في ساعات الفجر الأولى من أحد أيام أيلول/سبتمبر الماضي، وصل جثمان طفل في الـ 16 من عمره إلى مشفى السلمية الوطني، وكان منتحراً شنقاً. وكان والده قد حاول إسعافه حين وجده معلقاً داخل غرفته بحبل محكم. وقد رصدت تقاريرٌ صحافية وقوع الكثير من حوادث الانتحار، واحدة ضجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أقدم شاب يبلغ من العمر 25 عاماً، متزوجٌ ولديه ثلاثة أطفال، وكان يعاني من مشاكلَ عصبية ويتعاطى المسكنات، على الانتحار بإطلاق النار على نفسه من مسدس حربي في محافظة الحسكة...
كشف المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا أن هناك زيادةً في معدلات الانتحار في البلاد، فوفق ما قال، بلغ عددها من بداية 2020، وحتى منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، 176 حالةً، بمعدل شهري هو 16 شخصاً، مبيناً أن الوضع الاقتصادي، أو فقدان عزيز من أبرز أسباب الانتحار.
الأرقام الرسمية ليست إلا جزءاً يسيراً للغاية مما يقع في الواقع. فوفاة غالبية المنتحرين تُسجَّل في المشافي على أنها "تسممٌ دوائي" أو "تسممٌ غذائي"، مع إهمال تام لمتابعة محاولات الانتحار التي تفشل، وعلاجها نفسياً. وقال مازن خليل، وهو رئيس رابطة الأطباء النفسيين في سوريا: " في بداية الحرب كان السوريون يموتون بسبب المعارك والقذائف والتفجيرات، أما الآن فيموتون من الفقر والتشرد والجوع، ما يسبب ضغوطاً نفسية كبيرة، فالاضطرابات النفسية التي تُولَّد من الأزمات الاقتصادية تولّد أذى، وصدمةً أكبر من الحرب بحد ذاتها".
هناك حوالي مليون مواطن سوري يعاني من اضطرابات نفسية شديدة، و30 في المئة من المواطنين السوريون يعانون من حالات الاكتئاب، والتي يمكن أن تصل للانتحار في مراحلها الشديدة.
ويشير مدير "مشفى البشير للأمراض العصبية والنفسية" إلى إهمال الصحة النفسية في البلاد: "عدد الأطباء النفسيين الموجودين فعلياً في سوريا، والذين يمارسون مهنة الطب النفسي، لا يتجاوز 25 طبيباً في كامل البلاد، 15 منهم في مدينة دمشق. ومع كل الدفعات التي يتم تخريجها سنوياً من الجامعة فالأعداد في نقصان، ففي عام 2010 كان عدد الأطباء النفسيين في سوريا 120 طبيباً".
هل من أحد يريد الحل في سوريا؟
30-12-2020
عدد الأطباء في سوريا كافٍ لأقل من مليون نسمة. فحسب ما تعلنه الاحتياجات العالمية للصحة النفسية، يجب أن يكون هناك مئةُ طبيب لكل مليون نسمة، وفي سوريا 20 مليون نسمة. اختصاص الطب النفسي مهملٌ، والأبواب مفتوحة في الخارج. معظم الأطباء غادروا البلاد، وبالأخص الأجيال الجديدة يغادرون بمجرد تخرجهم، ووجهتهم أوروبا والخليج. فمدخول الطبيب النفسي منخفضٌ بشكل مخيف، فهو يتقاضى بين 5 و 10 آلاف ليرة سورية (2 – 4 دولار) مقابل الجلسة العلاجية، والأجر المحدد من قبل النقابة هو 1500 ليرة سورية (0.5 دولار) وهو حين يتقاضى خمسة آلاف يعتبر مخالفاً ويعاقب قانوناً.
الإحصائيات والنسب العالمية
هناك حوالي مليون مواطن سوري يعاني من اضطرابات نفسية شديدة، و30 في المئة من المواطنين السوريون يعانون من حالات الاكتئاب، والتي يمكن أن تصل للانتحار في مراحلها الشديدة. ويرجح رئيس رابطة الأطباء النفسيين في سوريا أن تكون النسب أكبرَ من ذلك ويقول: "حسب النسب العالمية للصحة النفسية، ففي الحالات الطبيعية يكون ما بين 1 إلى 2 في المئة من المواطنين مصابين باضطرابات نفسية شديدة، وفي الأزمات ترتفع النسبة لتصبح أربعة في المئة. أما الاضطرابات النفسية المتوسطة، مثل "الاكتئاب والقلق"، فنسبها العالمية أكبر. نسب انتشار الاكتئاب في العالم هي من 10 إلى 15 في المئة من السكان، وفي الأزمات تتضاعف النسب".
لا تمثل الأرقام الرسمية إلا جزءاً يسيراً للغاية مما يقع في الواقع. فوفاة غالبية المنتحرين تسجّل في المشافي على أنها "تسممٌ دوائي" أو "تسممٌ غذائي"، مع إهمال تام لمتابعة محاولات الانتحار التي تفشل، وعلاجها نفسياً.
