هناك شيء مفزع في الألم الإنساني. ليس فقط شكله ومداه وما تتقنه الحروب من دون غيرها في صناعته، وإنما أيضاً قابليته بأن يُطمس ويُهمش ويُبدّل مهما كانت فظاعته. حُوِّل الألم لظاهرة «علمية» تُقاس وتحسب وتحلل. في القدس، التي لم تبق دولة غربية إلا ونصبت لها مؤسسة إغاثية فيها، يذرع موظفون دؤوبون المدينة طولاً وعرضاً، يحمل كل منهم دفتره وقلمه لتسجيل أعداد البيوت المهدومة والاعتقالات واعتداءات المستوطنين، قبل أن يضع دفتره في جيب قميصه المكويّ ويمضي.
صحيح أن القدس منذ سنين لم تعد جبهة قتال، ولا يسقط الشهداء فيها كل يوم أسوة بمدن عربية أخرى نازفة. لكن الألم الذي يعتري نفوس أهل المدينة جراء استعمار يستنزف طاقاتهم ويهدر أملهم بأي مستقبل سويّ، حوّل الحياة فيها إلى معترك يومي تحسم تفاصيله مصائر المقدسيين في مدينتهم. بعيداً عن الأرقام والتقارير، بات الإنسان الفلسطيني في القدس ذاتاً محطمة، يصوغ العنف والفقدان شخصيتها. خلق هذا، من جهةٍ، لدى أهل المدينة قدرة تحمل عالية على ثقل الاستعمار والصمود في وجهه. لكنه خلق من جهة أخرى شكلا من التعود على وجود الحالة الاستعمارية، حدّ تجاهل التفكير بضرورة تغيير الواقع، بل والتسليم به.
كان صوت أبو توفيق هادئاً واثقاً حين حكى عن «الكرفان» الذي يسكنه وعائلته بعدما هُدم بيته. حكى عن ماضيه كميكانيكي سيارات محترف وإن كان لا يفك الحرف، إلى أن أثقلت بلدية القدس المحتلة كاهله بالضرائب «فانكسرتُ، ومن وقتها بلا شغل. بس لما هدوا البيت انكسر شيء جواتي وما عدت أعرف شو بدي أعمل». لم يرِد اليأس في حديث أبو توفيق وإن ملأت عيناه الغرفة تعباً وحزناً، لكن سرعان ما تهدج صوته حين تحدث عن ابنته ذات العشر سنوات «البنت صار لها أشهر ما بتنام.. من وقت ما انهد البيت. بتفيق بالليل بتخاف تروح عالحمام وبتخاف تشرب.. بتفيّق إمها تبكي».
هذه القصة تنسج آلافٌ مثلها حياة الفلسطينيين في القدس، حيث يمارس الاستعمار جملة من أشكال العنف تتنوع بين الاعتقال والترهيب وعنف المستوطنين، وسحب إقامات المقدسيين وتحوليهم إلى متسللين في مدينتهم يتملكهم رعب دائم بالنفي عنها، ناهيك عن هدم البيوت أو إخلائها. تترك هذه الممارسات أثراً نفسياً محطماً على الفرد ومحيطه، يهدف إلى إضعاف المقدسي والسيطرة عليه لتسهيل استعماره واستغلاله.
فمثلاً وصف الاختصاصيون النفسيون أثر سياسة إخلاء البيوت الفلسطينية وهدمها، بتشكّل حالة مستمرة من التوتر النفسي تتمثل بالأرق والنوبات العصبية والخوف من مغادرة البيت وحمل الأطفال لألعابهم في حقائبهم عند الذهاب إلى المدرسة تحوطاً من الهدم أو الإخلاء. وتتفاقم الحالة النفسية في الحالات التي يضطر فيها المقدسيون إلى هدم بيوتهم بأيديهم لتوفير الأعباء الاقتصادية التي تُفرض عليهم بحجة «البناء غير المرخص» اذا ما هدم الاستعمار المنزل، خصوصاً أن كثيراً ما يرافق الهدم الذاتي شعور بالذنب وبالإخفاق السياسي المتعارض مع مفاهيم الصمود والكرامة، كما ينص تقرير المركز الفلسطيني للإرشاد، المتخصص بالصحة النفسية في القدس. حرص الاستعمار على فرض حصار اجتماعي وسياسي على القدس، بعدما سدّ الطرق إليها وقطع ـ حرفياً - تواصلها مع الضفة الغربية التي شكلت الامتداد السياسي والاجتماعي والاقتصادي التاريخي للقدس.
