ماذا يهدد أمازيغ مصر في سيوة؟

رحلة طويلة في أعماق الصحراء تجتازها بالسيارة في ثماني ساعات من الإسكندرية أو عشر ساعات من القاهرة كي تكتشف قطعة من جنات عدن في أقصى غرب مصر، على الضفاف الشرقية لبحر الرمال العظيم، الصحارى الجدباء القاحلة في العالم. تداعب الأفكار خيالك قبل أن ترى الواحة لأول مرة وتلتقي أهلها. وفي الطريق، تتدافع توقعاتك بحسب الصور النمطية التي قد تكون قد نُسجت على نول خيالك من غـــــزْل بهاء طاهر في رواية
2014-08-20

إسماعيل الإسكندراني

باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر


شارك
الصورة لأسماء الرافعي

رحلة طويلة في أعماق الصحراء تجتازها بالسيارة في ثماني ساعات من الإسكندرية أو عشر ساعات من القاهرة كي تكتشف قطعة من جنات عدن في أقصى غرب مصر، على الضفاف الشرقية لبحر الرمال العظيم، الصحارى الجدباء القاحلة في العالم. تداعب الأفكار خيالك قبل أن ترى الواحة لأول مرة وتلتقي أهلها. وفي الطريق، تتدافع توقعاتك بحسب الصور النمطية التي قد تكون قد نُسجت على نول خيالك من غـــــزْل بهاء طاهر في رواية «واحة الغروب»، أو مشهد استشفاء صلاح السعدني في رمال سيوة في مسلسل «الأصدقاء»، أو ربما اختلط عليك فيلم «شمس الزناتي» الذي تم تصويره في الواحات البحرية التابعة لمحافظة الجيزة.

لا بد أن يكون لديك دافع قوي لتتكبّد مشقة السفر لـ300 كيلومتر إلى الجنوب الغربي من مرسى مطروح، عاصمة واحدة من أكبر المحافظات المصرية وأقلها كثافة سكانية على الإطلاق. مسافة كافية لتغيّر الطقس من مناخ البحر المتوسط المعتدل على الساحل الشمالي، الممتد من الإسكندرية حتى السلّوم، إلى المناخ القاريّ، الشديد الحرارة في نهار الصيف، والشديد البرودة في ليل الشتاء. في كل الأحوال، لن يضيع جهدك هباءً وستقضي فترة من أجمل لحظات حياتك محفوفاً بضيافة أهلها الودودين وجمالها الخلاب نادر التكرار.

تسحرك مياه الينابيع والبحيرات حتى يُخيّل إليك على غير الحقيقة حين تعرف بتدفقها منذ آلاف السنين أنها في مأمن من النضوب. أما أطراف أشعة الشمس الوليدة فوق جبل الدكرور، تلك التي قد شيّعْتَها مساء أمس منعكسة على الماء في جزيرة فطناس البديعة، فتروي لك قصة البعث بعد الممات. أجواء روحانية تجبرك على التدبر في صنعة الخالق، الذي وهب موات الصحراء الأصفر حياة البساتين الغنّاء الخضراء المباركة بأكثر من 120 صنفاً من أصناف البلح والتمور، كما العديد من أنواع الزيتون، وتتعجب حين تتساءل كيف كانت الواحة في اكتفاء ذاتي قديماً دون حاجة ملحّة إلى الاتصال الدائم بالعالم الخارجي!

سباحة في عين كليوباترا، وجولة بين معبد تتويج الإسكندر الأكبر وأطلال معبد آمون وجبل الموتى، ثم ختام بزيارة لقلعة شالي القديمة وإطلالة على مسجدها الصغير المرتفع، يضع خيالك في سينما التاريخ، حيث تمر القرون سريعاً على شريط العرض أمام عينيك المغمضتين في تأمّل ممزوج بانسجام وابتسام. تفيق من حلمك منتبهاً، وتفتح عينيك مفزوعاً لترى قسم الشرطة مبنيّاً بأحجار معبد آمون بعد أن دمّره المأمور محمود عزمي ليريح دماغه من شغف زوجته الأيرلندية بالآثار القديمة، واللغط الذي أثاره خروجها وحدها في مجتمع شديد المحافظة قبل ما يزيد عن قرن من الزمان.

