وسط احتجاجات شعبية مندِّدة بالغلاء في عدد من المدن السودانية، أعلن رئيس الوزراء الانتقالي، عبد الله حمدوك، حكومته الثانية منذ الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019. ويستقبل السودانيون حكومةً جديدة بعدما أكملت أول حكومة بعد الثورة قرابة عام ونصف دون إحراز تقدم في أهم ملفين: الاقتصاد والعدالة، بينما أحدثت اختراقاً طفيفاً في ملف العلاقات الخارجية برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وسط دعم سياسي دولي لم ينعكس على الاقتصاد.
في آب/ أغسطس 2019، بدأ السودان فترةً انتقالية بشراكة بين "قوى الحرية والتغيير"، والجيش، وقوات الدعم السريع، تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، قبل أن تلتحق الحركات المسلحة بالوثيقة الدستورية، بعد اتفاق سلام تمّ توقيعه في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 في عاصمة جنوب السودان، جوبا.
حاضنة مهترئة واقتصاد متهاوٍ!
بعد مخاض عسير، أُعلن عن تشكيل وزاري جديد في السودان، وقد تأخر إعلان الحكومة الجديدة لأشهر نتيجة صراعات داخل الحواضن السياسية المكونة من "الحرية والتغيير" والحركات المسلحة بشأن تقاسم الحصص الوزارية.
يغلب على الحكومة الجديدة السياسيون، بعكس الحكومة المحلولة والتي كانت أقرب لحكومة تكنوقراط، وربما يمثل هذا التغيير أبرز سمات الحكومة الجديدة التي تقلد فيها قادة سياسيون بارزون مواقع تنفيذية عديدة. وقبل أداء اليمين الدستورية للحكومة الجديدة، أُعلنت حالة الطوارئ في عدد من المدن السودانية مع اتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية المنددة بالغلاء. وفي الأثناء يُنتظر صدور قرار بـ "تعويم" الجنيه السوداني، و"توحيد سعر الصرف" تنفيذاً لسياسات صندوق النقد الدولي التي بدأت الحكومة بتطبيقها برفع الدعم عن السلع الرئيسية. وتواجه العملة المحلية انهياراً متسارعاً أمام الدولار، وقد بلغ معدل التضخم الشهر قبل الماضي 269.33 في المئة. ولا تلوح في الأفق بوادر انفراج للأزمة الاقتصادية، إذ أمسك أبرز الداعمين للحكومة الانتقالية (السعودية والإمارات) عن مواصلة الدعم الذي تمّ الإعلان عنه عقب سقوط البشير، ولم تتلق الحكومة في السودان أي دعم نقدي أجنبي باستثناء بعض الوعود المشروطة بـ "تعويم العملة" أولاً. وفي مقابلة صحافية، قالت وزيرة المالية السابقة، هبة محمد علي، إن حكومتها لا يُمكن أن تتخذ قراراً بالتعويم دون الحصول على احتياطات نقدية كافية. وترفض "قوى الحرية والتغيير"، الحاضنة السياسية للحكومة تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي، غير أن الحكومة ماضية في سياساتها، بل وضعها رئيس الوزراء ضمن برنامج الحكومة الجديدة.
يستقبل السودانيون حكومةً جديدة بعدما أكملت أول حكومة بعد الثورة قرابة عام ونصف دون إحراز تقدم في أهم ملفين: الاقتصاد والعدالة، بينما أحدثت اختراقاً طفيفاً في ملف العلاقات الخارجية برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وسط دعم سياسي دولي لم ينعكس على الاقتصاد.
يغلب على الحكومة الجديدة السياسيون، بعكس الحكومة المحلولة والتي كانت أقرب لحكومة تكنوقراط، وربما يمثل هذا التغيير أبرز سمات الحكومة الجديدة التي تقلد فيها قادة سياسيون بارزون مواقع تنفيذية عديدة. وقبل أداء اليمين الدستورية للحكومة الجديدة، أُعلنت حالة الطوارئ في عدد من المدن السودانية مع اتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية المنددة بالغلاء.
لكن "قوى الحرية والتغيير" التي انخرطت في التكالب على المواقع التنفيذية أكثر من البرامج، هي نفسها منقمسة بين داعم مطلق لسياسات رئيس الوزراء وبين رافض مطلق، وتعتبر أحزاب "البعث العربي"، "التجمع الاتحادي" و"المؤتمر السوداني" داعمين للحكومة ولسياساتها بشكل مطلق، والتي يأتي على رأسها "التطبيع، وتطبيق سياسات صندوق النقد الدولي"، بينما أعلن "الحزب الشيوعي" خروجه من التحالف الحاكم مبكراً، لكن الاتهامات تلاحقه بأنه لا يزال جزءً من الحكومة عبر واجهات تنظيمية أخرى. أما حزب "الأمة القومي" الذي تقلد وزارة الخارجية ضمن الحكومة الجديدة، فهو حزب تاريخي بات منقسماً على نفسه بعد رحيل زعيمه الصادق المهدي، حيث برز تياران، أحدهما تمسك بموقف الحزب الرافض للتطبيع مع إسرائيل، وآخر متماهٍ مع التطبيع. ويمثل ملف التطبيع الذي يسيطر عليه العسكريون موضوعاً مهماً داخل الحكومة الانتقالية التي مضت فيه خطوات واسعة، على الرغم من تمسك المكون المدني الظاهر بانتظار المجلس التشريعي الانتقالي ليبت في الأمر.
