في أحدِ مشاهدِ فيلم "المُختبر"، يُقابل مُخرج الفيلم، يوتام فيلدمان، أحدُ تُجّار السّلاح الإسرائيليّين المُخضرمين في مكتبه: ليو غليسر. تُظهر جدران مكتب غليسر منذ اللحظة الأولى سجلّا تعريفيّا وافيا عن الرجل وطبيعة أعماله وشكل علاقاته. فهي تمتلئ بدزّينات من الصور التي تجمعه مع ضبّاط ومسؤولين أمنيّين ورؤساء حول العالم، وحتّى شعارات دورات الألعاب الأولمبيّة التي ساهمت شركته عبر خدماتها الأمنيّة في تأمينها، مثل أولمبياد سيدني وأثينا. بعد أن يطوف غليسر بزهوّ على بعض الصور مع فيلدمان، يقولُ الأخير له: "قرأتُ أنّك اشتراكي". فيرد: "أنا اشتراكيّ جدّا". فيسأله: "ماذا يعني ذلك؟"، يُجيب ليو مبتسما: "الأمن للجميع".
لسوء الحظ، فإنّ "اشتراكيّة" ليو ليست يوتوبيا حالمة، بل واقع قائم في عالم اليوم الذي تعتمد الكثير من دوله على إسرائيل لتزويدها بأحدث الأسلحة المُتقدّمة وأكثر تقنيّات المُراقبة والتجسّس والتحكّم عن بعد فعاليّة. فكيف أصبح ليو اشتراكيّاً إلى هذا الحد؟ وكيف تبوأت صناعة التقنيّة العالية الإسرائيليّة هذا الموقع؟ وهل كانت قصّة هذا التبوء إسرائيليّة خالصة أم قصّة عن إسرائيل في العالم أيضا؟
في البدء كان الجيش
ينطوي تدشين صناعة تقنيّة مُتقدّمة على الكثير من المخاطر الماليّة والفنيّة والتنظيميّة التي يخشى رأس المال الخاص مكابدتها. ولهذا السّبب، فإنّ وضع قواعد لهذه الصناعة في بلدٍ ما غير ممكن عمليّا بدون أن يسبقه استثمار واسع وطويل الأجل في مراكز البحث العلمي والمختبرات والجامعات ومراكز الابتكار الصناعي المتطوّرة. وهذا الاستثمار تقوم به الدولة ومؤسّساتها المختلفة بحكم مواردها الماليّة والتنظيميّة وقدرتها الأكبر على تحمّل المخاطر المتنوّعة. لعلّ هذه الحقيقة هي ما يُحمّس الباحثة الإيطاليّة، ماريانا مازوكاتو، على القول بأنّه قد جرت خلال العقود القليلة الماضية عمليّة تضخيم و "أسطرة" للدور الذي لعبه القطاع الخاصّ "الرياديّ" في الابتكارات التكنولوجيّة المُثيرة التي شهدها عالمنا في هذه الفترة، وأنّ كلّ منتجات التقنيّة الحديثة – بما فيها شاشة اللمس التي اُعتبر تقديمها حدثا استثنائيّا في العالم الرقمي - مدينة بشكلٍ ما للنشاط الاستثماريّ الضخم لمُؤسّسات الجيش الأميركي الصناعيّة ومراكز البحث والجامعات المُرتبطة بها منذ الحرب العالميّة الثانية بوجه خاص.
تنطبقُ هذه الحقيقة على إسرائيل بدرجة كبيرة. فكما تشرح دراسةٌ لفضل النقيب ومفيد قسّوم، غُرستْ بذور صناعة التقنيّة العالية في إسرائيل على يد الصهاينة الأوائل، حتّى قبل قيامها عام 1948، عبر شبكة من الجامعات والمراكز العلميّة والصناعيّة. ومع أنّ هذه الشبكة ساهمتْ في تنمية بعض التقنيات المتطوّرة، وتحديدا في المجالات الزراعيّة، إلا أنّ النقطة المفصليّة في تاريخ هذه الصناعة تمثّلتْ في اللحظة التي قرّرت فيها فرنسا وقف توريد أسلحتها الحديثة لإسرائيل في أعقاب حرب 1967. فقد وضع الحظر الفرنسي، مع متطلّبات التوسّع العسكريّ المُستجد، إسرائيل تحت إلحاح شديد لزيادة اعتمادها على نفسها، ودفعها للشروع في تأسيس صناعة عسكريّة متطوّرة تلعب فيها التكنولوجيا دورا أساسيّا. وقد جاء توطّد العلاقات الإسرائيليّة الأميركيّة من ذلك الوقت ليُعمّق من هذا المنحى. إذ أسهمتْ هذه العلاقة في نقل التكنولوجيا الأميركيّة العسكريّة المتطوّرة لإسرائيل، ومَدّتها بالتمويل اللازم للإنفاق على مشروعات البحث العلمي وتطوير الأسلحة، ومكّنتها علاوة على ذلك من الحصول على آخر صيحات منتجات التقنيّة العالية من البلد الرأسماليّ الأوّل، وعلى رأسها منتجات الكمبيوتر والاتّصالات (افتتحتْ كلٌ من شركة "IBM" و"Intel" الأميركيّتان مصانع لهما في إسرائيل في عامي 1972 و1974 على التوالي).
