بقدر ما تبدو الأخبار الواردة من شبه جزيرة سيناء بين الحين والآخر مهمة أو خطيرة، فهي تبدو كذلك غير مفهومة. يستوي الغموض الذي يكتنف سيناء لدى العرب والمصريين بل يقترب من الالتباس السائد لدى سكان مدن قناة السويس على الضفة الغربية منها، بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وهي أقرب الأقربين إلى «أرض الفيروز». فهل هي «وادي سوات» المصري أو «تورا بورا» العربية، معقل الإرهاب الذي تم تصديره إلى وادي النيل بعد عزل محمد مرسي؟ وهل هي مشروع وطن بديل لفلسطينيي قطاع غزة أو النقب المحتل؟ وما مدى ارتباط أعمال العنف فيها أو الزاحفة منها بجماعة الإخوان المسلمين؟ وهل تنقسم قبائل المنطقة الحدودية الشمالية إلى مهربين وتجار بشر وأعضاء جماعات جهادية؟ وما هي حقيقة علاقتها بالفصائل والقبائل الفلسطينية المختلفة؟ وإلى أي مدى يعكس التباين السياسي/السياحي بين شمالها وجنوبها حقيقة وجود أكثر من وجه لسيناء؟
يحاول هذا النص التعريفي والذي ستليه أجزاء أخرى حول سيناء، تقديم وصف عام لشبه الجزيرة التي شهدت الصراعات السياسية الإقليمية منذ حرب الفراعنة والهكسوس وحتى الصراع العربي الصهيوني منذ بداياته التنفيذية الأولى عام 1902. فالحقيقة أن سيناء لم تكن توسعاً للاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين بقدر ما كانت فلسطين هي الأرض البديلة التي قررت المنظمة الصهيونية العالمية أن توجه إليها مخططاتها بعدما رفض طلب تيودور هرتزل بالحصول على حق الامتياز الحصري لمدة 99 سنة لتعمير سيناء وإقامة مستوطنات يهودية فيها. رفض كل من اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني في مصر، ووزير الخارجية المصري حينها، بطرس غالي (عم الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة وأحد قضاة مذبحة دنشواي التي تم اغتياله بسببها).
إلا أنها ظلت في المخيلة الاستراتيجية والأمنية الإسرائيلية، فلم يبلغ الحلم الصهيوني مداه إلا بوصول القوات الإسرائيلية إلى الضفة الشرقية من قناة السويس ثم ببناء خط بارليف المنيع.
المعلومات
يسود في الكتابات التعريفية بسيناء الاهتمام بالبيانات الرقمية والإحصائية، بدءاً من تصحيح الخطأ الشائع حول نسبة مساحتها إلى المساحة الإجمالية لجمهورية مصر العربية، والتأكيد أنها تقترب من 61 ألف كيلومتر مربع ولا تمثل سوى 6 في المئة من مساحة مصر البالغة مليون كيلومتر مربع تقريباً (يشيع خطأً أنها سدس المساحة أو 16.6 في المئة.
وبعيداً عن الحقائق الجغرافية أو النظريات التاريخية حول سيناء، فإن الأوزان النوعية المتفاوتة لنوع المعلومات يحتم على المقال انتقاء أكثرها دلالة لفهم ما تعنيه حالياً شبه الجزيرة الحاضنة لمقدسات الأديان الثلاثة، بدءاً من جبل موسى وعيونه وأسماء المواقع الدينية التي وقعت فيها أحداث أهم فصل من حياة موسى وهارون، التي نسجت حوله الأساطير الأيديولوجية الصهيونية، مروراً بدير سانت كاترين على أعلى قمة جبلية في مصر، وأخيراً طريق الحج البري الذي انتهجه حجاج شمال أفريقيا إلى مكة لأكثر من 13 قرناً هجرياً، فضلاً عن دخول ساحلها الشمالي الشرقي ضمن ما يعرف لدى المسلمين بـ «أكناف بيت المقدس». فما هي سيناء؟
وصف جغرافي وديموغرافي
حسم حفر قناة السويس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الخلاف الجغرافي/الجيولوجي حول الحدود الغربية لشبه جزيرة سيناء. جغرافياً، يحدها شمالاً البحر المتوسط وبحيرة البردويل، وغرباً قناة السويس من بورفؤاد التابعة لمدينة بورسعيد حتى بورتوفيق التابعة لمدينة السويس. أما حدود الجنوب الغربي فهو خليج السويس الذي يلتقي مع خليج العقبة في أقصى نقطة جنوبية في سيناء، رأس محمد، ثم يمتد خليج العقبة شمالاً ليكون الحد الجنوبي الشرقي لسيناء. أما الحدود الشرقية فهي محل جدل تاريخي وسياسي.
