شكّل الشعر المصري، العاميُّ منه والفصيح، إرثاً كبيراً للقضية الفلسطينية، وساندها في وجدان الشعوب العربية. فمنذ عشرينيات القرن الماضي، وبداية المأساة الاستيطانية بفلسطين، كتب فيها شعراء مصريون كُثر، مثل أحمد زكي أبو شادي، أحمد محرم، محمود رمزي نظيم، علي محمود طه، محمود حسن إسماعيل، والشاعرة جليلة رضا. ظلّت قصائد هؤلاء الشعراء محلّ اهتمام المطلعين على الأدب أو الدراسات، ولم تخرج إلى الواقعي، الشارعي والاحتجاجي حتى زمن قريب.
وفي منتصف الستينيات الفائتة، وتحديداً بعد هزيمة حزيران/ يوليو 1967، خرج إلى العلن شعرٌ مصري جديد، مليءٌ بالسخط والغضب والمقاومة والرفض، وكان على لسان شعراء ما زالت أسماؤهم تتردد في أي تجمعٍ رافضٍ للاستبداد والاحتلال. من بينهم أمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم برفقةِ صوّته المِغناء الشيخ إمام. فما هو الإرث الذي تركوه لفلسطين؟ وكيف أصبح هذا الإرث أداةً احتجاجية للأجيال العربية الرافضة للاحتلال والتطبيع والاستبداد حتى وقتنا هذا؟
رفيقا الجنوب
انتقل عمل الشيخ محمود الأبنودي والدُ الصغير عبد الرحمن وقتها، إلى مركز قفط بمحافظة قنا في الصعيد، حيث التقى الصغيرُ الخائف، رفيقه الآمل الجريء، أمل دنقل، الذي لا يخاف من عادات الصعيد، بل يرسل الجوابات الغرامية لفتاة الابتدائية. وبعد أن ينكشف الأمر تقوم العراكات، فيلوم عبد الرحمن رفيقه أمل، فيوبّخه الثاني "أنت صغير تعرف إيه عن الحب".
كبر الاثنان معاً، وتخرجا من الثانوية العامة بمحافظة قنا. عمل الأبنودي ودنقل في محكمة قنا، الأول كاتباً، والآخر مُحضراً، إلى أن استقالا وذهبا إلى القاهرة، لتكملة مشوارهما الشعري الذي بدآه في أمسيات مقهى الأدباء عندهم بمركز قفط بمحافظة قنا.
ما بين الهمس والمدافع
21-01-2015
منتصف الستينيات كانت بداية الازدهار لكلّ منهما، لكنّ نظام عبد الناصر اعتقل الأبنودي عام 1966، بتهمة تبنّي الشيوعية، وكان دنقل أميَلَ إلى التيار القومي العربي. وهو لم يسقط أمل فلسطين من إنتاجه الشعري، ورحلته مع الرفض بدأت قبل قصيدته المعروفة بـ "لا تصالح". وعندما اصطدم أمل بهزيمة عام 1967 بلّور مجموعته القصائدية المعنونة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، من ضمنها قصيدة "بكائية ليلية" يرثي فيها صديقه الفلسطيني الشهيد مازن جودت أبو غزالة، الذي قُتل أثناء اشتباكه مع قوات الاحتلال الإسرائيلي على أرض قرية جباريس الفلسطينية:
"تسألني: أين رصاصتك؟ / أين رصاصتك / ثمّ تغيب: طائراً، جريحاً / تضرب أفقك الفسيحا / تسقط في ظلال الضّفّة الأخرى، وترجو كفنا!/ وحين يأتي الصبح – في المذياع – بالبشائر / أزيح عن نافذتي السّتائر / فلا أراك.. !"
أمل دنقل
توغل دنقل أكثرَ في أوساط الشعراء والأدباء والنخبة اليسارية الأكثر مناهضةً لحكم عبد الناصر بعد الهزيمة، إلى أن جاء السادات. ولكن، في منطقةٍ أُخرى وأحداثٍ أُخرى عُرفت بـ "أيلول الأسود"، في أيلول/ سبتمبر من العام 1970، نشب القتال بين منظمة التحرير الفلسطينية، وبين القوات العسكرية الأردنية لينتهي وجود الأولى عام 1971 في الأردن، فيرثي دنقل القتلى، ويشجب تفرّق العرب، ويصرخ ويغضب من حال المواطن العربي الأسير في ديوانه الثاني، وهو بعنوان "تعليق على ما حدث":
" قلت لكم/ لكنكم / لم تسمعوا هذا العبث / ففاضت النار على المخيمات / وفاضت.. الجثث / وفاضت الخوذات والمدرعات".
