هذا النص هو مقدمة كتاب "حرب التحرير ومسار التنمية في الجزائر" للكاتب الألماني "هارتموت إلسنهانس". يصدر الكتاب عن مؤسسة "نقد للدراسات والنقد الاجتماعي"، بترجمة سناء بوزيدة تحت إشراف عفاف زقور.
****
أرادت مجلة "نقد"، في هذا العدد خارج السلسلة، أن تكرّم المؤرخ والعالم السياسي والخبير الاقتصادي الألماني "هارتموت إلسنهانز" وتشيد به. وهو كاتب وأكاديمي متميّز كرس جزءا كبيرا من حياته المهنية لأعمال بحثية ومنشورات حول الكفاح التحريري للجزائر المحتلة، وحول سياسات التنمية التي انتهجتها مختلف الحكومات المتعاقبة منذ استقلال البلاد.
أما السبب الآخر لخيارنا، فله علاقة مباشرة بالمبدأ الذي تقوم عليه مجلة "نقد"، والمتمثل بتعزيز الفكر النقدي في جميع مجالات المعرفة. في الواقع، لطالما كانت المقاربة المتخللة في أعمال هذا المؤرخ عرضة، لزمن طويل، لنوع من مؤامرة الصمت في الأوساط الأكاديمية الفرنسية، وكذلك في أوساط المثقفين الجزائريين، سواء من اليساريين أو اليمينيين. إن أطروحته التي أشرف عليها ألفريد غروسر Alfred Grosser وناقشها ببرلين، والموسومة بـ"الحرب الجزائرية 1954-1962. محاولة إنهاء استعمار حاضرة رأسمالية"، لم تنشر في فرنسا إلا بعد مرور 28 عاماً تحت العنوان المنقّح "الحرب الجزائرية 1954-1962. الانتقال من فرنسا إلى أخرى. الانتقال من الجمهورية الرابعة إلى الخامسة" (1) . إن الانزلاق الدلالي للمعنى في البعد البؤري للعنوان يعكس بنفسه هذه النقطة العمياء في النظرة التي يلقيها علم التأريخ الفرنسي على الجزائر، وعلى نطاق أوسع، على المسألة الوطنية والاستعمارية.
إن سلسلة الأسئلة التي يطرحها "هارتموت إلسنهانز" منذ النص الأول، تنيرنا حول المقاربة "غير التقليدية" التي يتناول بها العلاقة بين الجزائر وفرنسا من منظور الخطط الاستراتيجية الفرنسية، ومحاولات تأقلم الطرف الجزائري معها من الفترة الاستعمارية إلى فترة ما بعد الاستعمار:
اقتصاد الجزائر المستعمرة 1830 – 1954
09-11-2017
"لماذا بقيت فرنسا، إلى غاية السنة الثالثة من الحرب، غير نشيطة من حيث التطور السياسي؟ لماذا بقي طريق التفاوض مسدوداً خلال قرابة أكثر من خمس سنوات؟ ما هي القوى والدوافع التي أدت بفرنسا إلى قبول إبرام سلامِ مع جبهة التحرير الوطني؟ ألم يكن الجوهر الأساسي محاولة استعمال هذه الهزيمة السياسية للولوج إلى دور جديد تماما في العالم الثالث؟
كيف يمكن تصوّر فكرة تحقيق دور كهذا، مع المساعدة المباشرة أو عير المباشرة للحكومة المستقبلية المستقلة والثورية للسلطة بالجزائر العاصمة، بعد انتصار سياسي وعسكري اكُتسب بعد الكم الكبير من التضحيات؟"
ويختم أجوبته على هذه الأسئلة من خلال الفكرة بأن "حرب الجزائر لم تُخسر على المستوى الدولي، ولكن المؤكد أنها انتصرت، ليس بانتصار عسكري تقليدي، بل بقدرة المقاتلين الجزائريين على المواصلة ومنع قوات القمع من تثبيت نظامها".
هنا نجد المؤلّف يركز، بطريقته الخاصة، على أولوية المقاومة والعامل الداخلي في تحرير البلاد. ففي مقاله الثاني الموسوم بـ "مكانة حرب الجزائر في التاريخ العالمي"، يصرّ على كون "الثورة الجزائرية هي أول ثورة ناجحة ضد النظام الاستعماري الذي لا يُمَثّل عمل المؤسسات التي كانت بمثابة رؤوس جسر، والتي أوجدتها القوى الاستعمارية، ولا عمل الحركة الشيوعية الدولية. فقد عارضت عمليات إنهاء الاستعمار التي كانت تروّج لها القوى المستنيرة من بين القوى الكولونيالية، والتي كانت تحاول تحديث أدوات الهيمنة للسماح بمزيد من اختراق الأطراف من قبل أوروبا الغربية وابنتها الكبرى أمريكا الشمالية مع المهيمن الجديد: الولايات المتحدة".
ويقول في فقرة أخرى من المقال: " إن الثورة الجزائرية هي من فعل قوى شعبية كانت تصبو إلى تغييرات عميقة في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية لمجتمعها وتأكيداً جديداً لهويتها الثقافية. وبدون الإشارة صراحة إلى حتمية تاريخية ماركسية، فقد شاركت، مع ذلك، وجهة النظر في ترقية الجماهير الشعبية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. على الرغم من الالتزام الصادق للثوار الجزائريين بهذه الأهداف، لم تستطع الثورة الجزائرية الوفاء بوعودها (...)".
