في ذكرى التفويض: ماذا بقي من دولة ناصر سوى عامر؟

يحرص عبد الفتاح السيسي على الالتصاق بذكريات جمال عبد الناصر، محاولاً ـ في أكثر من مرة ـ أن يقدم نفسه كخليفة للزعيم العسكري، قائد الانقلاب على الحكم الملكي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. في العام الماضي، اختار ذكرى 23 تموز/ يوليو كي يدعو جماهيره لما أسماه "تفويضاً وأمراً لمواجهة العنف والإرهاب المحتمل". وفي العام الجاري، لم ينس ذكر التفويض في خطابه بمناسبة الذكرى ذاتها، مع حرص على ربط "25
2014-07-30

إسماعيل الإسكندراني

باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر


شارك
تصميم عدن الشهال الركابي

يحرص عبد الفتاح السيسي على الالتصاق بذكريات جمال عبد الناصر، محاولاً ـ في أكثر من مرة ـ أن يقدم نفسه كخليفة للزعيم العسكري، قائد الانقلاب على الحكم الملكي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. في العام الماضي، اختار ذكرى 23 تموز/ يوليو كي يدعو جماهيره لما أسماه "تفويضاً وأمراً لمواجهة العنف والإرهاب المحتمل". وفي العام الجاري، لم ينس ذكر التفويض في خطابه بمناسبة الذكرى ذاتها، مع حرص على ربط "25 يناير 2011" و"30 يونيو 2013" بذكرى "23 يوليو 1952"، واعتبار الثلاثة كمحطات متتالية على الخط نفسه. لكن رطانة الخطاب الشعبوي، الركيك بلاغياً، والمليء بالأخطاء اللغوية، لا تجد أفعالاً وممارسات سياسية تدلل عليها، بل يتفوق السيسي على كل من السادات ومبارك في قوة الردة في وقت قياسي عن السياسات الناصرية.

السيسي لا يمكن أن يكون جمال عبد الناصر جديداً، كما كتبت رباب المهدي، استاذة العلوم السياسية في القاهرة، والمناضلة اليسارية المعروفة. فبالإضافة إلى الأسباب الموضوعية المرتبطة باستحالة تكرار الظرف السياسي والاقتصادي المحلي، والإقليمي والعالمي، فهي دعّمت وجهة نظرها بأسباب ذاتية متعلقة بفارق العمر والطموح والتكوين والتوجهات الاقتصادية. لكني أزيد على ما كتبتْ بزعمي أن أنسب شخصية يمكن أن يقارَن بها السيسي من مجلس قيادة ثورة يوليو هو عبد الحكيم عامر.

حصل عبد الحكيم عامر على رتبة المشير (فيلد مارشال) من دون خوض أية حروب ميدانية، وهو ما أثار تعليقاً فريداً من أحد الزائرين الأجانب واصفاً إياه بـ"المشير السياسي"، أي الذي استحق الرتبة لغرض سياسي غير عسكري. وهكذا قفز السيسي من رتبة لواء إلى رتبة مشير في أقل من عامين، حين قام الرئيس المعزول محمد مرسي بترقيته ترقية مضاعفة إلى فريق ثم إلى فريق أول، وقام هو نفسه باستصدار ترقية من الرئيس المؤقت عدلي منصور فصار أول من يحصل على رتبة مشير بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 من دون خوض الحرب.

"عبد الفتاح عامر" والجيش

أنهك عبد الحكيم عامر الجيش مقصِّرا في تدريبه وكفاءته. ويشهد محمد عبد الغني الجمسي في مذكراته المهمة عن حرب أكتوبر أن جمال عبد الناصر قبل أن يصعّد الموقف ضد إسرائيل في مطلع حزيران/ يونيو 1967 بقرار إغلاق مضيق تيران ـ مدخل خليج العقبة ومنفذ إسرائيل الوحيد إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي ـ سأل عبد الحكيم عامر عن استعداد الجيش، فأجاب عامر بأن الجيش في قمة استعداده. وقعت الهزيمة النكراء التي أفضت إلى انكسارات كبيرة وعميقة في المنطقة العربية كلها، ورحل عامر عن عالمنا بطريقة اختلفت فيها الروايات، ونطق الصامتون بما سكتوا عنه طيلة عقد من الزمان منذ العدوان الثلاثي (حرب السويس 1956) فانكشفت كثير من مواطن الخلل.

