الموت العنيف يقطّع الحياة، يبترها ويرميها إلينا جثثاً هامدة لا تشبه ما كانت عليه في حياتها. يبدو أن معاناة الإنسان في حياته ما عادت تهزنا كما يفعل موته البشع... في الثاني من تموز/يوليو الفائت، استفقنا على خبر حرق الفتى محمد أبو خضير حياً وإلقاء جثته في أحراش دير ياسين الموشومة بالموت. عندها التفت العالم إلى أن القدس ما تزال محتلة.. بحياتها وبموتها. الموت يدور في فلسطين، ضارباً، يذكّر العالم أن الضفة الغربية محتلة أيضاً وأن غزة المنسيّة في حصارها منذ سبع سنوات محتلة أيضاً رغم إصرار المحتل على اعتبار نفسه قد انسحب منها. هل كان لا بدّ أن يُستشهد 2142 إنساناً ويجرح أكثر من 11 الفاً غيرهم، لكي ينتبه العالم إلى المأساة التي تعيشها هذه البقعة الفائرة بالحياة، والتي تُنسى بين العدوان والعدوان، وسرعان ما تستعيد حضورها بزخم عند حضور الموت!
لكن هل يمكن المقارنة بين هذه وذاك؟ هل يمكن المقاربة بين 2142 شهيداً، وشهيد واحد في القدس مثلاً؟ هل السؤال صحيح أصلاً؟ هل الخوف الذي أصابنا في القدس غداة قتل محمد أبو خضير والاعتداءات المتكررة التي طالت العديد من الفلسطينيين في الشارع وفي المواصلات العامة وفي أماكن عملهم وفي بيوتهم، أقل وزناً ومعنى بل وصدقاً من الرعب الشديد الذي طال حياة الغزاويين المسجونين في بقعة مسيجة بالنيران من كل الجهات. هل خوفنا مبتذل وخالٍ؟ تساءلنا.. بَلى، تساءلنا هذه الأيام في فلسطين، كل من موقعه عن معنى حياته وعن قيمتها، عن وزنها السياسي وعن قدرتنا على التأثير عليها.
الفرق بين الحروب الدائرة في كل منطقة من فلسطين، مع تقديم مثال القدس هنا، هو تحديداً الفرق بين الأهداف المرجوة في كل من هذه المناطق في المرحلة الآنية. سياسة البتر التي تعمّدتها اسرائيل تدريجياً لغاية ما وصلنا إليه اليوم، طالت الامتداد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التاريخي لكل الأمكنة في فلسطين. وأقسى وأقصى ما حققته هو الامتيازات التي وظفتها لتطويع منطقة جغرافية من دون أخرى: فلسطين المحتلة العام 1948 والقدس والضفة الغربية، وهناك غزة التي أقصيت تماماً من الخارطة وسدّت الطريق منها وإليها. هذه الامتيازات خلقت أيضاً سياسة مقاربة ومفاضلة بين الأمكنة وبين حياة الفلسطينيين فيها. بل أكثر، صيّرت الأمن والحياة أداة أخرى تعتمدها إسرائيل لتحتوي بعضنا وتقصي بعضنا الآخر.
لهذه المقارنات ثمن ندفعه نحن الفلسطينيين في النهاية. إذ أن ما تعنيه المقارنة بين موت وموت وأمن وأمن ما هو إلا تمويه بأن جزءاً ما من فلسطين محتلّ أقل أو أكثر من غيره. ويقدم قتل أبو خضير والمواجهات التي تلته بالتزامن مع العدوان البشع على غزة، مثالاً وجيزاً على سياسة التلاعب ليس بحياة الفلسطيني فحسب بل بموته أيضاً، وتوظيفه لتسجيل خطاب سياسي مغاير، إمعاناً في بناء مشروع الاستعمار المتشعّب.
الطريق إلى خيمة الشهيد
باتت خيمة العزاء التي نصبها أهل الشهيد محمد أبو خضير واحدة من أهم الرموز التي تبين مآل الخطاب حول القدس. إذ لم يكن من الممكن تجاهل توافد شخصيات حكومية إسرائيلية إليها، ولا تنظيم حركات «يسار» إسرائيلي لسفريات مجانية للراغبين بالمشاركة بالعزاء. هؤلاء جلسوا جنباً إلى جنب مع النواب الفلسطينيين في الكنيست الإسرائيلي الذين تركوا القدس الغربية حيث يداومون في «برلمانهم»، وحضروا إلى القدس الشرقية لتقديم العزاء للعائلة المنكوبة. جلس هؤلاء بدورهم إلى جانب ممثلي السلطة الفلسطينية، والذين يحتاجون بموجب اتفاقية أوسلو لإذن من الاحتلال للوصول إلى المدينة.