إن نظرته النقدية الثاقبة التي ركزت هذه المرة على القيادات السياسية للجزائر المستقلة تبين لنا كيف أن التحليل لا يُساير ما يمكن أن يسميه المرء بالخطاب العالم الثالثي. إذ يقول:" إن الثورة الجزائرية تقوم في الواقع بإعادة إنتاج تناقضات الثورة البرجوازية. فباسم العدالة الاجتماعية، تدمر القوات الشعبية النظام القائم على امتيازات ما قبل البرجوازية، لكنها لا تستطيع إلا أن تقدّم المساواة في الحقوق والواجبات دون أن تضمن في الوقت نفسه المساواة في الظروف الاقتصادية والاجتماعية".
أما في مقالاته حول الاقتصاد السياسي، المكرسة لسياسة التنمية في الجزائر المستقلة، فلم تلق نظرته النقدية الكثير من الاستحسان. بل العكس من ذلك. يركز المؤلِّف، بالنسبة للخيارات الاقتصادية للحكومات الأولى في البلاد، على الميول البيروقراطية السلطوية ومن ثم التحول إلى اقتصاد الريع وتكوين دولة طبقية رأسمالية ريعية.
يسلط "إلسنهانز" الضور على بواكير هذا التطور في مرحلة مبكرة. ففي تمهيده للطبعة الألمانية للميثاق الوطني لعام 1976، كتب: "إن النص الذي تم تبنيه، في نهاية المطاف، هو في الوقت نفسه نتيجة إرشادات من البيروقراطيات الاقتصادية والسياسية، ونقاش عام واسع النطاق لم يُفرض فيه أي حظر. ومع ذلك، كان لا بد من احترام التوجهات الأساسية للسبيل الجزائري: الأولوية للقطاع العام في بناء صناعة حديثة عالية التقنية، وإطلاق السوق الداخلية بشكل تكميلي من خلال الثورة الزراعية (التي بدأت في عام 1971) وتعبئة القوة الكامنة للعمل الذي كان يجب ربطه بها".
ويشير إلى أنه في أعوام 1970-1980، لم يأخذ أنصار نماذج التنمية - الذين وعدوا بالتغلب على التخلف ووضع حد للتناقضات بعد إعادة الهيكلة الاشتراكية للاقتصاد والمجتمع - لم يأخذوا في الاعتبار الجدالات حول استراتيجيات التنمية في الصين الشعبية ولا مقاومة الإيرانيين لـ "الديكتاتورية الطوعية" للتحديث التي قادها الشاه. في الواقع، بالنسبة ل"إلسنهانز"، "لا تَعِد المراكمة، دون صناعة حديثة، والقائمة على تعبئة العمالة الريفية غير المؤهلة، إلا بنجاحات محدودة، لكن يؤدي خيار استيراد جزء كبير من التكنولوجيات إلى تناقضات جديدة".
ففي إيران، بالرغم من المبالغ الضخمة المستثمرة والتعاون بدون لُبس من قبل الشركات المتعددة الجنسيات، لم تثر الصناعة الإيرانية طلباً واسعاً بما فيه الكفاية في الداخل، والذي كان سيسمح بنمو مُتمركز ذاتياً: " سيتعين على أنصار التجارة الحرة تماماً أن يشرحوا كذلك لماذا كانت حوافز النمو، المنبثقة عن الصناعة الموجهة للتصدير، محدودة للغاية".
الجزائر: مخاض ولادة رأسمالية متلعثمة
29-03-2019
الاقتصاد غير المهيكل في الجزائر وخصخصة الدولة
26-04-2018
ويرى "إلسنهانز" أن التناقضات التي ظهرت في هذه النماذج المختلفة تشتغل أيضاً في مجال التنمية الجزائرية. أما بالنسبة لهذه التناقضات، فسيكون للفشل الذي ظهر في اعتمادها آثاراً مدمرة على الاقتصاد والدولة والمجتمع. ويرى الكاتب أن الرّيوع القائمة على تصدير المواد الخام، هي حالة معينة من فشل الانتقال إلى الرأسمالية. فدون تحوّل رأسمالي للاقتصادات المعنيّة، يظهر الريع على نطاق واسع في فترة تغلغل الرأسمالية: "لقد تطلب الأمر تطوير جهاز بيروقراطي لإدارة إنتاج وتسويق القطاع الريعي، وتخصيص الرّيوع التي تمّ الحصول عليها لتنويع اقتصاداتها في الوقت نفسه. لم يكن يمكن للسوق أن يجري هذا التنويع لأن القطاعات المتوقعة كانت، في البداية على الأقل، ذات ربح ضئيل. ونتيجة لذلك، تم استبعاد سيطرة المنافسة على السوق بالنسبة لمدراء الفائض. وهكذا، تحوّلوا إلى طبقات - دولة. كانت هذه الاقتصادات تعتمد ، حسب الطلب في السوق، على قطاعات منخفضة النمو والتي من غير المرجح أن تقود هذه المجتمعات إلى مستويات عالية من العمالة. وقد حدّ هذا من قوة الاحتجاج عند جماهير العمال المحليين الكبيرة".
في الختام، في محاولتنا للبقاء أقرب ما يمكن من التفكير النقدي ل"هارموت إلسنهانز" في مجال تأريخ الجزائر المعاصر والاقتصاد السياسي للتنمية، أثارت الحركات الشعبية للعقود الأخيرة العديد من الأسئلة التي يمكن أن تحمل معنى بالنسبة لهذه الحركات نفسها وبالنسبة لمستقبل الكفاحات التي ما فتئوا منخرطين في خوضها وقيادتها.
فهرس الكتاب:
*ترجمت المقدمة سناء بوزيده
1- Publisud, Paris 2000 ; 1072 pages