كان لهذه الصيرورة نتيجتان حاسمتان. الأولى تجسّدتْ في حقيقة أن تطوّر التصنيع العسكريّ سرعان ما أطلق في فروع الجيش ومختبراته ومراكز بحثه العلميّة المختلفة، عمليّة يمكن وصفها بـ "التاريخيّة" لإنتاج رأس مال بشريّ عالي القيمة، غدا مع الوقت الركيزة الحيويّة لنموذج النمو الاقتصاديّ الإسرائيلي، وأحد العوامل الرئيسيّة في ضمان استدامته. أمّا الثانية فتجلّتْ في تكييف غالبيّة المنتجات العسكريّة لاستعمالها في القطاعات المدنيّة عبر القطاع الخاص الإسرائيلي، وهو الأمر الذي هيأ لها لاحقا شقّ الطريق إلى السوق العالمي كسلع متطوّرة تعود مبيعاتها على إسرائيل بمليارات الدولارات سنويّا (استفادت شركة إسرائيليّة مثلا من تقنيّة الكاميرات الدقيقة المُثبتة على رؤوس الصواريخ لإنتاج كبسولاتٍ طبيّة تستطيعُ التقاط الصور وبثّها مُباشرة من داخل أعضاء الجسم البشري بدقّة وسرعة عاليتين، وهي تبيع منتجاتها في أكثر من 70 بلداً اليوم).
ومع ذلك، ورغم الدور الحيويّ الذي لعبه الجيش الإسرائيليّ في تطوّر قطاع التقنيّة العالية، إلا أنّ هذا التطوّر لم يكن مُنتَجا إسرائيليّا خالصا، إذ لعبت التحوّلات العميقة التي طرأت على الاقتصاد العالمي خلال العقود الأربعة الأخيرة دورا أساسيّا في جعله منتجا عالميّا أيضا.
عالم أكثر مرونة
بدأت ملامح الأزمة الهيكليّة في الاقتصاديّات الرأسماليّة بالتراكم منذ مطلع السبعينيات من القرن الفائت. وقد انعكس واحد من هذه الملامح في سقوط نمط الإنتاج الصناعيّ الكبير المرتكز إلى خطوط التجميع "الفورْديّة" (نسبة إلى مصانع هنري فورد للسيّارات في أميركا) في فخّ "الجمود"، الأمر الذي كبح فرص التوسّع الاستثماري وقلّص من ربحيّة رأس المال ومن معدّلات التشغيل. وقد جاءت الصدمة النفطيّة، معطوفة على الإنفاق العسكري الهائل، لتدفع بالتصخم في هذه الاقتصاديّات، بما فيها الاقتصاد الإسرائيلي، إلى مستويات غير مسبوقة، أوقعتها في النهاية في أزمة مُركّبة من "الركود التضخمي".
في مسعاها لحلّ الأزمة، تبنّتْ النخب الرأسماليّة، بوحي من مشروعات تاتشر وريغان الاقتصاديّة بالأساس، خططا اقتصاديّة مُصمَّمة لتخفيض مستوى التضخّم من خلال سياسات الخصخصة الواسعة للمؤسّسات الصناعيّة المملوكة للدولة، وتقليص نفوذ نقابات العمّال من خلال خفض الأجور، وتحرير التجارة ورؤوس الأموال، وتحفيز مؤسّسات القطاع الخاص عبر الإعفاءات الضريبيّة وتوفير الائتمان البنكي السهل. وعلى المنوال ذاته، تبنّتْ إسرائيل في أواسط الثمانينيّات من القرن الفائت "خطّة التثبيت" التي أشرف عليها الاقتصاديّ الأمريكيّ ستانلي فيشر، والتي كان مُقدّرا لها إحداث تحوّلاتٍ جذريّة في بنية الاقتصاد الإسرائيلي، عبر تخليصه من إرثه "الاشتراكي" وجعله أكثر تمركزا على المجموعات الاستثماريّة الخاصّة الكبيرة.
يقولُ ديفيد هارفي، أستاذ الجغرافيا الشهير والمُجدّد في الأطروحات الماركسيّة، أنّ واحدة من نتائج هذا المسعى المُباشِرة تجلّت في تغيّر الطريقة التي تعمل بها الرأسماليّة، وذلك عبر زيادة اعتمادها على ما يُسمّيه نمط "التراكم المرن". في ظلّ هذا النمط، أصبح في وسع وحدات صغيرة، موزَّعة في أماكن جغرافيّة مُتعدّدة، إنتاج عددٍ كبير من السلع المتباينة في مواصفاتها وأشكالها، الأمر الذي منحها مرونة عالية في الانتقال من إنتاج سلعة بعينها إلى إنتاج أخرى مختلفة، بل وفي الانتقال من بقعة جغرافيّة إلى أخرى حسب متطلّبات العرض والطلب في السوق. وقد وضع اعتماد "التراكم المرن" على البرمجيّات وتقنيّات تكنولوجيا المعلومات بدلا من الماكينات، الاقتصاديّات التي تتمتّع بكفاءات بشريّة وتقنيّة في موقع الأفضليّة النسبيّة لمواكبة هذا التغيير، والحصول على مزايا تنافسيّة في السوق العالمي الجديد الذي أصبح فيه "اللوغاريتم" أكثر أهميّة من آلة المصنع الثقيلة.