مدخول الطبيب النفسي منخفض للغاية. فهو يتقاضى بين 5 و10 آلاف ليرة سورية (2 - 4 دولار) مقابل الجلسة العلاجية، والأجر المحدد من قبل النقابة هو 1500 ليرة سورية (0.5 دولار)، وهو حين يتقاضى خمسة آلاف، يعتبر مخالفاً ويعاقب قانوناً.
للاضطرابات النفسية عواملُ كثيرة، خارجية، داخلية، بيولوجية، وإذا زاد السبب الخارجي فمن المؤكد أنه سيؤثر على زيادة النسب، والأزمات في سوريا تتميز باستمرارها لمدة طويلة.
ووفق تقارير للمنظمات العالمية المختصة، ومنها تقريرٌ للأمم المتحدة صدر في آخر 2019، فإن 83 في المئة من سكان سوريا يعيشون في فقر مدقع. ونتيجة لذلك، استنفدت القدرة على التكيف لدى الكثير من الناس في المجتمعات المحلية الأكثر تضرراً في البلاد، خصوصاً في حلب ومحيطها وريف دمشق، وادلب..
مشروع "فضفضة"
بدأت فكرة "مشروع فضفضة" للعلاج النفسي إلكترونياً من قبل مجموعة من الأطباء النفسيين، والمعالجين النفسيين، والباحثين الاجتماعيين الذين تجاوز عددهم الثلاثين، بالإضافة لمعالجين في منظمات كـ"أسرة وتعديل سلوك الأطفال" أو معالجين للنطق. اعتمد المشرّع السرية المطلقة كأساس لآلية العمل بين الطبيب والمريض، وقد أُطلق في مرحلته التجريبية في شهر آب/ أغسطس 2020، ولاقى إقبالاً كبيراً، إذ تجاوزت أعداد المتقدمين إلى العلاج الآلاف خلال الأسابيع الأولى. وحسب الدكتور مروان خليل، وهو مدير المشروع: "نعطي الأولوية للحالات الأكثر حدة مثل "محاولات الانتحار" أو " إيذاء أو حرق الذات".. وكانت نسبتهم مرتفعة.
البيوت أسرار.. ذاكرة مجدّلة بالعنف
05-09-2020
السوريون المهزومون جداً، من يداوي خيباتهم؟
30-01-2019
البرنامج يقدم خدمة العلاج النفسي في مجالات متعددة ك"العلاج السلوكي المعرفي"، و"العلاج العرضي السردي عبر الهاتف" لحالات الأشخاص المتعرضين لصدمات كبيرة، كفقدان شخص عزيز بسبب الحرب، أو الأشخاص الذين شهدوا المعارك وشاهدوا أشلاء الجثث. كما وجد هناك اخصائيون لعلاج اضطرابات النطق عند الأطفال عبر الصوت والصورة، لأن المستفيد هنا بحاجة لتقليد حركات المعالج. هذا بالإضافة إلى استشارات أسريّة للمشاكل التي تخص الأزواج، والأطفال، لتخفيف العنف الأسري الذي زادت نسبته أيضاً. كما يتم معالجة الأطفال الذين لديهم اضطرابات سلوكية (العنف، السرقة). ويتابع: "هناك حالات نفسية لعدد كبير من السوريين يمكن أن تتعدل عن طريق تأمين الحاجات الأساسية، من المسكن والغذاء والدواء، لذلك لدينا خريطة بيانات لباحثين اجتماعيين مهمتهم التشبيك مع المنظمات والجمعيات لتأمين خدمات اجتماعية - صحية، ومنها فرصة عمل، تدخل جراحي، كرسي متحرك، علاجات صحية". ويقول: "نحاول من خلال مشروع "فضفضة" أيضاً تخليص الناس من الوصمة الاجتماعية المرافقة لذهاب الفرد إلى الطبيب النفسي. فمن حق الشخص الراغب بالاستفادة من المشروع أن يضع اسماً مستعاراً، وأن يضع رقم الهاتف الذي يرغب به. يوجد سرية مطلقة في التعامل مع المستفيد، والتواصل سوف يكون إلكترونياً، فلا المعالج يعرف المستفيد والعكس صحيح. وكل المطلوب هو الدخول من خلال الرابط المعلن عنه على الصفحة الرسمية للمشروع، وعرض المشكلة النفسية التي يعاني منها المريض، وتعبئة البيانات التي تساعد الطبيب النفسي على تشخيص الحالة، وتحديد الوقت المتاح للمستفيد للاتصال به من قبل المعالج".
هناك عدة مبادرات لتوفير العلاج النفسي المجاني، منها مشروع "فضفضة" الإلكتروني الذي أطلقه مجموعة من الأطباء النفسيين والمعالجين النفسيين والباحثين الاجتماعيين. وهناك "عيادة غاردينيا" للعلاج النفسي الإلكترون. توجد سرية مطلقة في التعامل مع المستفيد، الذي يمكنه أن يختار اسماً وهمياً تخليصاً له من الوصمة الاجتماعية المصاحبة لهذه الأمراض.
