سيناء.. نكسات «بزنس» الجنرالات

هل كان احتلال سيناء والجولان «نكسةً» كما وصفها جمال عبد الناصر، رافضاً الاعتراف بالهزيمة؟ أم أن النكسات هي ما توالت لاحقاً، حين تزاوج الجنرالات برجال الأعمال تحت عباءة اتفاقية كامب ديفيد فأنجبوا مسوخاً ترتع في سيناء من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال بلا رادع؟
2014-06-11

إسماعيل الإسكندراني

باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر


شارك

لم تكن حرب الأيام الستة حدثاً هيناً، ولم يكن النصف الثاني من سنة 1967 كالشهور والسنين السابقة، الغارقة في الأحلام العروبية التي وعدت الجماهير بإلقاء دولة الاحتلال في البحر وتحرير ما اغتصبه الصهاينة في سنة 1948 وما بعدها. والآن، وبعد مرور عقود عدة، يُطرح السؤال نفسه: هل كان احتلال سيناء والجولان «نكسةً» كما وصفها جمال عبد الناصر، رافضاً الاعتراف بالهزيمة؟ أم أن النكسات هي ما توالت لاحقاً، حين تزاوج الجنرالات برجال الأعمال تحت عباءة اتفاقية كامب ديفيد فأنجبوا مسوخاً ترتع في سيناء من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال بلا رادع؟

في ذكرى تحريرها، تذيع وسائل الإعلام المصرية موسمياً أغنية «سينا رجعت كاملة لينا». أما النصوص الرسمية لاتفاقية كامب ديفيد (1987) ومعاهدة السلام قبلها (1979)، فتشهد أن مصر لم تستعد سيناء إلا بشروط إسرائيلية أميركية، ووعود من أنور السادات باستكمال التطبيع الاقتصادي والثقافي. وعلى الرغم من المقاومة الشعبية الجارفة للتطبيع الثقافي، حتى في أوساط بدو جنوب سيناء الذين اضطرتهم ظروف المعيشة إلى التعامل مع السيّاح الإسرائيليين، إلا أن التحول السياسي الاقتصادي الذي قاده السادات، وتبعه فيه حسني مبارك، استفاد من انخفاض الكثافة السكانية وتدهور الأحوال التنموية في سيناء، ونجح في فرض أمر واقع يتوافق مع «المسموح به» إسرائيلياً، حتى إن لم يكن استجابة صريحة «للمطلوب».

ملامح عديدة يمكن الاسترشاد بها في رسم صورة للاقتصاد السياسي/الأمني في سيناء، سواء في فهم ما يعنيه إطار كامب ديفيد من تعاون اقتصادي مباشر وتنسيق غير مباشر، أم في إدراك عمق الصراع بين الأجهزة الأمنية وأجنحة السلطة في العقد الأخير من عهد مبارك. إجمالاً، يتفق كثير من أهل سيناء أن مشروعاتها واستثماراتها كانت إقطاعية لصالح حسن راتب في شمال سيناء وحسين سالم في جنوبها. ولكل منهما قصة عميقة الدلالات وكاشفة لشبكات المصالح وحركة الأموال.

حسين سالم... رجل الأعمال والجنرال الهارب

لم يكن يجرؤ أحد على الاقتراب من اسم حسين سالم بالنشر قبل «ثورة يناير» التي تسببت بهروبه من الملاحقة القضائية في قضايا فساد كثيرة. كان زميلاً قديماً لحسني مبارك في القوات الجوية، ثم صار ضابطاً في المخابرات العامة المصرية قبل أن يستقيل اعتراضاً على أية خطط تؤدي إلى الحرب مع إسرائيل. لاحقاً، شارك حسني مبارك والمشير عبد الحميد أبو غزالة ومنير ثابت (صهر حسني مبارك) في شركة «الأجنحة البيضاء»، التي تأسست في فرنسا وكانت المورِّد الرئيسي للسلاح الى مصر.

يُطلق عليه مؤسس «شرم الشيخ السياحية»، حيث كان أول من استثمر فيها منذ 1982، وهو العام الذي تم فيه الانسحاب الإسرائيلي من كامل سيناء عدا طابا وفقاً لمعاهدة السلام. وقد أسس لصديقه وشريكه حسني مبارك مقراً دائماً للإقامة الرئاسية داخل بعض منتجعاته، كانت ملاذاً له عقب إسقاطه وقبل القبض عليه لمحاكمته. وهو المكان الذي كانت مصر فعلياً تدار منه، وكانت المؤتمرات الدولية والإقليمية تعقد فيه.