شمالاً، اتفق على الموضع القديم للعلامة الحدودية الفاصلة بين سيناء وأرض الشام، حيث أقام الرومان قديماً عمودين في مكان قريب من معبر رفح البري حالياً، وقام العثمانيون بتجديدهما إلى أن تم تدميرهما في المعارك التي دارت بين جيش نابليون بونابرت وأحمد باشا الجزار والي عكا. أما جنوباً فالجدل قديم حول تبعية مدينة «أيلة» القديمة الواقعة على رأس خليج العقبة بين مدينتي «العقبة» الأردنية و«طابا» المصرية. فقبل أن توجد دولة باسم «الأردن»، كان اليقين أن «أيلة» القديمة، أو «المرشش» (أم الرشراش)، ليست من أرض الحجاز، وحين دارت في مطلع القرن العشرين معركة حول طابا بين المصريين والإنجليز من ناحية، وبين الأتراك العثمانيين من ناحية أخرى، لم تتناول وثائق التحكيم وضع «المرشش»، فاستثمرت العصابات الصهيونية هذه الفجوة وصار للدولة الوليدة في 1948 منفذ بحري جنوبي استراتيجي أسمته مدينة «إيلات»، وتحاول بشتى الطرق تغيير اسم الخليج ليحمل الاسم العبراني لمدينة العرب الضائعة.
إدارياً، لا تسمح الدولة المصرية لسيناء أن ترى ضفة قناة السويس، فتم تخطيط شبه الجزيرة بحيث تكون المناطق المتاخمة للضفة الشرقية لقناة السويس تابعة للمحافظات الواقعة على غربها، وهي من الشمال إلى الجنوب: بورسعيد ثم الإسماعيلية ثم السويس. بسبب المساحة الشاسعة ووعورة التضاريس، كان لزاماً بعد تحرير سيناء أن يتم الفصل الإداري بين جنوبها وشمالها. ورغم أن وسطها ذا خصوصية جغرافية وقبلية، وأهمية استراتيجية خاصة، إلا أن الكثافة السكانية المنخفضة جدا فيه كانت سبباً في إلحاقه إدارياً بشمال سيناء. فصارت مدينة «نِــخــِل»، ملتقى طرق الجنوب والشمال وطريق الحج القديم، وكذلك مدينة «الحَسَنة» الواقعة على مسافة 60 كيلومتراً تقريباً إلى الشمال من «نخل» تابعتين لمحافظة شمال سيناء.
بالإضافة إلى مدينتي الوسط وقراهما المحيطة، تضم شمال سيناء أربع مدن على الطريق الساحلي الدولي. يقع الشطر المصري من مدينة/مدينتي «رفح» على الحدود المصرية الفلسطينية، وإلى الغرب منها مدينة «الشيخ زويد» على مسافة 10 كيلومتر تقريباً، ثم «العريش» العاصمة إلى الغرب من الشيخ زويد بمسافة 30 كيلومتراً، ثم أخيراً مدينة «بئر العبد» على ضفاف بحيرة البروديل في أقصى الشمال الغربي من المحافظة، على مسافة 75 كيلومتراً تقريباً من العاصمة العريش. تدور الأحداث الأمنية الحالية والسابقة في محيط مدينتي الشيخ زويد ورفح وقراهما الجنوبية، حيث تتشابك المصالح والأنشطة التهريبية والسلاح الأيديولوجي بسلاح المرتزقة، وحيث تنتهي 14 كيلومتراً من الحدود مع قطاع غزة وتبدأ 190 كيلومتراً بين معبري العوجة وطابا، هي حدود مصر مع فلسطين المحتلة.