الإسفلت والخرسانة..

كان محمود عزمي ضابطاً شريفاً مؤيّداً للثورة العرابية، فتم تكديره بإرساله إلى أبعد مكان عن العمران، حيث لم يكن التواصل باللغة العربية ممكناً مع أغلب سكان الواحة الناطقين بالأمازيغية السيوية. استقامة مَن يمثل الدولة أو فساده لم تكن ذات صلة بنظرة العاصمة المركزية لأطرافها، تلك النظرة التي افتقرت للثقة أمنياً، واقتصرت على الهيمنة والإخضاع سياسياً، وقامت على الجباية اقتصادياً. أما الحفاظ على آثار التاريخ والتراث المحلي وحماية التنوع الثقافي والاعتزاز به كمصدر للثراء الشعبي والوطني، فهي الأحلام المؤجلة لسكان الأطراف المصرية جميعاً.
زار الملك فؤاد الواحة في الربع الأول من القرن العشرين، وبُني الجامع الكبير مما تبقى من أحجار المعبد بعد بناء قسم الشرطة، وسمّي باسم الملك الذي أصدر تعليماته لنظارة الري والزراعة بإنشاء بعض المشروعات والإصلاحات التي حسّنت من الحياة الزراعية لسكان الواحة. ظلّ اتصال الواحة بالعالم الخارجي مقتصراً على دروب القوافل التي تصلها بالواحات البحرية إلى الجنوب الشرقي، وواحة الجغبوب الليبية في الشمال الغربي، ومدينة مرسى مطروح في الشمال الشرقي. قام الرئيس أنور السادات بزيارة الواحة في نهاية عهده، وطالبه شيوخ الواحة باستبدال المدق الترابي الشمالي بطريق أسفلتي يسهّل الانتقال إلى مطروح، فأصدر قراراً بتوفير مروحية عسكرية تنقل المسافرين بين سيوة ومطروح مرتين أسبوعياً لحين الانتهاء من الطريق الأسفلتي الممتد لمسافة 307 كيلومترات.

كانت هذه نقطة البداية لتمدين الواحة، بما في ذلك من مزايا وعيوب. فبدأت علاقة سيوة بالدولة المصرية تتجه إلى الإدارة المدنية الجزئية عوضاً عن خضوعها التام للإدارة العسكرية وتبعيتها لسلاح حرس الحدود (إذ تعتبر السلطة أغلب مساحات مصر «مناطق حدودية» تفرض عليها هيمنة النظام العسكري). هكذا صار لسيوة مجلس مدينة وأنشئت المدارس الحكومية والأزهرية، وتم إلغاء شرط الحصول على تصريح عسكري لزيارة الواحة تمهيداً لوضعها على الخريطة السياحية لمصر (بينما تتبع لها واحة صغيرة اسمها «الجارة» ليس فيها نشاط سياحي، ولا يزال ينطبق عليها ذلك التعسف الأمني / العسكري).

أراد القدر أن يتزامن اتصال سيوة المفتوح بالعالم مع هطول استثنائي لأمطار غزيرة نادرة، شبيهة بتلك التي أنقذت جيش الإسكندر الأكبر من الهلاك عطشاً في قلب الصحراء بعد أن نفدت مؤونتهم في رحلتهم الطويلة قبل أكثر من ألفي سنة. تسببت أمطار ذلك الشتاء في النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين في سيل جارف كان وبالاً على بيوت الواحة وقلعة «شالي» القديمة، التي كانت مبنيّة جميعاً بمادة «الكرشيف» المحليّة الشبيهة بالطوب اللِبن (الطيني) في الريف المصري. وهكذا، ترافق دخول الوافدين إلى الواحة مع لجوء أهلها إلى البناء بالخرسانة والعزوف عن الطراز المعماري المميِّز لتراثها، وما كان به من أنظمة مستدامة لتدوير المخلفات المنزلية وتصميمات داخلية تزيد من الترابط العائلي وتوارث الثقافة والتاريخ الشفهي، مع الحفاظ على العادات والتقاليد المحافظة.

