تونس: الليالي السود وزهر اللوز..

لا بدّ من شرارة: ظهيرة يوم 14 كانون الثاني / يناير، تداولت صفحات وحسابات فيسبوكية فيديو يصوِّر كيف يعتدي عون شرطة بلدية على راعي أغنام شاب، ويهينه، لأن بعض الأغنام غافلته وأكلت من عشب حديقة البلدية. وقعتْ الحادثة في محافظة "سليانة" (شمال غرب البلاد)، وهي واحدة من أفقر مناطق البلاد على الرغم من امكانياتها الطبيعية الهائلة.
2021-01-28

شارك
مواجهات ليلية في ضواحي العاصمة تونس، حي" التضامن". تصوير: فتحي بلعيد: تونس

"في الليالي السود يجري الماء في كل عود" هكذا يقول المثل الشعبي التونسي. و"الليالي السود" هي فترة تمتد من 14 كانون الثاني/يناير (رأس السنة الأمازيغية) إلى 2 شباط/فبراير، وتأتي بعد "الليالي البيض" (25 كانون الأول/ ديسمبر - 13 كانون الثاني/يناير) التي تفتتح "التقويم الفِلاحي" أو "حساب غيلان".. غيلان شخصية أسطورية يرجح انها من أصول امازيغية ينسب اليها وضع هذا التقويم الفلاحي.

***

فترة الليالي السود تتميز ببرودة النهار ودفء الليل وهي تأتي في قلب كانون الثاني/ يناير.. أو "جانفي" حسب التسمية المعتمدة في تونس، هو شهر الهّبات والانتفاضات والثورات في البلاد، من 18 جانفي 1952، تاريخ اندلاع المقاومة المسلحة ضد المستعمر الفرنسي، مروراً، بانتفاضات وهبّات جانفي 1978 وجانفي 1984 و2008، ووصولاً إلى اسقاط الديكتاتورية في جانفي 2011. وحتى بعد الثورة، التي اختطفت بعيداً عن منطلقاتها الاجتماعية والاقتصادية، تكررت الهّبات "الينايرية" تعبيرا عن الغضب والإحباط ومحاولات تصحيح المسار. الانتخابات "الشفافة والنزيهة"، والتداول السلمي على السلطة، ليسا كافيين لضمان كرامة المواطن وسيادة الوطن. يأتي جانفي 2021 سائراً على درب اخوته، فمنذ 14 كانون الثاني/ يناير تشهد البلاد مواجهات ليلية عنيفة بين الشباب وقوات البوليس في عدد كبير من المناطق، خاصة في الأحياء الشعبية للمدن الكبرى وفي المحافظات "الداخلية"، اعتقل على اثرها أكثر من 1200 شاب. وأعقبت هذه التحركات الليلية مظاهرات نهارية دعا لها ونظّمها ناشطون مدنيون وسياسيون في العاصمة تونس ومدن كبرى أخرى. ولهبة يناير هذه السنة طعم خاص ومبررات جديدة تضاف إلى الحيف والإحباط والأزمات الهيكلية، فأولاً هي "ليلة السنوات العشر".. انقضى عقد كامل منذ سقوط الديكتاتورية وآن وقت الحساب، وثانيا هي تأتي في أوج الأزمة الوبائية وما فرضته من حجر صحي وحظر للتجول وتعطيل لعدة قطاعات اقتصادية، خاصة منها الهشة وغير المهيكلة.

لم تكن الهبة مفاجئة بشكل كلي فجانفي ولود، ومن جهة أخرى كانت بوادر الانفجار تلوح في الأفق وحذر منها عدة باحثين وخبراء اقتصاديين وسياسيين في الأشهر الفائتة، ويكفي هنا أن نشير إلى ان تونس شهدت خلال الفترة الممتدة من 1 أيلول/سبتمبر و30 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 أكثر من 2600 تحرك احتجاجي ذو طابع اقتصادي-اجتماعي في مختلف أرجاء البلاد بأشكال متنوعة وتفاوت في حجم وأهمية التحرك، وذلك حسب احصائيات "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية الاجتماعية".

ويبدو ان السلطة الحاكمة كانت تتوقع هي الأخرى حدوث شيء ما فدرست الأمر جيدا وتفتق ذهنها عن حل جذري وعبقري لكل المشاكل: أعلنت يوم 12 كانون الثاني/يناير حجراً صحيا شاملاً مفاجئاً لمدة 4 أيام فقط تبدأ مع 14 كانون الثاني/يناير.. ذكرى الثورة.