أما "تجمع المهنيين" الذي قاد الاحتجاجات وصولاً لإسقاط البشير، فقد وقع هو الآخر في المتلازمة السودانية، حيث انقسم التجمع بين طرف داعم للحكومة، فيما تبنى الطرف الآخر داخل التجمع التصعيد الثوري المستمر، الأمر الذي أضعف صوته كما تراجع تأثيره في الشارع. أما "لجان المقاومة" المشكلة من شابات وشباب الأحياء، فلم تكن بعيدةً عن الوقوع في الاستقطاب بين القوى السياسية والعسكرية، فانقسمت ما بين داعٍ للتغيير الجذري في بنية الحكومة، فيما تتبنى بعض اللجان خط "تصحيح مسار الثورة".
السودان: الحراك الشعبي المستمر وتخليق البديل
01-10-2020
وسط هذا المشهد، يراقب السودانيون حكومةً جديدة تتوكأ على حواضن سياسية وشعبية مهترئة واقتصاد متهاوٍ ووضع أمني منفلت في أطراف البلاد ومخاوف جمة من تمدد الانفلات إلى الخرطوم. يحدث هذا مع حالة تشبه العصيان داخل الأجهزة الشرطية والأمنية، فقد شهد عدد من المدن السودانية موجة عنف غير مسبوقة مع أعمال سرقة ونهب وحرق للممتلكات صاحبت التظاهرات الشعبية دون تدخل من القوات النظامية، وهو الأمر الذي أعاد إلى أذهان الكثيرين السيناريو المصري: أن يختنق الوضع الاقتصادي، ثم تنفجر موجة سخط شعبي، مع عصيان شرطي متعمّد، ثم انفلات أمني، ثم إعلان حالة طوارئ، ثم تفويض.
انفلات أمني وشبح التفويض
ومع تقاعس الأجهزة الأمنية عن أداء واجبها، تعالت نداءات لجان المقاومة لتشكيل مجموعات حماية في الأسواق والأحياء تحسباً لأي انفلات أمني. اللافت في الأمر أن الحكومة ظلت تقابل حالات الانفلات الأمني بصمت مريب، وهي ليست المرة الأولى التي تتقاعس فيها الأجهزة الحكومية، لكنها تأتي هذه المرة بشكل متزامن في مدن عديدة، وسط خيبة أمل من حدوث أي انفراج في ملف الاقتصاد. ويشهد السودان شحاً شديداً في سلع الغاز، الوقود، الدواء والقمح، وتراجعاً مريعاً في الإمداد الكهربائي، الأمر الذي أخرج قطاعات إنتاجية عديدة من السوق. وإن كانت هذه الأزمات موروثةً من حكومة البشير، إلا أنها تفاقمت على نحو لم يعد محمولاً بالنسبة لكل السودانيين، بمختلف طبقاتهم الاجتماعية. فلم تعد الأزمة في زيادة الأسعار فحسب، إنما أيضاً في شح هذه الخدمات والسلع الأساسية.
أعاد المشهد إلى أذهان الكثيرين السيناريو المصري: أن يختنق الوضع الاقتصادي، ثم تنفجر موجة سخط شعبي، مع عصيان شرطي متعمّد، ثم انفلات أمني، ثم إعلان حالة طوارئ، ثم "تفويض".
ويغيب بشكل مستمر مخاطبة الحكومة الانتقالية أو حواضنها السياسية للشارع ومكاشفته بحقيقة الأوضاع، وليس ثمة رؤية أو خطط للخروج من عنق الزجاجة، وهو الأمر الذي أدى لاتساع دائرة السخط الشعبي.. يبقى أمام الحكومة الجديدة التي تجيء وسط تمدد احتجاجات الغلاء تحديات عدة:
أولاً: ظهر بشكل واضح أن الأحزاب تقاسمت الحصص الوزارية. فالسياسيون، الذين لا يحظون بقبول شعبي كبير هم أمام اختبار صعب لإثبات أنهم قادرون على تحقيق إنجازات في جهاز الدولة.
ثانياً: في الغالب، ستتخذ الحكومة الجديدة قرار "تعويم الجنيه" الذي ينتظر منذ أشهر، مما يفاقم الأوضاع الاقتصادية والأمنية على سوئها، فهي أمام تحدٍ لجلب أكبر كمية من الاحتياطات النقدية لمقابلة الارتدادات العنيفة التي سيحدثها "التعويم" خاصة أن 82 في المئة من المال العام خارج ولاية وزارة المالية، وفقاً لتصريحات سابقة لرئيس الوزراء. وقد اشار الى تضخم "الاقتصاد الموازي" الذي يضم شركات كبرى يتبع بعضها لمواقه نفوذ عسكرية فيما يمتلك بعضها الآخر متمولون من التابعين للنظام السابق.
يظل إذاً الوضع الاقتصادي هو الثغرة التي يُمكن أن يتسلل عبرها أي سيناريو يخشاه السودانيون.