زاد الطين بلة أن تعرّضت الواحة لنهب تراثها من المشغولات الفضية الفريدة عن طريق بعض الأجنبيّات اللاتي «اشترين» من النساء مشغولاتهن الموروثة من عقود طويلة، فباتت الواحة مهددة بضياع تراثها المادي، لولا مبادرات شبابها لتوثيقه وإحيائه بالجهود المجتمعية وبالتعاون مع بعض الهيئات الثقافية الوطنية والأوروبية. إلا أن خطر الأسفلت عاد ليهدد الواحة من جديد مع الانتهاء من تعبيد الطريق الذي يصلها الآن بالواحات البحرية، وهو ما يخشاه المهتمون بالحفاظ على شخصية الواحة وثقافتها وفرادتها وتميّزها، من تحولها إلى مركز تجاري على طريق التجارة مع ليبيا، في حالة استتباب الأمن والاستقرار السياسي.

ثورة الاتصالات

تسارعت المتغيرات على الواحة النائية في العقود الثلاثة الأخيرة. فلم يكن اتصالها الأرضي عن طريق الأسفلت الإرباك الوحيد الذي طرأ على مجتمعها، إذ إن انفتاح السماء على استقبال البث الإذاعي والتلفزيوني كان أيضاً جديداً عليها، ثم ما لبث انفجار القنوات الفضائية وانتشار الإنترنت أن قرّب المسافات، فلم يعد سكان الواحة، الذين لا يتجاوز عددهم 30 ألف نسمة تقريباً، في معزل عن عشرات الملايين من المصريين وغير المصريين عبر الأثير الفضائي والإلكتروني.

الاعتراف بالتنوع

لا يعترض أهل الواحة على الاستجابة للضرورات العصرية، ولا يقلقهم أن لغتهم الأمازيغية بلهجتهم السيوية لا يتحدثها غير عددهم القليل، وهي لا تزال اللغة الأم التي يتلقاها الرضيع كما يلتقم حليب أمه، فلا يتعلم الأطفال اللغة العربية إلا بدخولهم رياض الأطفال والمدارس الابتدائية. تخرج التحديات الثقافية التي تواجه سيوة من سؤال الخصوصية المحلية في مقابل العولمة إلى السؤال الاجتماعي السياسي التقليدي: لماذا تخشى الدولة من الاعتراف بتنوّع مواطنيها؟ لماذا لا تنظر القاهرة إلى النوبيين كسفراء لمصر إلى القرن الأفريقي خصوصاً وسائر القارة عموماً؟ ولماذا لا يكون أهل سيوة الأمازيغ خير من يمثل وطنهم في شمال أفريقيا كله، خاصة في الجزائر والمغرب؟ لماذا تشك الدولة المركزية في مواطني أطرافها؟ ولماذا تعتبرهم مشروع امتداد من خارج حدودها إليها بدل أن تضعهم في طليعة قوتها الناعمة في دول الجوار والعمق الاستراتيجي؟
النظرة المتشككة وغياب الثقة جعل من الاحتفاء باللغة الأمازيغية موضوعاً أمنيّاً في عهد مبارك. وعلى الرغم من الانفتاح السياسي الذي أعقب الثورة، حيث تم إنتاج فيلم وثائقي بعنوان «أمازيغ مصر»، وأتيح لاثنين من رموز الواحة تمثيل أمازيغ مصر كضيف شرف في مؤتمر ضخم جامع للأمازيغ في الجزائر عام 2011، إلا أن فكرة تدوين اللهجة السيوية الأقرب للهجة الشاوية الجزائرية بالحروف الأمازيغية لا تزال بعيدة عن مجال التطبيق للأسباب السياسية والأمنية ذاتها. وإذا كان من الخطأ إهدار التنوع بين كل ما هو مختلف عن النمط المركزي السائد في القاهرة وشمال وادي النيل، فإن الخطيئة التي يقع فيها بعض المهتمين بالتنوع في جانبه الفلكلوري هي عدم دراسة تفاصيل التنوع داخل هؤلاء المختلفين، وكذلك بحث رؤيتهم عن ذواتهم وإدراكهم لهوياتهم الثقافية.