قبيل الهبة بأيام، كان هناك اعتصامان يعبّران بشكل ما عن عمق الأزمة الاقتصادية والسياسية وحتى الأخلاقية التي تعيشها البلاد. الاعتصام الأول ينفذه حاملو شهادات الدكتوراه من المعطلين عن العمل منذ شهر حزيران/ يونيو، في بهو وزارة التعليم العالي، مطالبين بتشغيلهم. وقد حاولت قوات الأمن محاصرته وقمعه عدة مرات. أما الاعتصام الثاني فهو الذي نظمه، منذ 17 كانون الأول/ ديسمبر 2020 (ذكرى حرق البوعزيزي لنفسه)، عدد من الجرحى الذين أعطبهم الرصاص والقمع البوليسي خلال الثورة، وكذلك ممثلون عن عائلات شهدائها.. ومطلبهم بسيط و"مخجل": نشر القائمة الرسمية لجرحى وشهداء الثورة. نعم، مرت عشر سنوات ونُظّمت عدة محطات انتخابية، وتداولت على السلطة أكثر من عشر حكومات، وصرفت المليارات لتأسيس وتمويل هيئات رسمية تعنى بالعدالة الانتقالية.. وما زالت الدولة لم تعتذر بعد، وتماطل في اصدار القائمة. وحتى بعد مساندة عدة أحزاب وجمعيات لمطالب الاعتصام، والاحراج الذي تتعرض له السلطة، فإنها ما زالت تناور، اذ اكتفت بنشر القائمة على صفحة فيسبوك حتى يطلع عليها المعنيون بالأمر ويقدمون اعتراضاتهم في الآجال القانونية..

كل ما سبق كان ينبئ بأنه ستكون هناك تحركات في الذكرى العاشرة للثورة، وانها لن تكون احتفالية. وبالفعل كانت هناك دعوات على منصات التواصل الاجتماعي للتحرك، أرادت الحكومة قطع الطرق أمامها، مستغلة الوضع الوبائي، عبر إلزام الناس بملازمة بيوتهم.

لكن حسابات السلطة ليست دائماً موفقة وسياساتها التي قد تبدو صلبة يمكن ان تكون واهنة. ظهيرة يوم الخميس 14 كانون الثاني / يناير، تداولت عدة صفحات وحسابات فيسبوكية فيديو يصور كيف يعتدي عون شرطة بلدي على راعي أغنام شاب ويهينه لأن بعض الأغنام غافلته وأكلت من عشب حديقة البلدية. وقعت الحادثة في محافظة "سليانة" (شمال غرب البلاد)، وهي واحدة من أفقر مناطق البلاد على الرغم من امكانياتها الطبيعية الهائلة. وتمت مشاركة الفيديو بشكل مكثف وسريع، وأثار غضب الكثير من التونسيين. طبعا هذه الحادثة "عادية" جداً وتتكرر في مختلف ارجاء البلاد، وقد لا تعتبر عنيفة جداً مقارنة بحوادث أخرى كانت فيها الممارسات البوليسية اشد حدة وايذاء. لكن "جانفي" ليس كسواه من الشهور، والذكرى العاشرة للثورة لها اعتبار خاص.

في اليوم نفسه، اندلعت احتجاجات في محافظة "سليانة" ثم ستبعتها احتجاجات في محافظات أخرى في الأيام التالية وصلت إلى العاصمة والمدن الساحلية. في البداية كانت تحركات ليلية بدون شعارات أو مطالب واضحة: يخرج الشباب الغاضب في المناطق الأكثر فقراً وتهميشاً في ساعات الليل الأولى يحرقون عجلات سيارات، وفي حالات قليلة هاجم بعضهم فروع سلسلة محلات تجارية معروفة، وأحيانا فروعا بنكية أو إدارات عمومية. سرعان ما تأتي تعزيزات أمنية من وحدات واجهزة مختلفة، وفي أغلب الأحيان يكون تدخلها عنيف جداً ومهين، وغير متناسب بالمرة مع الوضعية. يتحول الأمر إلى مواجهات بين الشباب والبوليس، أسلحتها الأساسية الحجارة من قبل المحتجين وقنابل الغاز المسيل للدموع من قبل الأجهزة الأمنية.

وتلت ذلك حملة اعتقالات واسعة لم تقتصر على المحتجين بل شملت حتى مدونين وطلبة ساندوا التحركات أو حرضوا عليها. انتشرت عدة فيديوهات عن الممارسات القمعية لأعوان شرطة، بعضهم يجر الموقوفين على الأسفلت، وآخرون يتكتلون جماعة لضرب موقوفين مقيدي الأيادي، وشرطي آخر يتعمد القاء القنابل المسيلة للدموع على شرفات المنازل.