ظاهرياً، يبدو جيش السيسي أكثر محافظةً وانضباطاً أخلاقياً من جيش عامر، فلا حديث الآن عن اتباع الوسائل القديمة في الإخضاع والسيطرة بالفضائح الجنسية وما شابه. لكن عمق الأزمة واحد. فالجيش منشغل بإدارة مصالحه الاقتصادية عن تدريب جنوده ورفع كفاءتهم ومستوى جهوزيتهم. وإن كان من المقبول والمعقول أن يكون للجيش خطوط إنتاج وتصنيع وإدارات هندسية وإنشائية ذات أنشطة مدنية لتحقيق أهداف تدريبية واقتصادية مفهومة، إلا أن ابتذال الجيش وأسماء أسلحته وإداراته في أنشطة استهلاكية وخدمية غير لائقة، ينذر بحجم الخلل الذي يكابر قادة الجيش، وعلى رأسهم السيسي، أن يعترفوا به: بلغ الأمر إلى نشر إعلان في أحد أهم شوارع القاهرة الرئيسية عن بيع كعك العيد في "دار الأسلحة والذخيرة"، فضلاً عن منفذ بيع منتجات الجيش الثاني الميداني في مدخل مدينة الإسماعيلية، حيث تَعرض الرفوف زيوت الطبخ والصلصلة والصابون أمام ضابط برتبة رائد يجلس في المنفذ مشرفاً على البيع والشراء. وبعد أن انتشرت دور المناسبات وإقامة الأفراح التابعة للجيش، بلغت السريالية مداها بافتتاح "كوافير" للنساء تابع للقوات المسلحة المصرية...

ورث السيسي الجيش وأنشطته الاقتصادية الاستهلاكية والخدمية عن سلفه محمد حسين طنطاوي، أطول من تقلد منصب وزير الدفاع في تاريخ مصر. في عهد طنطاوي، يحكي كبار ضباط الجيش المتقاعدين أن التحول في العقيدة العسكرية تحت قيادته اقتصر على النص التالي "مهمة الجيش هي حماية الشرعية الدستورية". ومع تعاظم دور الشرطة ومباحث أمن الدولة، كان الجيش بعيداً بشكل كبير عن الاحتكاك المباشر بالمدنيين، إلا من خلال تلك الأنشطة الاقتصادية التي لم تكن على درجة الإزعاج نفسها التي سببتها سياسات الخصخصة والنيوليبرالية. لكن عهد السيسي يشهد تحويل مهمة الجيش إلى مكافحة الإرهاب وحفظ الأمن الداخلي. وقد دفعت سياساته القمعية العنيفة إلى تصدير عمليات "أنصار بيت المقدس" من شمال سيناء إلى عموم شبه الجزيرة، ثم إلى خط القناة والدلتا، بل إلى قلب العاصمة وأمام مديرية الأمن بها. تحولت "أنصار بيت المقدس" من استهداف المصالح والقوات الإسرائيلية إلى الاشتباك مع القوات النظامية المصرية ثم إلى عدم الاكتراث لوجود مدنيين في محيط عملياتها ضد الجيش والشرطة. وهذه إحدى تعريفات الإرهاب. ونشأت في الجيزة جماعة جديدة تدعى "أجناد مصر" تقصر عملياتها على الشرطة ـ حتى الآن ـ فضلاً عن وقوع الاعتداء على نقطة حرس الحدود بالقرب من واحة الفرافرة في الصحراء الغربية، الذي أسفر عن مقتل 23 جندياً وضابطاً.