امازيغ.. بلا عبث سياسي

لم يدرك السيويّون أنهم أمازيغ إلا إثر زيارة وفد من أمازيغ الجزائر للواحة في الثمانينيات، بعد دخول الإسفلت، حيث اكتشفوا أن لغتهم غير العربية، ليست «لغة سيوية» كما كانوا يظنون، بل لهجة من اللغة الأمازيغية الأم. حينها فقط بدأ اهتمام قادة الرأي في الواحة بدراسة التاريخ القديم للواحة والتعرف على امتداداتهم الثقافية في شمال أفريقيا. ومن اللافت ألا يهتز أهل سيوة لدعاوى التخوين التي استهدفتهم، قد يرد بعض رموزهم عليها أحياناً، إلا أنهم يتحدثون بلغة الواثق في تاريخ ولائهم للدولة واعتراف أجهزة الدولة بذلك الولاء. وإن كان هناك "اشتغال" على الامازيغ في عموم المنطقة (وفي الجزائر والمغرب خصوصاً) لدفعهم الى الانفكاك عن العرب، واستغلال الجهات التي تقوم بذلك (ومن بينها منظمات يشتبه بأنها صهيونية) لتظلمات هؤلاء وللغبن الذي يشعرون بأنه يطالهم، بل ولاضطهادهم أحياناً بدعاوى إنكار الخصوصية وفرض التجانس وما الى ذلك. فتلك الدعاوى لا تلاقي أي صدى لدى أمازيغ واحة سيوة.

وهم يعلنون تكراراً ارتباطهم السياسي/الوطني ببلدهم. ويفوق هذا الارتباط أواصر الصلة بين الأمازيغ الذين يمتد وجودهم من مصر إلى مالي مرورا بليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وكذلك في واحات الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل الأفريقي. كما، وبسبب الاختلاف الكبير بين اللهجات الأمازيغية، فإن قناة «تمازيغت» الفضائية المغربية لم تسترع اهتمام أمازيغ سيوة ولا يتابعونها في الواحة مثلما يتابعون القنوات العربية ذات الطابع البدوي.

الانتماء الأمازيغي لدى أهل الواحة انتماء ثقافي ولغوي، وليس انتماءً عرقياً. فالجميع يؤكد امتزاج المكون الأمازيغي (البربري) مع المكون العربي منذ قرون، وهي سابقة فريدة في التصالح رغم التباين في العادات والتقاليد. ما لبث المكون العربي أن ذاب في الثقافة الأمازيغية، حتى تميّز أهل الواحة عن البدو وقبائل «أولاد علي» المنتشرة بين مطروح والمنطقة الليبية الشرقية.

قلة عدد أهل الواحة وندرة منابرهم ومحاضنهم الثقافية، مع الانفتاح الشديد في الاتصال بالعالم الخارجي، ووضعها الجديد في منتصف الطريق بين الواحات البحرية وبين مرسى مطروح والسلوم، يزيد من مخاطر إذابة الخصوصية الثقافية وسط أغلبية عددية من الوافدين والزائرين، خاصة إذا أقدمت الدولة على مشروع إعادة تقسيم المحافظات دون دراسة اجتماعية وافية.

مقالات من سيوة

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه