يكرّر أعضاء الترويكا الحاكمة في تونس، وتحديداً رموز حزب النهضة الاسلامي، حد الاشباع، أنّ «المجلس الوطني التأسيسي» سيّد نفسه، وأنه السلطة الأصلية. وهكذا يتبلور مفهوم ضيّق عن الديموقراطية المفرّغة من أي مضمون، والمقلَّصة إلى مجرّد عملية إسناد السلطات إلى الغالبية، مهما كانت نسبية. لكن وبغض النظر عن هذا التحريف، فإن هذه الإعلانات المبدئية تهدف إلى جعل المشرِّع بحلٍّ من أي واجب وأي مقياس. فلو أخذنا هذا المفهوم بحرفيّته، فهو يعني أن المشرِّع، كونه غير ملتزم بأيِّ ضابط، يمكنه أن يتّخذ أيّ قرار وفق ما يراه. وبحسب هذا المنطق، يحتمل الامر أن يقرّر إعادة إرساء الملَكية أو الخلافة، وذلك كون إرادته حرّة وغير مقيَّدة. كما يمكنه إنكار أن تونس هي أمّة، وهو ما فعله في مشروع الدستور الحالي.
وتذكّرنا هذه الأطروحة بوجهة النظر التي طوّرها المنظّر والسياسي والقانوني الألماني كارل شميت في سياق شرعنة النازية. فبحسب شميت، القرار هو علامة السيادة. وصاحب السيادة، وفق الرجل، هو من يتّخذ قرارات الاوضاع الاستثنائية. وقد تمّت بلورة هذه النظرية تحديداً لمواجهة الأطروحة الليبرالية (التحررية) حول دولة القانون. ولتلك النظرية نتيجة مزدوجة: جعل القرار أساس النظام السياسي، ونزع القانون. تلك الأطروحة خاطئة، ذلك أن المشرِّع ليس متحرراً من كل التزام، كما أن الثورة ليس قطيعةً فحسب، بل هي مسار أيضاً، وهي لا تمحو كل ما سبقها. وهي ليست فرصة للفراغ.
في ما يتعلق بالسلطة التأسيسية الأصلية، هناك اتفاق عام على أنّه يجدر بهذه السلطة أن تحترم بعض المبادئ التي تكتسب قيمة فوق ـ دستورية. إذ يفترض وجود جوهر ملازم لفكرة الدستور نفسها. فلا يمكن تصوٌّر الدستور من دون الأمّة والاعتراف الصريح بسيادتها. وهدف الدستور كما سبب وجوده هو الحدّ من السلطات وضمان الحريات. وينصّ البند السادس عشر من الإعلان الفرنسي لحقوق الانسان والمواطن على أنّ «أي مجتمع ضمانة الحقوق فيه غير مكفولة، والفصل بين السلطات غير محدَّد، فهو لا ينعم بدستور».
في السياق التونسي، تفرض هذه القيود نفسها بقوة أكبر، بما أن هدف الثورة كان جعل الحريات والحقوق الأساسية فعّالة، وإنهاء انتهاكها، وتحقيق الوعود التي لم يُلتزم بها حتى الآن. وهذه القيود تفرض نفسها بشكل طبيعي إذا كان الأمر يتعلق بإرساء دولة القانون.
÷ السلطة التي تضع حدودها بنفسها هي سلطة مطلقة:
يطرح مبدأ السمو على الدستور مجموعة من الصعوبات التي لا حل سهلا لها. ما هي طبيعة هذه القواعد (الأخلاقية أو القانونية)، وما هي أسسها (الطبيعية والوضعانية)، وما هي مصادرها (المحلية أو الدولية)؟ إنّ تعريف هذه المبادئ ليس مؤكداً، وهو يشكّل نقطة خلافية بين الكتّاب.
غير أنّ هذه الأسئلة الصعبة لا يمكن بأي حال أن تبرّر «الامضاء على بياض» الذي يحاول الحصول عليه المشرّعون التونسيون الحاليّون، ليفعلوا من ثمَّ ما يشاؤون. بالحدّ الأدنى، يجب أن يلتزموا بمبدأ عدم التراجع عن المكتسبات. فالسلطة ــ وإن كانت سلطة تأسيسية أصلية ــ التي لا تلتزم إلا بالقيود التي تضعها هي بنفسها، هي بالضرورة سلطة مطلقة، وهو ما لا يتناسب أبداً مع بناء مجتمع ديموقراطي.
تتخلى الثورة عن أهدافها في حال تمّت إعادة النظر بالمكتسبات الديموقراطية التي استندت إليها. لأن أي ثورة عاجزة عن محو الماضي، ولأنّ أي ثورة لا تنطلق من عدم، ولا يمكنها السماح لنفسها بالتراجع إلى الخلف. تتمتع المبادئ القانونية بشيء من الاستمرارية الزمنية، وهي تبقى سارية خلال الفعل الثوري على اعتبار أنها نظام قانوني. وليس من تناقض بين الاثنين، في حال سمح الفعل الثوري بتحسين النظام القانوني.