ارتبط اسم حسين سالم بواحدة من أكبر الصفقات التجارية الفاسدة في تاريخ مصر المعاصر، وهي صفقة تصدير الغاز لإسرائيل عبر أراضي سيناء. لم يقتصر فسادها على السعر الزهيد الذي يقل كثيراً عن السعر المنافس عالمياً. ولا يحمل وصف الفساد هنا مدلولاً أخلاقياً أو أيديولوجياً، بل هو بدأ بتأسيس شركة مملوكة لبعض الأطراف الوهمية غير المسجلة في بلاد المنشأ المزعومة. كان مهندس هذا الفساد هو حسين سالم، الذي كان شريكاً للجنرال الإسرائيلي المتقاعد يوسي ميلمان. وعلى الرغم من النفوذ الاستثنائي والحصانة السيادية اللذين كان يتمتع بهما حسين سالم، إلا أنه لم يخلُ من منافسة شديدة النخبوية عجز عن حمايته منها صديقه حسني مبارك.

احتدم الصراع الاقتصادي بين جمال مبارك، نجل الرئيس، وبين حسين سالم، وكانت له مظاهر عديدة مؤكدة راجت حولها بعض الأقاويل والإشاعات. لا يمكن حتى الآن تأكيد تورط وزير داخلية مبارك، حبيب العادلي، في تفجيرات شرم الشيخ (2005) التي قيل بعد الثورة إنها كانت انتقاماً من تخطيط جمال مبارك يَسْهل لصقه بمتطرفين إسلاميين، ربما تمَّ التلاعب ببعضهم واختراقهم أمنياً.

لكن الأكيد هو شن حملة صحافية ضد حسين سالم تفضح علاقاته التطبيعية الوطيدة مع الإسرائيليين. والطريف أن تقود هذه الحملة، بدرجة عالية من المهنية والاستقصاء، جريدة «المصري اليوم» المملوكة لأحد أعمدة التطبيع في مصر، وهو الناشر هشام قاسم، الوثيق الصلة بدوائر جمال مبارك المقربة.

لم ينتظر حتى سقوط رفيقه من الحكم، ولاذ بالفرار على متن طائرة خاصة إلى الإمارات العربية المتحدة في طريقه إلى سويسرا. صودر منه نصف مليار دولار في دبي، واستأنف رحلته إلى جنيف، قبل أن ينتهي به المطاف في بلده الثاني الذي يحمل جنسيته منذ سنوات عدة، إسبانيا. استغل نفوذه في الإفلات من قبضة الإنتربول مطالباً بمحاكمته في إسبانيا. ورغم تعثر الثورة المصرية، إلا أن حكماً غيابياً صدر ضده بالسجن 15 عاماً، ولم تسلمه مدريد. نُشر سابقاً عن عزمه إصدار مذكراته مع مبارك مقابل مبلغ ضخم تدفعه دار نشر فرنسية، لكن تطور الأحداث أو تدهورها أدى إلى خفوت هذا المشروع وتراجع تلاسنه ضد مبارك الذي بلغ ذروته في خريف 2011. اختفى حسين سالم وتوارت معه أسرار لا حصر لها، تكشف في جانب منها عن المآل الذي أمست إليه الدولة المصرية بعد كامب ديفيد، ويظهر الجانب الآخر منها مركزية سيناء في الأمر كله، سواء كموقع دارت فيه أغلب الشؤون ذات الصلة أو كمؤشر على السيادة والنزاهة وبوصلة العلاقات الإقليمية والدولية.

حسن راتب... مروّض الجنرالات وباني الجدار العازل

تكاد تكون قصة حسين سالم في جنوب سيناء شبه اعتيادية، رغم فجاجتها. فما هو إلا عسكري سابق وتاجر سلاح نافذ انخرط في علاقات فاسدة وقوية مع العدو الرسمي القديم والعدو الشعبي القائم، فتضخمت ثروته في أزهى عصور الفساد والاستبداد. أما القصة الاستثنائية فتدور بين وسط سيناء وشمالها.

لم يأت حسن راتب من خلفية عسكرية، لكنه أحسن إدارة علاقته بالعسكر، فامتلأت شركاته بوظائف اسمية يحتلها قادة عسكريون متقاعدون يسهل ترويضهم بإغداق الأموال عليهم في مقابل استثمار نفوذهم لإنهاء أية إجراءات عالقة. ليس المميز في قصة حسن راتب عدد الجنرالات الذين استأنسهم في شركاته، بل الفريد حقاً هو مواقع خدمتهم السابقة، فبعضهم كان مديراً للمخابرات الحربية!