كيف ولماذا تحوّل حرق ثلاثة إسرائيليين لطفل فلسطيني إلى حدث إعلامي سياسي جذاب تهافت عليه كل ذي منفعة في اقتناص اللحظة وتوظيفها لمصلحة أجندته السياسية على اختلافها، وماذا يفعل هؤلاء في «أيام السلم»؟ حين لا يُسفَك دم في القدس ولا تُحرَق جثث، بل تتراكم ردوم بيوت وحياة مهدمة؟ لماذا فجأة بتنا نرى الإعلام الإسرائيلي بكليته مجنداً، يعرض على شاشته أرقاماً تشير إلى نسبة الفقر والتهميش الذي يعانيه المقدسيون، ويحوم بكاميراته ليبين بعدسة العطف التمييز ضد الفلسطيني في البنى التحتية والخدمات مقابل «جاره» الإسرائيلي في القدس الغربية؟ لماذا هذا الاندهاش الآن من أن في «العاصمة» قوم تعدادهم ثلث مليون من الفقراء المستضعفين العاطلين عن العمل؟ وإذا كانت القدس (ما تزال) محتلة أسوة بكل المناطق المحتلة العام 1967، فلماذا هذا التشديد عليها الآن؟ ولماذا القتل والتعدي على مقدسيين في عقر بيتهم، لم تكن لتثير أحداً بهذا الكم قبل عشر سنوات مثلاً، أي في الانتفاضة الثانية أو غيرها؟ كل هذا بالتوازي مع عدوان هو الأبشع على قطاع غزة.
حاول الإعلام والحكومة الإسرائيليان تحويل قتل محمد أبو خضير بوحشيته وبشاعته من قبل مواطن إسرائيلي (وليس الشرطة الإسرائيلية) إلى استثناء في السياق السياسي العام حول القدس. احتووه وقالوا نحن نتولى المسألة، وذلك تماشياً مع مخطط توحيد القدس بغربها وشرقها وتحويلها إلى شأن إسرائيلي داخلي خاص، خالصين إلى أن «مشكلة القدس الشرقية» ليست سياسية وإنما تتلخص بأوضاع اجتماعية ـ اقتصادية تُحلّ بالدفع نحو مساواة أهلها بغيرهم من «سكان المدينة».
ليس هذا الخطاب بجديد على القدس، فقد وضعت لبنته الأولى رئيسة الحكومة الإسرائيلية غولدا مئير في العام 1970 حين قالت «عرب العاصمة هم كعرب إسرائيل». رأت كما رأى غيرها أن استيلاءً منجزاً على العاصمة التي تمّ «توحيدها» للتوّ، لا يقوم إلا باستنساخ ما أسموه تجربة «عرب إسرائيل»، أي الفلسطينيين الذين فرضت عليهم المواطنة الإسرائيلية عقب العام 1948، وذلك بالاستيلاء على مصادر عيشهم ورزقهم وإفراغ مرجعياتهم السياسية من مضمونها وتحويل اعتمادهم اليومي الكامل على الحكومة الإسرائيلية، ومن ثم فرض سياسة أمن اقتصادي ـ اجتماعي لصهرهم واحتوائهم.
إلى ذلك كله يُضاف شرط فعلي آخر، هو عزل الشق الشرقي للقدس عن سياقها السياسي المحتل العام 1967، عبر سدّ الطريق على الضفة الغربية وقطاع غزة، على غرار سياسة العزل والصهر التي أعدّها مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية لشؤون العرب شموئيل طوليدانو لفلسطينيي 48. وللأخير كان دور في صوغ هذه السياسة في سياق القدس، إذ احتدم نزاع دار بينه وبين وزير الشرطة الإسرائيلية، تناقلته الصحف الإسرائيلية العام 1972، على صلاحية إدارة شؤون «عرب القدس الشرقية». فقد كانت إحالة إدارة شؤون المقدسيين في القدس «الشرقية» المحتلة لإدارة الشرطة، بمثابة إشارة إلى أنهم ليسوا جزءاً من المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي يعرقل خطة طوليدانو بـ«ترسيخ مفهوم أن عرب القدس الشرقية مثلهم مثل عرب إسرائيل».
إعمار القدس أم استعمارها؟
قبيل أيام ثلاثة من قتل محمد أبو خضير في القدس، أعلن رئيس بلدية القدس الإسرائيلية أنه «كلما ازداد الأمان الاقتصادي والاجتماعي، ازداد منسوب الرضا عنّا»، وذاك ضمن إعلانه عن إقرار مخطط حكومي يُخصص بموجبه ما يعادل 60 مليون دولار لتنمية القدس الشرقية اجتماعياً واقتصادياً. توزع هذه الميزانيات بين تحسين البنى التحتية للمناطق الفلسطينية، وتدعيم سوق العمل وقطاع التعليم والدراسات العليا، بما في ذلك تشجيع طلبة القدس على تعلم العبرية والانخراط في الجامعات الإسرائيلية. إلى ذلك تُضاف برامج للتقوية المجتمعية وتحسين الرفاه الاجتماعي. يُذكِّر هذا المخطط بآخر مشابه جداً كُشف عنه في العام 1967، دُعي باسم «مستند كينغ» الذي صاغ سياسة عزل وصهر الفلسطينيين الباقين في الأراضي المحتلة العام 1948.