جاء هذا تحديداً غداة اتفاقية أوسلو (1993) التي أقرّ أحد بنودها إخلاء المدينة من المؤسسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم أتبع ذلك بناء الجدار الفاصل الذي مثّل وجوده تذكيراً يومياً للمقدسي بعزلته عن محيطه. ولّد هذا الفصل شعوراً لدى المقدسيين بأنهم منبوذون من قبل قيادتهم السياسية، وعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي مع المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية، كما يشير المحاضر في دائرة علم الاجتماع وعلم الإنسان في جامعة بيرزيت د. مصلح كناعنة. كما أمعن الاستعمار بإحكام كل هذا عبر خلق معازل في قلب القدس ذاتها حتى انعدمت اللحمة الداخلية. فمثلاً لم يعد هدم بيت مقدسي يثير حراكاً أو رد فعل لدى المقدسيين كما كان الوضع قبل قرابة العقدين.
في ظل الفراغ السياسي وفقدان المقومات الجماعية التي لطالما عملت على تحصين المجتمع الفلسطيني من التفكك النفسي والقيّمي جراء الاستعمار، احتوت مؤسسات المجتمع المدني المحلية والأجنبية الفاعلة في القدس قضية الصحة النفسية ووضعتها على أجندات عملها، معدّة المشاريع والتدريبات لدعم المقدسيين نفسياً.
مشت هذه في التلم إياه الذي شقته الدول المانحة غداة أوسلو، وخصوصاً في الفترة اللاحقة للانتفاضة الثانية: بناء السلام في ظل الاستعمار، عبر بناء مشاريع ثقافية واجتماعية منزوعة الصبغة السياسية و«حيادية»، تعتمد نماذج تنموية لتقوية المجتمع ضمن مشروع بناء الدولة الفلسطينية التي ترى هذه الدول أن اتفاقية أوسلو «حررتها» من الاستعمار.ويتمثل انعكاس هذا التوجّه على قضية الصحة النفسية في القدس بعدة صور، منها طريقة تطبيق المؤسسات الفاعلة في المدينة لنموذج مقياس الصدمة المعروف بـ«اضطراب الشدة التالية للصدمات» (Posttraumatic Stress Disorder)، وهو مقياس ابتكره علماء نفس أميركيون غداة حرب فيتنام لمساعدة شركات التأمين التي أثقل كاهلها عبء تعويض ملايين الجنود تحت ضغط المعارضين لحرب فيتنام في أميركا...
بكلمات أخرى، عمل هذا المقياس على تحويل الألم النفسي جراء العنف الذي تحدثه الحروب إلى معادلة رياضية مبسّطة تمكّن من إحصائه وقياسه. وفي القدس، طبّقت المؤسسات هذا المقياس وفق مبدأ الحيادية التي تلتزم به، إذ يتم التعامل مع الفلسطينيين المتضررين نفسياً جراء العنف الاستعماري، سواء بعد هدم بيوتهم أو اعتقالهم أو تعنيفهم، كـ«حالات نفسية» فردية واجهت صدمة، ما يتوجب التعامل مع عوارضها عن طريق التأقلم والتعايش مع الوضع القائم، لا تغييره. يتفادى هذا التوجه العلاجي الخوض في المسبب الرئيسي للصدمة وعوارضها، وهو المنظومة الاستعمارية.
تقول بروفسور نادرة شلهوب كوفركيان، المحاضرة في علم الإجرام في الجامعة العبرية، إن هذا المنهج يخرج ضائقة المقدسي النفسية من السياق السياسي الذي يصوغ حياته بكل تفاصيلها. ويتم تحويل المقدسيّ من مكافح إلى ضحية، وحالة مرضية نفسانية تتطلب معالجتها، وليس ذاتاً يطوّقها العنف الاستعماري الذي يفرض استنفاراً وترهيباً على مجتمع برمتّه. كما تشير كوفركيان إلى أن الإشكال يكمن في طريقة تطبيق هذا المقياس في سياق القدس، وبإعادة إنتاجه فعلياً لمنظومة القوة الاستعمارية ذاتها التي تمارس العنف النفسي الذي يواجهه المقدسيون. يحاول بعض الاختصاصيين النفسيين الفلسطينيين من مواقعهم كذوات فاعلة في المجتمع المقدسي تخطي حدود هذا الإطار العلاجي، واستكشاف طرق علاجية تجمع بين الاجتماعي والسياسي، ولكن يبدو ذلك شاقاً في ظل هيمنة التوجه المؤسساتي الإحصائي وغياب هيئة وطنية مؤهلة ومتخصصة في هذا المجال الصعب، فتقتصر المحاولات على جهود ذاتية لبعض المعالجين والباحثين في المجال.