في ضربة مزدوجة من الفساد والخيانة، أقام حسن راتب مصنعاً للإسمنت في وسط سيناء مملوكاً جزئياً لشركة «لافارج» ذات السجل الأسود في نقل التلوث إلى بلدان العالم النامي هروباً من القوانين البيئية الصارمة في أوروبا. أما الصفقة الرئيسية التي قام من أجلها المصنع فكانت تصدير إسمنت سيناء لبناء الجدار العازل في الأراضي المحتلة عبر معبر العوجة. في ذلك الوقت، كانت القبضة الأمنية أشد بطشاً من احتمالات التصدي الشعبي/الأيديولوجي لهذه الصفقة بالاستهداف المسلح من قبل إسلاميين أو غيرهم، على غرار تفجيرات خط الغاز التي بدأت في 2010 واشتدت عقب الثورة حتى توقف التصدير في 2012.

يمتاز حسن راتب عن سلفه أيضاً في علاقاته المحلية الواسعة، المتوازية مع العلاقات المالية مع العسكر. ففي لحظات الانفلات الأمني اتفق مع كبار المطلوبين أمنياً على حراسة مصالحه بالسلاح دون أن تضطرب علاقاته مع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. ربما كان أحد الفوارق الرئيسية بينهما هو الخلفية المخابراتية التي دفعت حسين سالم إلى التغلغل في الظل والخفاء. أما حسن راتب فطموحه الاقتصادي لم يعطل تطلعاته السياسية والجماهيرية، فامتدت استثماراته إلى قطاعَي التعليم والإعلام. يرجح بعض المحللين في القاهرة أن تكون قناة المحور الفضائية هي السبب المباشر في تحصين مالكها، حسن راتب، من الملاحقة في قضايا الفساد، على الأقل في ذروة الثورة. أما المجتمع المحلي في سيناء فلا يشغله من فساد حسن راتب ـ بخلاف مشكلات مصنع الإسمنت ـ سوى استيلائه على مشروع إنشاء جامعة حكومية في شمال سيناء وإنشاء جامعة خاصة باهظة الرسوم داخل قريته السياحية «سما العريش». تقدم الجامعة منحاً كلية وجزئية لأبناء سيناء، لكنها تذهب عادة إلى أبناء بعض المشايخ الذين تربطهم به المصالح، حتى لو لم يكونوا الأكثر استحقاقاً لها. وتشن الجامعة الخاصة حرباً ضروس ضد التوسع في فرع جامعة قناة السويس في شمال سيناء أو تطوير كلياتها، فضلاً عن استغلال الرجل لنفوذه في التضييق على المعاهد الخاصة وتعطيل اعتماد شهاداتها.

قيل إن الثورة قد حطمت مشروعاً لتوليته وزارة مستحدثة لتنمية سيناء تحت رئاسة جمال مبارك المفترضة. وبغض النظر عن صحة هذه التكهنات، فإن الأكيد أن حسن راتب، كرجل أعمال متلائم مع كل العصور، امتاز عن حسين سالم بالتوازن في علاقته مع جناحيْ السلطة: العسكر ورجال المال. وهكذا كان اقتصاد سيناء في العقود التالية لمعاهدة السلام وما تمت تسميته تحريراً لها من الاحتلال الإسرائيلي. فهل أصابت سيناء «نكسة» واحدة أم نكسات عدة؟

مقالات من سيناء

إعلان الطوارئ ليس حلاً، بل ستراً على فشل

2017-04-21

القبول بإعلان حالة الطوارئ هو التخلي عن واجبنا في التصدي للإرهاب. إعلان حالة الطوارئ جزء من منظومة أمنية ترى أن الدولة، والدولة وحدها، هي من يحق لها مواجهة الإرهاب.

الموقف المصري: معاناة أقباط سيناء

2017-03-06

صفحة "الموقف المصري" على فايسبوك تنشر تعليقاً عن حالات قتل الأقباط وتهجيرهم من سيناء وتفند خطاب "متتكلموش عن الأقباط اتكلموا عن كل المصريين" ذاكرة أنّ القتل في حالة الأقباط هو...

التصفية الجسدية في مصر

منى سليم 2017-03-06

حالات التصفية الجسدية دون محاكمة باستخدام حجة مكافحة الإرهاب استعادة لما كان يحدث في مصر في تسعينات القرن الماضي وتحالف قبائل العريش يهدد بالعصيان المدني بينما تبتلع المدن الكبرى هذه...

للكاتب نفسه