هل قرأت السلطات المصرية مقالاً في "السفير العربي" يشير إلى فقدانها بين أشلاء مجتمع أسوان المحتقن، فاستفزها وأرادت إثبات خطئه؟ هل ارتكبت فعلتها الأخيرة في أسوان لتثبت أنها موجودة رغم أنف معارضيها؟ سؤالان كنا نتمنى أن نحيا في أوضاع تسمح بدخولهما دائرة التساؤل المنطقي لا السخرية. بالتأكيد، لم تقرأ القيادات المحلية في جنوب مصر مقالاً في جريدة عربية تصدر في لبنان، أو على موقعها الإلكتروني، فكان له تأثير السحر في دولة مرهفة الإحساس تجاه النقد الموجّه لغيابها. والراجح أنه بافتراض رفع تقرير حكومي ممتلئ بالنقد المنشور صحافياً ضد أداء السلطة في أزمة أسوان الأخيرة، فإن ذلك لا يهز لها شعرة في فروة رأس إحساس غائب بالمسؤولية. فالسلطة المصرية حاضرة من أجل صنع الأزمات، والفذلكة في إدارة الشأن العام بها أو بواسطتها، ولم يكن تدخلها في أزمة أسوان الأخيرة استثناء من قاعدة، بل هو الأصل في سلوكها.
إشعال أزمة أسوان بعد خفوتها
في البداية، اكتفت الدولة بدور المتفرج السلبي على تلاسن شباب النوبيين من قبيلة "دابود" ونظرائهم العرب من قبيلة "بني هلال"، الذي ما لبث أن اندلعت بسببه الاشتباكات، ثم سقط الضحايا والمصابون، ووقع الثأر الهمجي، فانتهت المعارك بأكثر من 25 قتيلاً من بينهم نساء وأطفال، وأحرقت المنازل والسيارات، ونهبت الممتلكات، وارتكبت الجرائم فوق الجرائم على مدار أربعة أيام تحت سمع الشرطة وبصرها. فشل رئيس الوزراء بصحبة اثنين من وزراء حكومته في عقد "صلح عرفي" بين طرفي النزاع، وطار شيخ الأزهر برفقة وزير الأوقاف لينضمّا إلى جهود الصلح الأهلي تحت رعاية السلطة التنفيذية، فباءت الجهود جميعها بالفشل. لم تفشل الدولة المصرية وممثلوها في إبرام المصالحة بسبب تعنت أطراف الصراع أو تطرفهم، بل في الحقيقة بسبب اعتدالهم وعدالة مطالبهم، وتمييزهم بين ما يطالبون به الوسطاء المحليين وبين ما يرونه واجباً والتزاماً على الدولة. فممثلو النوبيين والهلايلة يطالبون الحكومة بضبط الجناة ومحاكمتهم محاكمة عادلة، وتعويض المتضررين وفاءً بوعد رئيس الوزراء.حددت النيابة قائمة بأسماء المطلوبين المتهمين بالتورط في القتل أو التحريض عليه، لكن الشرطة كان لها اجتهاد آخر. ففي أحد المكاتب البائسة في مديرية أمن أسوان، أدار القائد ظهره لأشعة الشمس المنعكسة على صفحة النيل المواجهة لنافذته، فلمعت الفكرة في ذهنه. قرر الأفندي اعتقال أفراد ينتمون للإخوان المسلمين أو يناصرونهم من الطرفين، وتحميلهم مسؤولية إشعال الفتنة، وبذلك تبرأ ساحة الشرطة.فات الأفندي، كما فات رئيسه الذي يتابع التطورات عن كثب على مسافة ألف كيلومتر شمالاً في قلب العاصمة، أن تمثيلية تسييس صراع قبلي بمثل تعقيد صراع الدابودية والهلايلة، لا يمكن أن تقنع طفلاً صغيراً في أسوان، بل في الحقيقة تزيد احتقان الطرفين. لكن الجعبة الأمنية لم تخل من المفاجآت، فلجأت الشرطة إلى التوسع في الاعتقال بين شباب الطرفين ورجالهم. من بين المعتقلين شاب عائد من عمله بإحدى دول الخليج، تشابه اسمه الأول فقط مع اسم أحد المطلوبين الهاربين فألقي القبض عليه. ومن بينهم كذلك مصاب بعجز جزئي دائم منذ اشتباكات السنة الماضية التي انتهت بمصالحة لعدم وقوع قتلى، ولا يعقل أن يكون قد شارك في أعمال العنف.