وبموازاة ذلك، تنشط آلة الدعاية المقربة من السلطة، تفتح القنوات والإذاعات (خاصة منها المملوكة للقطاع الخاص) منابرها للسياسيين والمسؤولين الأمنيين، وللمحللين السياسيين، لكي يتحدثوا عن "المخربين" و"الملثمين" و"المنحرفين" و"المندسين" و"التحركات الليلية المريبة".. وطبعاً لا ينسون ان يُذكّروا بأنهم مع "حرية التعبير" و"الاحتجاج السلمي"، وأن يعبروا عن تفهمهم ل"مطالب الشباب المشروعة"، ويحذروا الناس من مخاطر الاحتجاج على الصحة نظراً لانتشار الوباء.

على الفيسبوك ينقسم الناس، حسب انتماءاتهم الطبقية والسياسية ومدى تأثرهم بالدعاية السلطوية. فمنهم من يجرِّم هذه التحركات متسائلا عن سبب تنظيمها ليلاً، وبعضهم يتحدثون عن ثورة جديدة، وآخرون يقفون في المنتصف أو يعجزون عن ابداء رأي واضح أو لا يهمهم الأمر أصلاً..

تتعدد التحليلات ومحاولات فهم ما يجري. البعض يتحدث عن شباب ضائع لا هدف له ولا آفاق، يعبّر عن احباطه بالتحركات العنيفة. يذكرنا البعض بأن قرابة المليون تونسي انقطعوا عن التعليم في العقد الأخير وهجروا المدارس لينظموا إلى قوافل العاطلين العمل والمشتغلين في قطاعات الاقتصاد الموازي والباحثين عن "خيط حرقة" (فرصة هجرة غير نظامية). آخرون يحاولون تحليل أسباب كره الشباب للأجهزة الأمنية. لكن الأسئلة أكثر من التحليلات والأجوبة. كيف ولماذا تحولت الأحياء الشعبية إلى غيتوهات؟ ما الذي تحقق من منطلقات الثورة وأهدافها ووعودها، خاصة في المناطق التي دفعت ضريبة الدم؟ أين فشلنا؟ من المسؤول؟ ما العمل؟

تركز آلة الدعاية السلطوية على مسألة "ليلية" التحركات، وعدم وضوح مطالبها، لتبرر القمع والتجاهل، فينظم ناشطون مدنيون وسياسيون مظاهرات في وضح النهار وفي قلب الساحات والشوارع الرئيسية لكبرى المدن التونسية، بشعارات واضحة ومطالب فصيحة ضد الإفقار والقمع والفساد وفشل الحكام، وعلى رأسهم حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي. حتى هذه المظاهرات "الشرعية" و"السلمية" لم تعجب السلطة وبوليسها، فكان الغاز المسيل للدموع هو ردها الرئيسي عليها.

***

في ليلة "السنوات العشر" تُنكأ الجروح القديمة وتنفتح أخرى جديدة.. لا احد يعرف كيف ستتطور الاحتجاجات فقد تتجذر وقد تخفْت سريعاً كما حدث في هبات مشابهة في عدة "ينايرات" خلال السنوات الفائتة. لكن ما هو مؤكد ان الأوضاع تتعفن بشكل مخيف وأن وباء كورونا، على خطورته، ليس الأشد فتكاً بالحياة البيولوجية والاجتماعية لملايين التونسيين، ممن يعيشون في القاع أو ينحدرون إليه سريعا.. فهناك أوبئة الفقر والبطالة وانعدام الأفق، ولا يمكن "حجر" الناس إلى الأبد!

***

في الليالي السود يزهر أيضاً "نوّار اللوز" الجميل بأوراقه البيضاء وقلبه الأحمر، حتى أنه يوحي للناس بأن الربيع قدم على الرغم من أننا في قلب الشتاء.. تقول الأسطورة أن "غيلان"، واضع التقويم، كانت له زوجتان، يرتحل مع الأولى طيلة الخريف والشتاء، ويعود للثانية عندما يحل الربيع. في إحدى الشتاءات اشتد شوق وغيرة الزوجة الثانية، فسكبت المياه الساخنة على أشجار اللوز حتى تدب فيها الحياة.. أزهرت الشجرات وأوحت بقدوم الربيع فانخدع غيلان وقطع رحلته.. "يا لوز يا مجنون بتزهر في كانون"..

مقالات من تونس

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...

للكاتب نفسه

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...