من دروس الفترات الانتقالية في منطقتنا

هذه مساهمة في النقاش حول الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة انتفاضات 2011. وهي تمثّل زاوية في النظر الى المسألة، تقول أنها تستدعي أرضية الثقافي والقيمي، وتجعلهما في قلب السياسة، وتأمل باثارة النقاش حول موضوعها.
2020-12-18

هشام جعفر

صحافي وباحث من مصر


شارك
صورة الديكتاتور التونسي بن علي ملقاة مع أكياس القمامة، بعيد هروبه إلى السعودية في 14 كانون الأول/يناير 2011.

دشنت الموجة الأولى من الربيع العربي2011 فترة الانتقال في منطقتنا، وتزيدها الموجة الثانية 2019 رسوخاً.

أهمية التقاط دروس الفترات الانتقالية، والتحاور حولها تنبع من خصائص هذه الفترات التي تتسم بسقوط شرعية الصيغ القائمة، مع ضرورة إنشاء صيغ جديدة، بما يتطلبه ذلك من مراجعات فكرية وثقافية، وبناء مؤسسات أو إعادة هيكلتها، وكيفية التعامل مع التناقضات التي تبعثها أطوار الانتقال، وتفاقم الهواجس والمخاوف والاستقطابات بين القوى السياسية والاجتماعية، وبين أصحاب المصلحة من الأطراف الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى عدم اليقين في نتائج العمليات الانتخابية، خاصةً إذا صاحَبَها عدم الاتفاق على قواعد تحكمها، وتكون محل قبول من أصحاب المصلحة المتشاكسين.
وهي دروس سبعة، لعلها بداية لحوار جاد.

أولاً- لا عبور لهذا الزمن دون مراجعات كبرى في الثقافة والسياسة

هدف هذه المراجعات هو بناء توافقات تنسجم مع الأفق الذي رسمته ثورات المنطقة، والاتفاق على أهداف مرحلية محددة، وصوغ حوكمة للإجراءات التي تمكّن من تنفيذ ما تم التوافق بشأنه، في تطلع للقطع التام مع النظام والممارسات السابقة.

في إدراكنا أنه منذ 2011 تواجه المنطقة حقبةً جديدة، معلنة نهاية القديم - وإن استمر لبعض الوقت - هذه دورة تاريخية جديدة انفتحت آفاقها مع تخلخل أركان القديم وشرعيته.

المراجعات الكبرى تستدعي أرضية الثقافي والقيمي التي تجعلهما في قلب السياسة. فبدونهما تصبح السياسة ضربةَ لازب. بالثقافي والقيمي يمكن أن تكون مراجعاتنا الكبرى متسقةً مع الطبيعة اللا-أيديولوجية لثوراتنا، فثورات الربيع العربي تصدر عن نموذج معرفي ونسق قيمي جديدين، ولكنها ليست بأي حال ذات طبيعة أيديولوجية، بل متجاوزة لها.

وليس المقصود بالثقافي والقيمي جدالات الهوية التي انبعثت في الموجة الأولى من الربيع العربي، وظهرت ذروتها في معارك صياغة الدساتير، فهي أضرّت وخبأت من الحوارات ما كان يجب أن يدور حول ما عبرت هذه الثورات عنه من نموذج معرفي وقيم جديدة كانت تحتاج لمأسسة.

ثانياً: ابتلاع نخب التغيير

نجاح مرحلة ما بعد الثورات لا يعد دائماً أمراً مؤكداً، وأحد محددات تحقيق الثورات لأهدافها هو كيف تتصرف نخب التغيير. وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من النقاط:

1- ضرورة إدراك النخب السياسية الثورية الروحَ المحركة للجماهير. فلم تكن هذه الروح بأي حال خاضعةً لسياسات الهوية، بل كانت في الموجة الأولى من الربيع العربي ذات طبيعة سياسية تتمحور حول الحرية، لكنها استدعت المطالب الاقتصادية الاجتماعية. أما هذه الموجة، فهي تتحرك على أرضية الاقتصادي/ الاجتماعي، لتستدعي السياسي الذي يتعلق بالطبقة السياسية الحاكمة، والصيغة التي تمكن لها. لم يعد للشعارات التي رفعت في الميادين والساحات أي وجود في الطور الانتقالي، وأصبحنا بإزاء سلطات تروم ترسيخ نفوذها وسلطتها التنفيذية والمعرفية والاقتصادية، فقد ابتلعها السياسي - كما هي طبيعته - بدلًا من أن تتحكم به.

2- عدم الذهول عن إدراك طبيعة المراحل الانتقالية، وعدم القدرة على إدارتها: مهمة ترتيب الزمن الانتقالي لا يمكن إلا أن تكون جماعية. إنه يخص المجتمع بتعدديته وتنوعه، في لحظة سعيه لتخطي آثار سقوط النظام القديم، وبناء آخر جديد. أزمنة الطور الانتقالي، هي أزمنة التوافقات المرحلية المؤقتة.