اشتعلت الإضرابات والاعتصامات في مصر، ولاسيما من الطلاب في أوائل حكم السادات، ووقف دنقل محتجاً مقاوماً مُحرضاً الطلاب على استمرار نضالهم، وزّع عليهم "الكعكة الحجرية"، وهي قصيدة كتبها وقتَ اعتصام الطلاب في ميدان التحرير عام 1972. وبعد عامٍ، جاءت حرب أكتوبر، وتحقّق العبور، ليبدأ السادات في التلميح إلى السلام مع الاحتلال الصهيوني. وقبل أن يبدأ ذاك العبور، تنبَّأ دنقل، وكتب قصيدته الأشهر على الإطلاق، "لا تصالح"، كتبها عام 1976، قبل أن يزور السادات الكنيست الإسرائيلي بالقدس المحتلة، وقبل أن تبدأ جولات كامب ديفيد.
"لا تصالحْ!.. ولو منحوك الذهب / أترى حين أفقأ عينيك / ثم أثبت جوهرتين مكانهما../ هل ترى..؟ / هي أشياء لا تُشترى../ ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك / حسُّكما فجأةً بالرجولةِ / هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ / الصمتُ مبتسمين لتأنيب أمكما.. وكأنكما / ما تزالان طفلين!/ تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:/ أنَّ سيفانِ سيفَكَ.. / صوتانِ صوتَكَ / أنك إن متَّ:/ للبيت ربٌّ / وللطفل أبْ / هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟ / أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء.. /تلبس فوق دمائي ثياباً مطرَّزَةً بالقصب؟ / إنها الحربُ! / قد تثقل القلبَ../ لكن خلفك عار العرب / لا تصالحْ../ ولا تتوخَّ الهرب!"
كان غضب السلطة منه سابقاً لتلك القصيدة، فقد جردته السلطة من عضوية "الاتحاد الاشتراكي" ومنعته من الكتابة والظهور في المنابر الإعلامية والمجلات والصحف، وذلك بعد وقوفه في اعتصام الطلاب عام 1972، وكتابته قصيدة الكعكة الحجرية.
____________
من دفاتر السفير العربي
الموسيقى والغناء.. سجل خاص للتغيرات السياسية
____________
لا تصالح، تلك القصيدةُ التي ترى أبياتها تخمد كلَّ صدى صوتٍ يعلو نحو التطبيع، القصيدة التي لم تكن تتصدى فقط للسادات المتجه نحو التطبيع منذ 47 عاماً، بل تتصدى أيضاً لمحمد بن زايد وتطّبيعه في وقتنا الحالي، على ألسنة شباب عربي لم يحضروا الشاعر ولم يروه. لم يقف وجدان القصيدة عند حدّ العدو الصهيوني فقط، بل استخدمها الثوريون في مصر أثناء نضالهم ضد "المجلس العسكري" عام 2011، ولاسيّما بعد أحداث "شارع محمد محمود". فقد رسموا الشوارع بعد ذلك بعدة رسومات من بينها أبياتٌ لقصيدة "لا تصالح"..
الأبنودي
عام 1967، خرج عبد الرحمن الأبنودي من المعتقل الناصري، ليلتقي برفيقه مرّةً أُخرى، ويُكملا نضالهما الشعري في وجه الأنظمة الظالمة. لكنّ "الخال" اختص النظام المصري خاصّة، وكتب للفقراء والغلابة والمهمّشين، من دون أن ينسى فلسطين: كتب قصيدة المسيح إثر هزيمة 1967، وكتب ديوانه الأشهر لفلسطين عام 1988 المعنون "الموت على الأسفلت"، والذي رثى فيه رسّام الكاريكاتير الفلسطيني المقتول غدراً ناجي العليّ عام 1987. كما كتب "الخال" أيضا قصيدة "القدس"، و"الحارة الفلسطينية"، و"حبيبتي يا فلسطين".
"كان صاحبي يا أمة / واسمه / ناجي العلي / يا قبر ناجي العلي... وينك يا قبر / يا قبر معجون بشوك مطلي بصبر / الموت يقرب عليك... يرتد خوف / وإذا ما خافش الموت... يرتد جبر / يا قبر ناجي العلي... يادي الضريح / كان ميتك للأسف وطني صريح / تحتك فتى ناضر القلب... غض / كان قلبه... أرض مخيمات الصفيح / الأرض متغربة.../ والحلم ملك / خريطة شبة الوطن محاصرها سلك / واقف وراها شريد عاقد إيديه / حق الوطن ذلك... للأرض... تلك / غشيم في حب الوطن".
18 يوماً ثورياً، وهي مدة الاحتجاج لثوار مصر. فعل الأبنودي ما فعله صاحبه أيام احتجاج الطلاب عام 1972. فقد كتب قصيدة "الميدان" تشجيعاً للثوار على استكمال نضالهم ضد المخلوع مبارك. لم تكن كلمات الأبنودي حاضرةً في الميدان فقط، بل اقتبستها فرقٌ شبابية غنائية لتوزعها على ألحان جديدة، أخذت فرقة "كايروكي" عدة أبيات من قصيدة "أحزان عادية" لتصنع منها أغنية "إحنا الشعب".