تحت هذه العناوين البراقة يُخطط لإعمار القدس الشرقية ضماناً لأمنها واحتواء لأهلها. ولماذا إذاً يشكو أهل القدس حالهم وهناك من يرعى شؤونهم ويحرص على تسيير حياتهم وتسهيلها؟ تلك هي بالضبط الكف الناعمة التي تقصي وتضم لفرض السيطرة. يهدف هذا القرار في نهاية المطاف إلى تحقيق رؤيا غولدا مئير وطوليدانو وغيرهم، بجعل القدس مكاناً خارجاً عن السياق السياسي للاحتلال، بتحويل أهلها إلى مشكلة يتوجب إيجاد الحلول لها، من دون رد مشاكلهم إلى أصولها. يسبر بواطن هذا القرار تغييبه الكامل للأداة الأولى التي تخنق المقدسيين وتفقرهم وتهينهم وتضعفهم بغية دفعهم إلى هجر مدينتهم، أي مأساة هدم البيوت التي شردت في العقد الأخير أكثر من 2000 مقدسي، فيما تدفع الغالبية العظمى المتبقية منهم غرامات تدر ملايين الشواقل للخزينة الإسرائيلية، يدفعها هؤلاء على مضض كشرط للإبقاء على بيوتهم. فعلياً، إن ما دفعه المقدسيون على مدى هذه السنين من غرامات يفوق بكثير المبلغ المطروح في المخطط المزعوم. يُضاف إلى ذلك تغييب قضية سحب إقامات أهل القدس، التي منعت 14 ألف مقدسي منذ العام 1967 من العودة إلى مسقط رأسهم.
الأمن الذي يتبجح الإسرائيليون به هو الأمن الذي يُراد منه الاستيلاء على منابع هذه المدينة، وتحويلها إلى «العاصمة الأبدية». المنافع السياسية تسجلها إسرائيل يومياً على مرأى ومسمع من العالم أجمع، والذي لم يجد ليردّ في العام 1980 على سنّ المشرّع الإسرائيلي لقانون توحيد القدس، إلا بالامتناع عن إقامة سفاراته في القدس «الشرقية» وبالحفاظ على قنصلياته هناك فقط، مشيراً إلى أن «تل أبيب - يافا» هي العاصمة. فيما يستمر مشروع استنفاذ وتحويل القدس الموحدة إلى أمثولة يستسيغها العالم وينظر إليها فيرى نموذجاً لبناء مجتمع يحتضن الأقليات على اختلافاتها، وحيزاً يضج بالحياة والمهرجانات والسياحة. الاقتصاد عماد الاستعمار الغني، الذي لا يقوم من دون الأمن. وفي تلك المعادلة يصير لحياة المقدسي وموته ثقلاً. فمثلاً باتت القدس قِبلة سياحية مركزية لإسرائيل، ففي العام 2010 وحده والذي عدّ عام الذروة بالنسبة للسياحة الإسرائيلية، زار القدس 2.7 مليون سائح من أصل 3.5 مليون سائح. هي المدينة التي يخصص لميزانية السياحة فيها ما يعادل 40 مليون دولار. وما القدس دون البلدة القديمة، الموغلة في القدم والقداسة، والتي أعلنوها بشعارهم «البلدة القديمة قلب القدس النابض»!
مقتل أبو خضير أشعل القدس من شمالها إلى جنوبها، والعدوان البشع على قطاع غزة ذكّى هذه النيران. فاعتقل مئات من شبانها، وتلك مسألة أخرى تفتك بشباب القدس وأطفالها عامة، وتعيق حياتهم وأمنهم هم وعوائلهم. لم ينس معدّو مخطط تنمية القدس أسوة بمخطط «كينغ» إياه ـ إدراج بند مركزي يخصص ميزانية منفردة لتعزيز تواجد الشرطة وتحسين عملها في القدس الشرقية، لحفظ ما أطلقوا عليه «الأمن الشخصي» لأهلها.
ما الذي يبقى إذاً لنقوله؟ أمن القدس معلق برقبة مَن يقتل ويهدم ويشرد في غزة؟ الحياة أسمى من الموت، إلا أن الموت يهدم الأحلام، يهدم معه كل ما أردنا أن نبنيه بكرامة في مدينتنا التي لا يعمرها أحد.. بل يستعمرها المحتلّ كل يوم. كل يوم.