حسب القائمين على المشروع، فالإجراءات التي تتخذ في المشافي والعيادات، هي ذاتها المتبعة في مشروع "فضفضة" حيث يتم الاعتماد في تشخيص الحالات على خمسة أطباء نفسيين، وتتراوح مدة الجلسة من 40- 60 دقيقة حسب الحالة. الخدمة مجانية بالكامل والاتصالات الهاتفية أيضاً على حساب المشروع، والأمر متاح لثماني عشرة جلسة.
الأمراض النفسية تستوطن الـعـراق
22-05-2013
المرضى النفسيون في الأردن: جيش من المهمّشين
24-04-2013
البرنامجُ لا يقدم الدواء في حال كانت هناك حاجة له لعلاج الأمراض المزمنة مثل "الفصام"، "أمراض الذهان"، فينصح بمراجعة طبيب. ويقول د. خليل: "نتابع حالة المريض بعد شهر من التقييم الأولي. وحصلنا على نسبة إيجابية مهمة في قياس "التغذية الراجعة"، تجاوزت 90 في المئة، وهذا إنجاز مهم، والمشروع مستمر لغاية الشهر الرابع 2021". ويكمل: "حمل برنامج العلاج النفسي اسم "فضفضة" لتخفيف الوهم الذي يرافق فكرة مراجعة الطبيب النفسي، وعندما يدخل المستفيد سوف يجد علاجاً نفسياً حقيقياً. فنحن نتبع القواعد العلمية مثلما في العيادة تماماً، ولكن إلكترونيا".
عيادة غاردينيا النفسية الإلكترونية
مع تزايد عدد حالات الانتحار المعلن عنها من قبل الجهات الرسمية، وتزايد الحالات التي تُنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وجدت الطبيبة "زينب العاصي" ضرورة إنشاء عيادة نفسية إلكترونية، وبالأخص مع إهمال الصحة النفسية في البلاد. فأسست عيادة "غاردينيا" في أيار/مايو 2020. تقول "العاصي": بدأت العمل مع بعض المختصين من أطباء ومعالجين نفسيين، وتلقي الحالات عبر بريد الصفحة الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، ودراسة الحالة، ووضع خطة علاجية لكل حالة، ومع تزايد عدد الحالات وجدتُ ضرورةَ زيادة عدد الفريق لـ 12 من المتطوعين بين أطباء نفسيين، وأخصائيين نفسيين واجتماعيين لتغطية أكبر عدد من الحالات. فريقنا مكوّنٌ من خريجي علم نفس وعلم اجتماع متمرسين من خلال خبرتهم العملية وأنشطتهم التطوعية في المراكز المجتمعية المدعومة بخبرة الأطباء النفسيين. في البداية نقوم بدراسة الحالة، وتحويلها للمعالج المختص ليتم متابعة الجلسات أونلاين. بعض الحالات يكون لديها رغبةٌ بالتواصل المباشر مع الطبيب أو المعالج، فيكون من الضروري إجراء الجلسات بالمركز مع معالج من فريقنا". وعند الحاجة يتم توجيه الشخص المعني إلى ضرورة مراجعة عيادة نفسية لتلقي العلاج الدوائي، في 3 أشهر وصلنا ما يقارب 550 حالةً، العدد الأكبر من الحالات التي تصلنا للمصابين بالاكتئاب أو الصدمات".
83 في المئة من سكان سوريا يعيشون في فقر مدقعٍ بحسب التقارير الدولية، ومنها تقرير الأمم المتحدة 2019. ونتيجة لذلك، استنفدت القدرة على التكيف لدى الكثير من الناس في المجتمعات المحلية الأكثر تضرراً في البلاد، خصوصاً في حلب ومحيطها وريف دمشق، وإدلب..
وتضيف "العاصي" بصفتها ناشطة مجتمعية في قضايا المرأة بالإضافة لكونها طبيبةً: "على اعتبار أني أعمل منذ حوالي السنتين مع السيدات اللواتي تعرضن للابتزاز الجنسي، بالإضافة للقاصرات اللواتي يتعرضن باستمرار للتعنيف الأسري، لاحظتُ الآثار النفسية السلبية التي تظهر على الفتيات من دون أن يشعرن. ركزنا في عملنا على تقديم الدعم والاستشارة لهذه الفئة، وقد وصل عدد حالات الابتزاز التي وردت إلينا إلى 1000 حالة". وتشير العاصي إلى "سرية التعامل مع الحالات الواردة للعيادة، فالمشاكل النفسية ومراجعة الطبيب النفسي يشكلان أزمةً للفرد، فحتى من هو حاصلٌ على شهادات عليا يخشى من الذهاب إلى الطبيب النفسي خوفاً من وصم المجتمع".