تفوق الذكاء الأمني على نفسه في الأسبوع الأخير من شهر نيسان/أبريل، فألقي القبض على الحاج آدم عبد الحميد جبريل، الذي شارف السبعين، وعضو لجنة المصالحة من الطرف النوبي. شارك جبريل في الاجتماعات رفيعة المستوى بحضور شيخ الأزهر ووزير الأوقاف ومحافظ أسوان وغيرهم، وحضر هذه الاجتماعات الوفد الممثل للطرف الآخر، فلم يبد أيهم اعتراضاً على وجوده، فهو معروف بمسالمته واعتداله، بل استعداده لقبول الأحكام ضد من يمثلهم.يظن الجهاز الأمني أنه بذلك يملك أوراقاً للضغط على طرفي الصراع ليخضعا للحلول التلفيقية التي يريد أن ينهي بها الأزمة استعداداً للانتخابات الرئاسية. والحقيقة التي لا يريد أن يراها رغم سطوعها، أنه بذلك يزيد احتقان الشباب وتمردهم على كبارهم المتهمين بالعجز والموالاة لدولة الظلم والاستبداد. بل يسكب البنزين على نارٍ لم يطفئها رماد الهدنة الموقتة، فلا غليلاً في صدور المكلومين يشفيه تلفيق التهم ضد الأبرياء، ولا بديلاً سيلجأ إليه الغاضبون سوى الثأر بأيديهم لأنفسهم وذويهم إذا استمرت الدولة في غيّها واقتصر حضورها على تأجيج الفتن.
وتاريخ حافل مع الأقباط
انكشف بعد الثورة تورط وزارة الداخلية وبعض أجهزتها، بل مسؤوليتها المباشرة، عن إشعال الصراعات الطائفية التي تؤول في النهاية إلى مزيد من إخضاع الكنيسة لهيمنة النظام السياسي بفزاعة الإسلاميين تارة، والتلويح بالتعصب الديني الشعبوي تارات أخرى.تبدأ القصة المتكررة من منطلق القصور التشريعي الذي لا يضمن فرصاً متكافئة لبناء دور العبادة، فيشكو المسيحيون في مجتمعٍ محليٍ ما، ولا تستمع الدولة الأمنية إلا للمرضي عنهم وعن "تعاونهم" معها من القساوسة. بعد مماطلة ومساومات، يُفتح لهم الباب من أجل إنشاء دار ضيافة يمارسون فيها الشعائر بشكل غير رسمي، ثم يندلع الصراع حين يفاجَأ الجيران المسلمون بتحويلها إلى كنيسة، فتغيب الدولة لبرهة من الزمن، ويلتهب المشهد ببضع زجاجات من المولوتوف والقليل من الإطارات المحترقة وبعض الإصابات الدامية. حينئذ، يأتي فارس الدولة، في ردائه الأبيض، على جواده الأبيض، شاهراً سيفه الأبيض، فيحمي المستضعفين ويضمهم إلى حضنه البارد، ويرافقه بعض المرضيّ عنهم من مشايخ الأزهر والأوقاف، بل حتى من رموز السلفيين مؤخراً، وتُختتم حلقة المسلسل الركيك بفقرة تقبيل شفاه الوحدة الوطنية، وهلمّ جرا.