... ووصف اجتماعي
لا تُعامل «طابا» المحررة بالتحكيم الدولي في 1988 إدارياً كمدينة مستقلة، بل كقرية تابعة لمدينة ومركز «نويبع»، حيث الميناء الذي تم تحويل طريق الحج البري إليه لتنقل العبّارات الحجاج والمعتمرين، والعمالة الرخيصة، إلى ميناء «العقبة» ليستأنف كلٌ طريقه. وفي طريق الموت الحلزوني بين الجبال، تستغرق رحلة الـ 100 كيلومتر إلى مدينة دهب أكثر من ساعة ونصف حرصاً على السلامة، ثم 100 كيلومتر أخرى أكثر أماناً إلى مدينة شرم الشيخ السياحية. بين «دهب» و«نويبع» على خليج العقبة طريق يتجه إلى الغرب صاعداً إلى مدينة سانت كاترين الحاضنة للدير الشهير الذي تحميه قبيلة «الجبالية» منذ ما يقرب من ألف سنة. ثم يستكمل الطريق غرباً لينزل إلى «وادي فيران»، حيث تحمي قبيلة «القرارشة/الجرارشة» دير الراهبات اليونانيات الأرثوذكس. وينتهي الوادي إلى الطريق الواصل بين مدينة «الطور»، عاصمة جنوب سيناء التي تبعد عن «شرم الشيخ» 100 كيلومتر تقريباً يقع معظمها على الساحل الشرقي لخليج السويس. أما مدينتا «أبو رديس» و«أبو زنيمة» البتروليتان فهما تتوسطان المسافة بين «الطور» و«رأس سدر» (صدر)، آخر مدن جنوب سيناء على خليج السويس.وهكذا، تتجسد سيناء في 12 شخصية متنوعة لمدنها ومراكزها، باعتبار التشابه الكبير بين «نخل» و«الحسنة» في الوسط، وبين «أبو رديس» و«أبوزنيمة» في الجنوب. فالجنوب، الهاديء نسبياً والأقل سكاناً، تتنوع أنشطته وأصول سكانه بين البدو المزارعين في الوديان النائية والوعرة وبعض المساحات المستصلحة حديثاً في محيط «طور سيناء» و«رأس سدر» و«نويبع»، وبين البدو العاملين على هامش الأنشطة السياحية المحتكرة من قبل كبار رجال الأعمال ودوائرهم من الوافدين من وادي النيل حيث يتم دعمهم أمنياً وبيروقراطياً ضد المحليين من البدو السكان الأصليين إذا صح التعبير وأخيراً الموظفين والمهندسين والفنيين الوافدين من وادي النيل للعمل في الجهاز البيروقراطي وشركات البترول الضخمة (اكتفت «إسرائيل» ذاتياً في احتياجاتها من الوقود بفضل آبار جنوب سيناء في سنوات قليلة من الاحتلال ثم بلغت مرحلة التصدير، وقد احتل التفاوض على حقول النفط موقعا بارزاً في المفاوضات المصرية الإسرائيلية حول اتفاقيات وقف إطلاق النار ثم الانسحاب التدريجي من سيناء).
أما الشمال الساخن، الأكثر سكاناً (لا يتجاوز سكان سيناء كلها المليون نسمة وهي من أقل المناطق المأهولة في مصر من حيث الكثافة السكانية، ولا يوجد إحصاء موثوق يمكن الاعتماد عليه في تحديد رقم تقديري أقرب للواقع)، فيتنوع سكانه بين القبائل البدوية في الوسط وبئر العبد والشيخ زويد ومحيط رفح، وبين العائلات الحضرية والإقلاعية في العريش ومدينة رفح. و«الإقلاعية» هم بقايا المماليك الناجين من مذبحة القلعة في عهد محمد علي، أو نسبوا إلى بعض القلاع في نواحي خان يونس وغزة حين تحصنوا بها أثناء تحالفهم مع قبيلة الترابين في حربهم الضروس ضد السواركة في القرن التاسع عشر.
أما سكان شمال سيناء من غير قبائل سيناء وعائلاتها، فهم الوافدون من الشرق اللاجئون الفلسطينيون منذ النكبة وما بعدها والمصريون الوافدون من وادي النيل غرب قناة السويس.تتنوع الأنشطة الاقتصادية بين التجارة والزراعة والمحاجر وتهريب السلع المشروعة والممنوعة والسلاح والاتجار بالبشر، بالإضافة إلى الوظائف الإدارية والخدمية الحكومية والخاصة، والتي يسيطر على الحكومي منها العسكريون المتقاعدون والوافدون من وادي النيل. ويتضح لمن يجول في ربوعها الواسعة ويلتقي بسكانها على تنوعهم قدر عال من التنوع والتعقيد، لا يمكن اختزاله في تلك الصورة التي ترسمها وسائل الإعلام الخاضعة لهندسة الرواية المنقولة كما يريدها العسكريون وأجهزتهم الاستخباراتية.