خادمتها حرة في حركتها في فناء المصحة، كما أن السيدة تركت عبء طفلتها عليها. وتلعب الخادمة دور الناصحة لسيدتها في بعض الأمور المتعلقة بالطفلة وملابسها. وترغب بصدق في أن تكون الطفلة أفضل مظهراً من طفلة الزوجة الثانية. في نصّها، تستخدم ليسيا عبارة "ليس من المقبول أن تكون ابنة البيه اليسرى في ملابس أفضل من ابنته اليمنى"، إذ يستخدم اليمين في اللغات السلافية للحق والحقيقة والشرعية، واليسار عكسه. ولا يتضح من النصّ ما إذا كان البيه قد أنجب الابنة الثانية بلا زواج، وهو أمر مستبعد. فربما المقصود الإشارة إلى أن الزوجة الثانية ليست مسلمة، ونعت ابنتها باليسرى تحقير لها.

- اللجوء إلى الشعوذة: تقصد بعض البائعات المنازل، حين لا يكون الأزواج موجودين، لعرض سلع على النساء، تكون في الغالب مستحضرات تجميل ومساحيق تبييض للبشرة. تصف ليسيا البائعة التي قصدت منزل إقبال بأن لديها "وشم نجمة زرقاء على الجبين، ووشم هلال دُقّ بالإبرة نفسها على الذقن. ولديها قرطان من الذهب كلاهما من الجانب الأيمن، الأول معلق بأذنها والثاني بأنفها، تصل بينهما سلسلة رقيقة". ترفض إقبال عروض البائعة، لكنها تفترض أن الشعوذة قد تكون الحلّ الأمثل لها في صراعها غير المتكافئ، فتظن البائعة أن السيدة تريد تعويذة للتقريب، تسميها "لؤلؤة النبي"، إلا أنها تطلب "عملاً" للتفريق بين شخصين، فتعدها بأن تأتيها به في الغد.

شارع منصور باشا، حلوان.

أحبّت ليسيا أوكراينكا مصر ورغبت في أن تكتب عن ناسها أكثر وأن تصورهم بكلماتها كما هم من دون خلفيات أو رتوش وإسقاطات، لكن العمر لم يمتد بها لتتمكن من ذلك. في رسالة لها بتاريخ 3 كانون الثاني/ يناير 1910، كتبت إلى والدتها: "شاهدنا الأهرامات الضخمة وأبو الهول العظيم. إنه حقاً شيء فريد من نوعه في العالم! ساحر جداً. والآن فقط تلمست عظمته حتى النهاية، حيث زرت متحف القاهرة". كما كتبت: "هذه بلاد جميلة وقد بدأت أعتاد على حبّها بالفعل، ولم تعد غريبة عليّ". 

______________

 1- تصدر في كتابين: الأول: "ليسيا أوكراينكا. الأعمال النثرية (1)" (بيروت: دار المصور العربي، 192 ص.)، ويصدر الكتاب الثاني قبيل نهاية العام الحالي.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....