قطاع غزّة البرازيلي
كانت هذه التحوّلات مثاليّة لإسرائيل نظرا لرأس المال البشريّ الذي استطاعت مراكمته خلال عقود. وقد جاء عقد التسعينيات ليحمل لها هديّة نموذجيّة عجّلت من سرعة مواكبتها للاتّجاه الحثيث نحو "التراكم المرن"، وتمثّلتْ في تدفّق أفواج المهاجرين السوفيات عليها بالآلاف، وهي كانت تضمّ في صفوفها مهندسين وأطبّاء وعلماء في مجالات التقنيّة المختلفة، يتمتّعون بمستويات تعليميّة وخبرة أعلى من تلك السائدة في إسرائيل آنذاك. ولعلّ الوقائع والأرقام تكشف عن هذه الديناميّة الصاعدة منذ التسعينيات، إذ تشير إلى أنّ إسرائيل، رغم أنّها استطاعتْ صناعة حواسيب ورقاقات الكترونيّة مُتطوّرة منذ الستّينيات، إلا أنّ صناعتها هذه لم يُكتب لها تحقيق نجاحات كبيرة بسبب افتقادها المزايا التنافسيّة. في المقابل، وما أن ازدهرتْ قطاعات البرمجة (Software) حول العالم، حتّى كانت إسرائيل تُحقّق اختراقات نوعيّة في السوق العالمي، وهو ما انعكس في ارتفاع قيمة صادرات تقنيّتها العالية من 3 مليارات دولار عام 1991 إلى 12.3 مليارا عام 2000، قبل أن تصل إلى 29 مليارا في العام 2006. وفي موازاة ذلك، ساهمتْ "عمليّة السلام" التي انطلقتْ في التسعينيات في "تحرير" إسرائيل كليّا من قيود المقاطعة، وتحويلها إلى سوق يستقطب الاستثمارات الأجنبيّة بفاعليّة كبيرة، حيث ارتفعتْ قيمة هذه الاستثمارات من 400 مليون دولار فقط عام 1991 إلى 3.7 مليارات دولار في العام 1997. مع بدء عصر الحروب الأمريكيّة الكبيرة وغير التقليديّة على "الإرهاب" مطلع القرن الجديد، اندفعتْ صناعة التقنيّة الإسرائيليّة إلى حدودٍ جديدة في ظلّ الازدهار الذي أحدثته هذه الحروب في صناعة الأمن والمراقبة وتقنيّات التعامل مع حروب المدن حول العالم. في هذا المضمار بالذات، استطاعت إسرائيل تسويق نفسها كأهمّ مُصدّر للسلاح وتقنيّات المراقبة والقمع، مُتكئة على تجربتها الطويلة في الأراضي الفلسطينيّة. لم تعد غزّة، في عالم الإعلان والصورة هذا مجالا حيويّا لتجريب أحدث أشكال التكنولوجيّا الإسرائيليّة، بل "نشرة" تسويقيّة تُغري فيها إسرائيل زبائنها في كلّ مكان.
هذه الخلاصة ربما تثير السؤال: هل ستُؤدّي زيادة انخراط إسرائيل في الاقتصاد الدولي عبر الاعتماد المتزايد على صادرات الأسلحة والتقنيّة إلى تعميق عمليّة تحويل الجيش الإسرائيلي إلى شركة كبيرة؟ وإذا كانت هذه هي الحال فعلا، أفلا تحتاج هذه الشركة إلى تحديث مُستمرّ في أدواتها التسويقيّة عبر زيادة قمع الفلسطينيّين وابتكار أساليب جديدة للتحكّم بهم؟ وإلى أيّ حد يُمْكن لهذه الشركة أن تحافظ على التوازن بين نموذج الربح في السوق العالمي ونموذج القمع المتطوّر للفلسطينيّين بخسائره الجسيمة؟
في نهايات فيلم "المُختبر"، يصطحب ليو يوتام في رحلة عمل إلى البرازيل. وهنا، يصحب ضبّاط الشرطة البرازيليّين ليو تحت أنظار الكاميرا في جولة قصيرة في حي "دي أليامو" العشوائي والمكتظّ بالسكّان في القطاع الشمالي من مدينة ريو، حيث تُواجه الشرطة عصابات المخدّرات والمجرمين. استطاعت الشرطة البرازيليّة بفضل تدريبات غليسر وخدماته الأمنيّة السيطرة على الحي في العام 2010، مُخلّفة 1337 قتيلا من سكّانه. سرعان ما ظهّرتْ هذه التجربة الدمويّة مُفارقة غرائبيّة لكنّها مليئة رغم ذلك بالمعاني: لقد اتّخذ حي "دي أليامو" بين السكّان المحليين اسمها كوديّا هو قطاع غزّة!