تورط جيش السيسي ـ ولا يزال ـ في انتهاكات موسعة وجرائم ضد المدنيين في سيناء، وظهر واضحاً من خلال التوثيق الميداني لكثير من هذه الوقائع أن تعامل القيادات مع الخلل لا يتجه إلى رفع كفاءة الجنود وتحسين تدريبهم، بل إلى تحصينهم من المساءلة والجزاء. ولنا أن نتخيل مجنداً قضى الفترة الأولى من تجنيده الإجباري يؤجّر طاولات "بينغ بونغ" و"بلياردو" في مركز ترفيهي تابع للجيش، أو يخدم في فندق أو قرية سياحية، ثم يتم نقله ـ لأي سبب ـ فجأة إلى الميدان من دون تدريب أو تسليح كافٍ. لذلك، يثار السؤال عن معنى قضاء خدمة عسكرية جبرية في أعمال تدر دخلاً كبيراً مقنناً لضباط الجيش من دون مقابل مجزٍ، وهو ما يشبه السخرة والعمالة المجانية، من دون أن يحصل هؤلاء الشباب المرتهن مستقبلهم بشهادة أداء الخدمة العسكرية على تدريب كفء يحميهم من الاستهداف طالما رآهم الجهاديون الآن كفّاراً من جنود الطاغوت!

الحرب على الفقراء، والمنّ الكاذب على فلسطين

إنهاك الجيش وتراجع كفاءته بما ينذر بالكارثة ليس الأزمة الوحيدة. فالعسكريون يتوغلون في الحياة المدنية ويستحوذون على المناصب التنفيذية والاستشارية بشكل منقطع النظير. وتسند الى الشركات التابعة للجيش المشروعات بالأمر المباشر، من دون مناقصات أو منافسة، وهي مدعومة من ميزانية الدولة ومعفاة من الضرائب في الوقت ذاته، وهذا معنى القول الشائع عن الجيش إنه "دولة فوق الدولة". والواقع يشهد بأن العسكريين في مصر يرون أنفسهم طبقة أعلى وأرقى من سائر المدنيين، بل يتناقل ذوو الخبرة مع الوسط العسكري اعتبارهم كلمة "مدني" إهانة وسبّة.

على الرغم من كل الانتقادات التي يمكن أن توجه للفترة الناصرية، بما في ذلك الاستعلاء المعرفي على غير العسكريين، إلا أن سياسات ناصر كانت تهدف إلى تحقيق عدد من الإصلاحات الاجتماعية كتلك التعليمية والزراعية وتدشين المشروعات الكبرى من أجل التشغيل المكفول اجتماعياً وصحياً. أما التوجه العروبي لعبد الناصر، الذي شارك بنفسه في حرب 1948، فقد كفل للاجئين الفلسطينيين مساواة كاملة مع المواطنين المصريين، بل زاد عنها في بعض الأحيان تمييزاً إيجابياً لهم في إعانات الطلبة وتدريب الطلاب الفلسطينيين في سيناء على الرماية والقتال دون المصريين.

بدأ السيسي انقلابه بتوظيف ذكرى 23 يوليو في الدعوة إلى ما أسماه التفويض، واستمال أسرة جمال عبد الناصر حتى انتزع منهم تأييداً صريحاً لترشحه، ونافس محلله الانتخابي حمدين صباحي على استحقاق وراثة عبد الناصر حتى تخلى المخرج خالد يوسف عن رفيقه وأيد السيسي. وحين أتى موعد التنصيب، وجدت أسرة عبد الناصر مقاعدها في الصفوف المتأخرة، واحتلت أسرة السادات الصفوف الأولى. أما توجهه نحو النيوليبرالية الاقتصادية، فقد نجح فيما لم ينجح فيه أي من السادات ومبارك، وتجرأ على رفع الدعم جزئياً عن الوقود ورغيف الخبز والكهرباء والغاز الطبيعي في المنازل. وعن موقفه من القضية الفلسطينية، فقد بدأ من حيث انتهى مبارك، وزاد عنه مَنّا كاذباً على فلسطين بأن مصر قدمت مئة ألف شهيد للقضية الفلسطينية، وكأن مدرسة بحر البقر ومصنع أبو زعبل ومدينة السويس وشبه جزيرة سيناء بالكامل تقع بين الجليل والخليل، أو بين الرملة ورام الله. وبغض النظر عن حديثه عن "القدس الشرقية" كعاصمة لفلسطين، فإن أقصى درجات العبث لا يمكن أن تتخيل كيف تجرأ على تحميل الفلسطينيين مسؤولية اقتصاد مصر المنهار منذ ستين سنة! هكذا قالها صريحة في الذكرى الأولى للتفويض والذكرى الثانية والستين لما أسماها "ثورة يوليو المجيدة"، فأي مجد تليد ورث؟ وأي مجد أضاع؟!

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه