تتراكم أصوات الباعة، ترتفعُ مع الشمس ويتراكم المتبضعون بحثاً عن كسوةٍ مستعملة في عرباتِ ساحة الطيران، إنّه أكبرُ أسواق "البالة" وربما أقدمها، كل شيء هناك رخيص، حتى الأرواح.
في الساحة نفسها، على مرآى جدارية فائق حسن، وفي صبيحة الخميس 21 كانون الثاني 2021، اختار انتحاريٌ تفجير نفسه بعد أنّ تعكّز على طيبة الناس في إسعافه – تحجج بكونه متوعّكاً حسب رواية رسمية - ثم أعقبه انتحاريٌ آخر ليفجر نفسه وسط تجمع الجرحى ومسعفيهم المواطنين. حدث هذا بعد حوالَي 14 شهراً، غابت خلالها الانفجارات الدامية من هذا النوع عن العاصمة بغداد. وقد سارعت الحكومة إلى إغلاق المنطقة الخضراء وتكثيف الجهد الأمني والعسكري لتأمينها.
أرقام عاجزة
تؤشر أرقام وزارة الصحة، الى سقوط 32 قتيلاً و110 جريحاً إثر التفجيرين الانتحاريَين. عادةً ما تغفل الأرقام ما لا تستطيع حصره، دائماً ما تكون مضلّلة: لم تقل كم حلماً سال مع تلك الدماء التي غطّت أرض مكان الحادث، لا تدري كم حبيبة فجعت، وكم أماً اسوَدّت حياتها، لم تكشف حالةَ أبٍ غير والد عمر وعلي، لا تعرف غير أنها نقطة نهاية عناء العراقي.
في الساحة التي يقصدها فقراء، ويعمل بها فقراء، ويتجول بها فقراء، التقطت كاميرات الهواتف رجلاً أشيب مفجوعا بالبحث عن ولدَيه – علي وعمر- اللذين قضيا في أحد التفجيرَين. وفي عالم آخر، استلّ وحوش الطائفية تحليلاتهم الممتدة لأكثر من 1400 عام وبدؤوا بتشكيل سيناريوهات المؤامرات الكونية على أنها تريد الخراب والأذى بعلي مرة وبعمر أخرى، بينما لم تجفّ عينا أبويهما.
"الطائفية" من جديد
لكلٍّ دوافعه، يدججُ مغرِدون تغريداتِهم بأن الجريمةَ "سُنية" من أجل استنهاض نُصرة "الشيعة والتشيع"، فهناك انتخابات في الأفق، ولا أكثر نجاحاً من البضاعةِ القديمة – الطائفية. بينما يذهب آخرون خطوات أبعد، فيتساءلون: لما مفردة "الإرهاب" حكرٌ على السُنة؟ في وقت ما زالت أحزاب وفصائل شيعية هي المتهم الأرجح بدماء 800 قتيل في "تظاهرات تشرين" – سقط بعضُهم في ساحة الطيران أيضاً - وما زال سلاح هذه المليشيات يغتال هنا وهناك ويفجّر محلات المشروبات الكحولية.. إضافةً لسؤالهم عن "المستفيد الأكبر"، في إشارةٍ لتضخّم قوى المليشيات الشيعية بعد تجربة تنظيم "داعش" الإرهابي.
في الساحة التي يقصدها فقراء، ويعمل بها فقراء، ويتجول بها فقراء، التقطت كاميرات الهواتف رجلاً أشيب مفجوعاً بالبحث عن ولدَيه – علي وعمر- اللذين قضيا في أحد التفجيرَين... وحاروا في كيفية احتسابه.
بعد ساعات ، تبنّى "داعش" الحادثة، وتبخّر الاهتمام بتضارب الروايات الحكومية وتخبّطها، واشتعلت الشموع. سبقت ذلك زيارة "بروتوكولية" لرئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي لمكان الحادث، بعد أن غُسِلت الدماء، وهُيئ المكان للمشهد المكرر: زيارة فتضامنٌ ومحاولة إظهار الحزن ثم وعود من قبيل "ردنا على من سفك الدماء العراقية سيكون قاسياً ومزلزلاً"، وقليل من التغييرات الشكلية في قيادات الأمن المشلول.
الأمن بوصفه سياسة
بالعودة للأشهر القليلة المنقضية، سنجد أن تنظيم "داعش" نشط بعمليات نوعية، كانت أشبه برسائل الغرقى، لكنه في الحقيقة ليس غريقاً، على الرغم من إعلان الحكومة العراقية في 9 كانون الأول/ديسمبر 2017 القضاء عليه وتحرير الأراضي، بعد أن سيطر على نحو ثلث مساحة العراق في حزيران/يونيو 2014. رسائلهُ هذه أكثر وضوحاً في سوريا: مناطق متفرقة من البادية السورية، الممتدة بين أرياف محافظات الرقة وحماة وحمص ودير الزور شهدت عمليات نوعية لداعش، من قبيل الكمائن والتفجيرات التي تستهدف جنود النظام السوري أو المليشيات المتعاونة معه. وفي العراق شهدت مناطقُ في ديالى وصلاح الدين وكركوك والأنبار وحزام بغداد عمليات من قبيل "تعرّض لنقطة تفتيش" أو "كمين لرتل صغير" أو "تفجير صغير".
لا يمكن قراءة خريطة النشاط العملياتي لداعش، وتوقيتاته، من دون النظر للحالة السياسية في البلد الضحية، أو المنطقة ككل، مرّة أخرى: إنه عامُ انتخابات برلمانية في العراق، وإن تمّ تأجيلها من حزيران/يونيو إلى موعدٍ مشكوكٍ به أيضاً، 10 تشرين الأول/اكتوبر 2021. وعام رئاسة جديدة في واشنطن، وامتداد لتوترات المنطقة والعراق، وهذا كله يعيد الى الأذهان الاستثمار في الأزمات، كلها أوراق ضغطٍ سياسية يمكن الإلقاء بها وصيد مكاسب.
الموصل المحررة والعقول الأسيرة
22-07-2017
العراق لمن؟
17-09-2020
وفي محاولة للنظر من زاوية أخرى، أكثر سِعةً وشمولاً، سنعرف أن الأمن ليس قراراً عسكرياً بحتاً، وأن للسياسة كلمة أعلى. حروفُ هذه الكلمة في العراق ليست كما في غيره: صراعٌ على السلطة والنفوذ والمغانم وسباقٌ على مضمار الفساد، فليس من المؤمَّل، مع هذه الطبقة والعملية السياسيتين، أن تعلو كلمة عقل تريد مصلحة الدولة، وليس منتظرأ من محطمي المؤسسات ومخربيها، لحساب أحزابهم ومليشياتهم، أن يقووا عودها، فهي مخترقة ومترهّلة وينخرها الفساد.
بعد 2003، صار العراق بؤرة لما يعرف بالـ"العمليات الاستشهادية" على اختلاف أساليبها، ضحاياها الأبرياء وثمارها سياسية. ولا إشارات الى إمكانية القضاء على هذا الكابوس الذي يحصد الأرواح، ما دام الفساد سيد مجالس الساسة والآلةَ الأقوى في تحريك المشهد، ولا ضمانةَ لعدم تكرار المشهد أو عدم سقوط قطعٍ سيراميكيةٍ أُخرى من جدارية فائق حسن.
الضمانة الوحيدة هي أن الأصوات سترتفع مع أول صعود للشمس في سماء ساحة الطيران، وسيتراكم الفقراء، باعة ومتبضعين، يبحثون عن الأشياء الرخيصة ويشاركون أبا عمرٍ وعلي بكاءه.