دشّن الوزير الأول عبد المالك سلال في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، مصنعا لسيارات "رونو سامبول" في وادي تليلات (ولاية وهران)، هو ثمرةُ شراكة أُبرمت في كانون الاول/ ديسمبر 2012 بين الشركة الفرنسية رينو (49 في المئة) من جهة، والشركة الجزائرية للمركبات الصناعية والصندوق الوطني للاستثمار (51 في في المئة)، من جهة أخرى. وحضر حفلَ التدشين وزيران فرنسيان هما وزير الاقتصاد إيمانويل ماكرون، ووزير الخارحية لوران فابيوس. وتعاملت الصحافة، وخاصة منها الرسمية، مع هذا الحدث على أنه معْلمٌ فارق في تاريخ الصناعة الوطنية. ولم يكن هذا الاحتفاء سيفاجئ أحدا لو كان المصنع في مثل أهمية مصنع رينو في طنجة المغربية (180 ألف سيارة في 2014 بحسب التوقعات و400 ألف سيارة سنويا على المدى المتوسط)، ذلك أن المصنع الجزائري لن ينتج سوى 25 ألف سيارة سنويا في مرحلة أولى، ولن يتجاوز سقفه الـ 75 ألفا في مرحلة لاحقة. كذلك، لم يُمكِّن من إنشاء أكثر من 350 منصب شغل مباشر (مقابل 2200 بالنسبة لنظيره المغربي)، ولم يتجاوز الاستثمار المحقّق فيه لحد الساعة 62 مليون دولار (مقابل 700 مليون دولار في مصنع طنجة).
اقتصاد أم سياسة
وبدلا من تقبُّل حقيقة هزال هذا "الاستثمار"، فضلت وسائل الإعلام الرسمية الحديث عن استثمارات مرتقبة في مصنع وادي تليلات، مقدّمةً عنها صورة شبه خيالية: 800 مليون دولار سيصل بفضلها إنتاجه إلى 150 ألف وحدة سنويا. وسواء أكان هذا التفاؤل مصطنعا أم صادقا، بدا غريبا في سياق اقتصادي دولي أقلّ ما يقال عنه أنه شديد الارتباك، وفي سياقٍ سياسي فرنسي يطبعه شحُّ مصادر التمويل والجدل حول توالي إغلاق المنشآت الصناعية، وهو جدل لم يسلم منه مصنع رينو في الجزائر حيث وصفت رئيسة الجبهة الوطنية (أقصى اليمين)، مارين لوبان، حضورَ وزيرين فرنسيين تدشينَه بأنه أمر "بذيء" في وقت "تغلَق فيه أبواب المصانع الفرنسية" ويُطرد العاملون فيها. وزاد من حدةَ الطابع السوريالي لهذا الاحتفاء بمصنع رينو كونه لم يحقّق بعدُ وعودَه بتشكيل شبكة من المناولين المحليين، إذ لم يتجاوز عدد من قُبلت عروضهم لتصنيع بعض مكونات "السامبول" الجزائرية شركتين اثنتين (جوكتال ومارتال) من أصل 113 اعتُبرت مؤهلات أغلبيتها الساحقة غيرَ كافية مقارنة بمقاييس الجودة الخاصة بالشركة الفرنسية. وبالنظر إلى هذا الوضع، من العسير أن تتجاوز هذه السيارة بسرعة مستوى تكاملها الحالي، أي 17 في المئة، مع العلم بأن أقصى ما خطط له في هذا المجال هو 40 في المئة في 2018.