ومبدأ عدم التنازل عن المكتسبات، الذي تمّ تطويره بخصوص حقوق الانسان، كان قد وجد ركيزته بفضل القانون البيئي. فهذا المبدأ يتعلق بفكرة التقدم، وهو يطبق على حقوق الانسان بشكل عام وعلى مختلف المكتسبات في تونس المعاصرة بشكل خاص.
يعيق مبدأ عدم التراجع الانتكاس الى الخلف، لكنه لا يمنع التقدم. إنه ترياق يسمح بمنع التراجع والانحدار، ويشجّع تعزيز وتحسين التطورات المتحقّقة. وهذه المكتسبات ليست جامدة، بما انها قابلة للتطور والتحسن. إذاً، فإنّ فكرة التقدم هي ما يبرر عدم التنازُل عن المنجزات وبالتالي مبدأ القانون القائم على التقدم والهادف إلى جعل حقوق الانسان أكثر فعالية بشكل دائم. كما أن هذا التطوُّر يتحقق في دولة القانون التي يفترض أن ضمان الحقوق الأساسية هي رسالتها أو التزامها.
حماية الحقوق المعطاة للنساء:
يفيد مبدأ عدم التنازل عن المكتسبات في ضمان الحفاظ على الحقوق والحريات التي حقّقتها الأجيال السابقة لصالح الأجيال الحالية، وتلك التي تحقّقها الأجيال الحالية لصالح الأجيال المستقبلية. لا يمكن لجيل معيّن أو غالبية برلمانية ما حرمان الأجيال الحالية من الانجازات المحقَّقة، كما أنه لا يمكنهما حرمان الأجيال المستقبلية من تعزيز هذه الانجازات.
يجدر التعاطي مع بعض المكتسبات على اعتبار أنها من النوع غير القابل للارتداد. وتشكّل هذه المكتسبات سقفاً أدنى لا يمكن للمشرِّع ــ حتى ولو كان تأسيسياً ــ التنازل عنها. تتيح نظريات واجتهادات خاصّة بمجال حقوق الانسان بلورة قانونية لمبدأ عدم التنازل عن المكتسبات المرتبط بفكرة التقدم الملازمة لحقوق الانسان، وإرادة ضمان فعاليتها. الإعلان العالمي لحقوق الانسان ينص على أن الشعوب «حزمت أمرها على النهوض بالتقدم الاجتماعي وتوفير ظروف حياة أفضل». يمكن تفسير الاتفاقيات الدولية الموقعة في العام 1966 على أنها تمنع التنازل عن المكتسبات.
مع ذلك، فإنّ حقوق المرأة الواردة في قانون الأحوال الشخصية تشكل تطوّراً، أمّا الاعتراف بالحريات الفردية والحقوق الأساسية فهي مكتسبات، وتستحق أن يتم تعزيزها ودسترتها، وأن تصبح فعّالة. لقد ذكّرت محكمة الاستئناف في تونس العاصمة أخيراً، في حُكمٍ أعلنته في الخامس من شباط/فبراير 2013 (مسجل تحت الرقم 43429)، بأنّ الأحكام الواردة في دستور العام 1959، والخاصة بالحقوق الاساسية، هي بطبيعتها غير قابلة للإلغاء أو الإبطال، ولذلك، فهي تبقى سارية التطبيق. انطلاقاً من ذلك، فإنّ تلك الحقوق يعمل بها بغضّ النظر عن تعليق أو إلغاء الدستور نفسه.
لا بد من التذكير في هذا السياق بأنّ باي تونس قد طبّق مبدأ عدم التنازل عن المكتسبات، وذلك في الأحكام الأخيرة للعقد الأساسي للعام 1857، بتضمينه ما يلي: «نقسم بالله وبالعقد المقدَّس، بأن نطبّق المبادئ الكبرى التي طرحناها بحسب النمط المذكور، وأن نلحق هذه المبادئ بالشروحات الضرورية. نلتزم، ليس باسمنا فحسب، بل أيضاً باسم مَن سيخلفنا، بألا يحكم أحدهم إلا بعدما يقسم بالحفاظ على هذه المؤسسات التحررية الناتجة عن عنايتنا وجهودنا: إنّ هذه الجمعية الموقّرة المؤلفة من ممثلي قوى كبرى صديقة وموظفين رفيعي المستوى في حكومتنا، هي لشاهد علينا أمام الله».
إن الامتناع عن تطبيق مبدأ عدم التنازل عن المكتسبات هو بذاته تراجع وانتكاس.
ينشر بالاتفاق مع الصحيفة الالكترونية (Le Maghreb Emergent)