رفيقا الزنزانة
ثنائيٌّ آخر، وصداقة نضالية أُخرى هما أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام. يقول نجم إنّه كان عينيّ إمام، وإمام كان صوته. يحكي نجم أنّه أثناء سجنهما أيام عبد الناصر، جاء ضابط وضرب بعصاه إمام، فجعله نجم يتفادى الضربة، لأن إمام كفيفٌ، لا يقدر على التفادي.
لازم الاثنان بعضهما في الشعر والغناء والنضال والسجن، وحتى السفر لحضور المنتديات والمحافل، وارتبط الاثنان ببعضهما في الذاكرة النضالية لدى الشعوب.
كانت فلسطين، وقضيتها حاضرةً بقوّة عند كلّ منهما، كتب نجم أغنية "يا فلسطينية"، وأغنية "فتاة من أرض فلسطين"، غنّاهما إمام، وكتب "وعد الحر"، غنّاها أيضاً إمام في أغنية شهيرة عرفت باسم "الخط ده خطي"، وغنّى إمام بضع أغانٍ أُخرى مثل "ملعون الحل السلمي"، وهي من تأليف الشاعر محمد الصعيدي، وأغنية "فلسطين دولة بناها الكفاح"، وهي من تأليف الشاعر فرغلي مهران. كتب وغنّى الاثنان الكثير من القصائد التي أزعجت رؤساء مصر، بداية من عبد الناصر، مروراً بالسادات وحتى حسني مبارك.
يا فلسطينية والثورة هي الأكيدة / بالبندقية نفرض حياتنا الجديدة
والسكة مهما طالت وباتت بعيدة / مدّْ الخطاوي هو اللي يسعف معاكو
يا فلسطينية والبندقاني رماكم / والصهيونية تقتل حمامكم في حماكو
يا فلسطينية وانا بدّي آسافر حداكم / ناري في ايديّ وايدي تنزل معاكو
على رأس الحية وتموت شريعة هولاكو…
قبل ممات "الفاجومي" (لقب أحمد فؤاد نجم)، أطلَّ على شاشة قناة القدس في برنامج "من أجلك يا فلسطين"، ليتحدّث عن قصائده، وعن اهتمامه بالقضية الفلسطينية، وثنائيّته هو والشيخ إمام. الثنائيّةُ الحاضرة دائماً في كلّ ميدان وثورة ومسرحٍ، وغنّى الثوار المصريون بميدان التحرير قصيدة "هما مين وإحنا مين" للثنائي.
انتقل أيضاً تراث نجم وإمام من الشارع إلى المسرح، حيث تتغنى الفرق الغنائية الشبابية بكلماتهم دائماً. غنى المطرب المصري رامي عصام أغنية "طاطي راسك طاطي طاطي" وهي قصيدة لفؤاد نجم، حضرت فرقة "كايروكي" لتكرر أغنية "الخط ده خطي" بصوتها. ليس المصريون فقط. فقد غنّت الفنانة التونسية غالية بن علي أغاني الشيخ إمام، كما اللبنانية ساندي شمعون أغنية "نويت أصلي". وفي فلسطين عدة فرق مثل "فرقة أوتار الفن" الفلسطينية و"عشاق الشيخ إمام" وجمعية مريدي الشيخ إمام، وهو التقاءُ شباب الفن الفلسطيني ليوزّعوا دائماً أغاني الشيخ إمام في أمسياتهم الطربية، وذكرياتهم النضالية. وفي تونس، المدينة الأكثر ارتباطاً بإحياء إرث الشيخ، ينظم "نادي أحباء الشيخ إمام" الأمسيات الدائمة لإحياء ذكراه.
***
كان شعر دنقل خاصاً بالمقاومة والرفض، تعلو استعادته أثناء الانتفاضات الفلسطينية والعربية، وموجات التطبيع العربية / الخليجية مع إسرائيل، أما أبيات نجم وصوت إمام، فهي حاضرة دائماً لمرونتها في التعاطي مع أمسيات الحنين والآمال في التحرير والنضال والثورة.
مات دنقل بعد إصابته بالسرطان بمستشفى أورام القاهرة عام 1983 ليكتب أوراقه الأخيرة، "أوراق غرفة رقم 8"، عكس رفيقه الذي أطال الله عمره، حتى مات في نيسان/ أبريل من عام 2015. ورحل الشيخ إمام في منتصف عام 1995 تاركاً رفيقه الشاعرَ وحيداً حتى توفي هو الآخر عام 2013. ذهبوا جميعاً ليحضروا بصورهم وصوتهم وكلماتهم وألحانهم في وجدان وعقول وأفكار أجيال ربما لم ترهم، ولكنّها تعلّقت برفضهم الدائم للخضوع إلى الاستبداد، وتمسكت به.