كلُّ هذه العناصر التي مرت عليها الصحافة الرسمية مرور الكرام تشير إلى أن بناء هذا المصنع أشبه بعملية "وضعِ يد" على السوق الجزائرية قامت بها الشركة الفرنسية خوفا من قدوم منافس لها إلى الجزائر. ويزيد هذا الاحتمال واقعية أن إحدى مواد العقد تلزم الطرف الجزائري بعدم إبرام أية شراكة مشابهة مع أي مستثمر آخر، وذلك طيلة 3 سنوات. ويجدر التذكير هنا بأن واردات الجزائر من منتجات رينو تمثل 18 في المئة من وارداتها السنوية من المركبات الجديدة بكل أنواعها (101.472 سيارة من مجموع 554.269 في 2013). يجدر التذكير أيضا بأن السلطات الجزائرية، بالتوازي مع مفاوضاتها مع هذه الشركة، فاوضت الألمانية فولكسفاغن على إنشاء مصنع تجميع لمركباتها على التراب الجزائري، ولا شك في أن هذه المحادثات الموازية، التي لم يخفَ سرُّها على أحد، سرّعت قرار الشركة الفرنسية بفتح خط إنتاج لها على التراب الجزائري.
وليس مستبعدا، بطبيعة الحال، أن يتطور مصنع رينو الجزائري فيزيد إنتاجه بل ويُصدَّر جزء منه إلى بلدان في ساحل الصحراء (ما أشار إليه مؤخرا برنار سونهيلاك، الرئيس المدير العام لفرع رينو في الجزائر). لكن هذا الأفق اليوم أكثر من غائم. بالمقابل، ما هو واضح جليّ هو أنّ ما أحيط به من حفاوة أقرب إلى السياسة منه إلى الاقتصاد. فعدا إيهام الرأي العام بأن لديها مشروعا لبعث الصناعة الوطنية، تسعى الحكومة إلى إقناعه بأن النظام الجزائري مدعوم من طرف قوي كفرنسا، رغم أزمة خلافة بوتفليقة المحتدمة والاضطرابات التي تهزّ أرجاء شمال افريقيا منذ 2011.
الفرنجي برنجي؟
هل من الضروري الإشارةُ إلى أن الوزير الأول، في يوم تدشين هذا المصنع - وفي ولاية وهران نفسها - زار مصنعين كيماويين كبيرين جديدين، أوّلُهما نتاج شراكة بين البترولية العمومية سوناتراك (49 في المئة) ومجموعة بهوان العُمانية (51 في المئة)، وثانيهما نتاج شراكة بتناسب الأسهم نفسها بين سوناتراك والمصرية أوراسكوم للإنشاءات والصناعة. ورغم أن الاستثمار فيهما كلّف، على التوالي، 2.7 مليار دولار و1.6 مليار دولار على أقل تقدير - أي ما يعادل 68 مرة كلفةَ الاستثمار في مصنع رينو - لم يحظيا بالاهتمام الإعلامي نفسه. والحقيقة أن لا غرابة في ذلك، فلا عُمان ولا مصر بمثل أهمية فرنسا في منظومة العلاقات الخارجية الجزائرية، وهي منظومة تحكمها الرغبة في نيل رضا باريس رغم كل التصريحات النارية ضد "المستعمر السابق". وتبدو على النظام الجزائري، في الظرف الإقليمي الدقيق الحالي، أعراض عدم أمان كبير ما لم ترض عنه باريس. ففي رضاها، كما يتصور هو، رضا حلف شمال الأطلسي، وفي انتشارها في الجزائر اقتصاديا ضمانةٌ بعدم تحولها إلى عدو لدود. هذه الحسابات صحيحةٌ من دون شك على المدى القصير، خاصة أن فرنسا لا تزال بحاجة إلى حلفاء إقليميين للتحرك في مالي والنيجر (وهذا ربما ما يفسر حضورَ وزيرين فرنسيين حفلَ تدشين مصنع بهذا الحجم الصغير). لكن حسابات النظام خاطئةٌ على المديين المتوسط والبعيد. من لا يذكر أن حكومةَ ساركوزي ضحت بالقذافي رغم ما كان في التضحية به من مغامرةٍ بالاستثمارات الفرنسية في ليبيا (الشركة البترولية توتال، مثلا، كانت تنتج في ليبيا 12 في المئة من مجمل إنتاجها الإفريقي)؟ بل إن تدخل الناتو في هذا البلد كان في حد ذاته "استثمارا في المستقبل" كما قال وزير الخارجية الفرنسي السابق، ألآن جويبه، بمنتهى الصراحة في آب/ أغسطس 2012.