أدى إسقاط الحالة الاستعمارية من نموذج العلاج النفسي الحيادي في سياق القدس إلى إقصاء الأزمة النفسية العامة التي يواجهها المقدسيون، والتي لا تنجم بالضرورة عن حالات العنف المباشر المذكورة. فمثلاً فرض احتلال الشق الشرقي من القدس عام 1967 و«ضمّه» إلى الشقّ الغربي المحتل عام 1948، واقعاً حياتياً خلق احتكاكاً مباشراً بين المقدسيين والاستعمار، وذلك خلافاً لمناطق أخرى احتلت عام 1967. حيث أدى فتح الشقيّن أحدهما على الآخر إلى ظهور المستعمِر في مستهلّ حياته اليومية، وقد تخفف من بزّته العسكرية، ساقياً أو بائع ملابس أو مصفف شعر، ما أدى إلى انفصام لدى الفلسطيني الذي ما فتئت تضيق به المدينة جراء الممارسات الاستعمارية الساعية إلى رميه خارجها.
لم يعد «شارع يافا» في القدس مجرد طريق تاريخي وصل بين البلدة القديمة عبر باب الخليل مع يافا وبحرها، بل بات اسماً معروفاً لظاهرة الاحتكاك بين القدس «الشرقية» و«الغربية»، بين الفلسطيني والآخر المستعمِر. تملأ جنبات الشارع المرصوف الذي لا يبعد سوى دقائق معدودة عن البلدة القديمة، المحال التجارية للماركات العالمية اللامعة والبوتيكات والبارات والمقاهي والمطاعم، الذي تجوبه الأجساد المتخففة من التقاليد والثياب. بات الشارع وجهة الشباب المقدسي الذي يجده منفذاً من الحصار الاقتصادي والاجتماعي المفروض عليه، ولكنه يصطدم في الوقت ذاته بأعين الآخر التي تؤكد دونيته وترى وجوده تطفلاً وتلويثاً لحيّزه الأبيض، كما تشير الباحثة المقدسية إليز أغزريان.
تُنتج هذه الدونية حالة انفصام نفسية قاسية لدى الشباب، المعتادين على فوقيتهم بحكم التقاليد والتزمت والسيطرة الأبوية التي يحظون بها في محيطهم. وكثيراً ما يأتي الردّ على هيئة انشغال هؤلاء بطاقات استهلاكية ومحاولتهم التمثل بالآخر من خلال الاستماع لأغانيه والتحدث بلغته ولبس ماركات الثياب التي ينتجها. لهذا الانفصام المتراكم، من جهة أخرى وقعٌ شديدٌ في نفس الشباب المقدسيّ الذي يرى في «شارع يافا» حياة أخرى أقل خنقاً وأكثر راحة من الحياة التي يعيشها، ما يساهم بتولد حالات اكتئاب شديد وتراجع في الطاقة وتحولها إلى مظاهر اجتماعية سلبية وعنيفة، مثل التحرش والبطالة والمخدرات.
كل هذا يفاقمه استهداف الاستعمار لهذه الشريحة تحديداً، عبر تجريم أفعال سياسية يقومون بها، فيخضعهم لبرامج تأهيل تتضمن تشغيلهم في أعمال تنظيف وغيرها من الأشغال التي يعتبرونها مهينة، وتحط من مكانتهم الاجتماعية. كما تبرز ظاهرة الحبس المنزلي للقاصرين (تدبير إسرائيلي) لمدد طويلة قد تصل إلى ستة شهور، والتي تعمل على تنمية مشاعر غضب تجاه محيطهم، عائلتهم وجيرانهم، نظراً لسجنهم البيتي، ويولد شعوراً مستمراً بالتشكيك بالأهل كمخبرين، خاصة أنهم يضطرون في الكثير من الأحيان للقيام بدور السّجان، علماً أن أي إخلال بشروط اعتقال ابنهم يقترن بدفع غرامات باهظة.
كل هذه الحالة التي تواجه الشباب المقدسيّ تضعه محطّ استنفار وإحباط، مولدة عوائق نفسية مثل الصعوبة في التركيز والتذكر، كما تزعزع ثقته بنفسه، ما يزعزع بدوره عماداً أساسياً للمجتمع الفلسطيني في القدس المحتلة.
حين همّ أبو توفيق بالخروج من الغرفة، قال كأنما يرد على عينيّ السائلتين «ما إلنا غير الله.. ما إلنا غيره هو القادر على كل شيء». ربما لم يعد ما يسعف أهل المدينة المنهكة سوى إيمانهم.