رفعت الثورة حرجاً كبيراً عن كثير من المسكوت عنه، فحكى القساوسة والنشطاء من الأقباط عن ارتباط السياسة الأمنية/الترويعية بالمطالب الانتخابية الفجّة التي كانت تصدر بها تعليمات مباحث أمن الدولة في عهد مبارك. ولعل تزامن اندلاع ثورة يناير مع تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، الذي توجهت فيه أصابع الاتهام إلى جهاز أمن الدولة، قد دفع عشرات الآلاف من شباب الأقباط إلى التمرد الجيليّ على أغلب رموز الكنيسة الأرثوذكسية، وكثير من رموز الكنيستين الكاثوليكية والإنجيلية. فلمّا لم تعد "الإدارة بالأزمات" ناجعة مع الأقباط في الشهور الأولى بعد إسقاط مبارك، كما كانت في سابق عهدها، لجأ نظام الحكم العسكري إلى تأديب الأقباط في مذبحة ماسبيرو (تشرين الأول/أكتوبر2011)، التي وقع فيها القتل والاعتقال على الهوية الدينية. ووجّه التلفزيون الرسمي تحريضاً صريحاً ومباشراً ضد الأقباط كأقلية دينية لأول مرة في تاريخ مصر.وبعد أن كان يُتوقع من مجزرة ماسبيرو إشعال البلاد بطولها وعرضها بالاقتتال الطائفي، خاصة بسبب ارتباطها بأزمة كنيسة الماريناب في أسوان، ووجود بؤر احتقان طائفي مأزوم بطول وادي النيل، باءت خطة المجلس العسكري بالفشل الذريع. التقط مرشح النظام القديم في انتخابات 2012 طرف الخيط، فعاود كهنة مبارك اللعب على الوتر الطائفي في جولة الإعادة كي يضمن أحمد شفيق، آخر رؤساء وزراء مبارك، كتلة المسيحيين التصويتية في معركته ضد المرشح الإخواني محمد مرسي.فاز الإخوان بكرسي الحكم، وخسروا ثقة حلفائهم الموقتين، فضلاً عن المتوجسين منهم. التقطت المخابرات العسكرية شعلة التفزيع الطائفي، وواصلت الركض في طريقها في اولمبياد "الإدارة بالأزمات"، بدءاً من التحضير للانقلاب العسكري في 3 تموز/يوليو 2013، وليس انتهاءً بتكريس الاستقطاب على أساس الهوية، لنزع تعاطف الأقباط وغيرهم، مع ضحايا المجازر الجارية.
وقصص أخرى: أهو الشر أم الغباء؟
زلّ لسان وزير الدفاع الأسبق، محمد حسن طنطاوي، تعقيباً على مذبحة إستاد بورسعيد التي وقعت تحت رئاسته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، في الفترة الانتقالية الأولى بعد ثورة يناير. على الهواء مباشرة، دعا طنطاوي الناس إلى النزول إلى الشوارع في واحدة من أقبح صور صنع العداء الممنهج ضد مدينة صغيرة على شاطئ المتوسط، دُبّر لها أن يُغدر بشباب ألتراس النادي الأهلي الثوريين على أرضها، ليتهم فيهم أهلها.قبيل الانتخابات الرئاسية في 2012 اندلع الحريق تلو الحريق في مصانع مدينة السويس، تلك المدينة التي شهدت اندلاع شرارة الثورة الأولى، قبل القاهرة والإسكندرية. صار راجحاً أن تلك الحرائق مدبرة مع سبق الإصرار والترصد، واقتنع شعب السويس أنهم يتعرضون لأحد أشد أشكال العقاب الجماعي قسوة، لكن ذلك لم يغيّر من نتيجة الانتخابات التي أتت على عكس ما رغبت السلطة القديمة.لا تبرح الدولة المصرية، المشكوك في رجاحة القوى العقلية والنفسية لكثير من القائمين على شؤونها، أن تتفذلك في صنع أزمة تلو أزمة، مراهنةً على امتلاكها زمام الأمور، واستطاعتها التحكم في مآلات الصراعات. من دون طائل.