3- القطع مع الممارسات السياسية التي سبقت التغيير. تجدر الإشارة إلى مثالين، الأول هو تفاعل الفاعلين السياسيين بلغة المطلق في مجال السياسة، الذي هو نسبي، حين سيطرت المواقف القطعية الحديّة المطلقة في القضايا الخلافية في مشهد سياسي معقد ومركب، من أمثال الدستور أولاً، أم الانتخابات أولاً. ومن مظاهر لغة المطلق أيضاً غلبة خطابات المؤامرة على المشهد السياسي من قبيل حديث الصفقات، وطبعاً فائض الخطاب الديني في المجال العام. أما المثال الثاني لعدم القطع مع ممارسات ما قبل الثورة، فهو من جانب عدم تطوير الحركات السياسية الإسلامية لموقفها من الديمقراطية، ومن جانب آخر نظرة القوى المدنية لها باعتبارها لا تزال حركات محظورة ليس من حقها الفوز في انتخابات نزيهة.

4- عدم التخلي عن الحوار في أية مرحلة من مراحل الزمن الانتقالي. فتونس في أوج أزماتها تتصارع من دون أن تتخلى أطرافها عن الحوار، في حين أن لفظة الحوار في مصر كانت تبدو قبيحةً بحكم أنه قد بات أحد أدوات تأجيج الصراع وليس إدارته، والمثال البارز هو الحوار حول المبادئ فوق الدستورية.

5- الاستعداد للتناقضات المسكوت عنها. فما يميز الفترات الانتقالية هو انبعاث الجهوي/المحلي، والإثنيات واللغويات والطوائف والمذاهب والديني، بالإضافة إلى المطالب الاقتصادية. ومن دون تطوير مقاربات جديدة للتعامل مع انبعاث هذه التناقضات، فسيكون تحقيق مقاصد الثورات في مأزق كبير.

ثالثاً: التوافق على هوية وطنية جامعة

لا نجاحَ للتحول الديمقراطي دون التوافق على هوية وطنية جامعة. ومع قناعتنا أن الثورات الديمقراطية العربية سوف تساهم في بلورة الهوية الوطنية (انظر لما يجري في لبنان من تجاوز للطائفية وإدراك للهوية اللبنانية، وكذا شيعة العراق الذين يتصرفون باعتبارهم مواطنين عراقيين لا تابعين لإيران).

وعلى الرغم هذه المساهمة، إلا أنه يجب أن نكون متنبهين لتصاعد انبعاث التناقضات المتعددة، جهوية/محلية، وإثنية، ولغوية، وطائفية أو مذهبية ودينية ...إلخ. وكذا محاولة بعض الهويات الفرعية الهيمنةَ على المشهد السياسي مثل أكراد العراق، وشيعة لبنان، ومسيحي مصر، ساعين لتحقيق بعض المكاسب الجزئية على حساب بناء الهوية الوطنية الجامعة، ونجاح التحول الديمقراطي.

وفاقم الأمرَ انبعاثُ الوعي في الصدور بمشاريعَ متناقضة تثير حماسة جهات معينة، وهواجس فئات أخرى مثل الحديث عن المشروع الإسلامي أو الهلال الشيعي. ثمة عدد من النقاط الهامة التي تساعد على تحقيق الهوية الوطنية الجامعة :

1- المواطنة القائمة على التنوع، فأكبر تحدّ يواجه الدولة القومية في العالم المتقدم أو النامي - في القرن الواحد والعشرين - هو كيفية التعامل مع التعددية التي باتت سمةً أساسية من سمات العالم الحديث، ومنطقتنا من أكثر المناطق ثراءً بالتنوع لكن دولة ما بعد الاستقلال (التي انتهت صيغتها بالمناسبة، وهذه الثورات إعلانٌ لنهايتها) لم تتنبه إلى ذلك، ناهيك عن التعامل معه.

مقالات ذات صلة

2- احترام القيم الأساسية المتوافق عليها التي عادةً ما تعبّر عنها الوثائقُ الدستورية التي يجب أن تكون متضمنةً ما يحترم التنوع والتعدد كما جرى في تعديلات الدستور المغربي بعد حراك شباط /فبراير 2011 من اعتراف باللغة الأمازيغية، أو ما حاولت تعديلات الدستور الجزائري 2020 أن تعكسه.

3- حكم القانون، فالقضاء المستقل أحد الضمانات الأساسية للحفاظ على حقوق الهويات الفرعية.

4- مجتمع مدني قوي وفعال يدافع عن حقوق المواطنين المتنوعين.

5- في الفترات الانتقالية لا حكمَ إلا بالتراضي، فالزمن الانتقالي تهيمن عليه الهواجس أكثر من الحقائق، لذا يجب أن تكون هناك دائماً سياساتٌ وخطابات للطمأنة، للشعور بعدم الأمان على المصالح (رجال الأعمال مثالاً) -الهوية (الأقليات) -الأطراف السياسية الأضعف.

6- وفي الختام، ضرورة تصالح الجميع مع هويتهم الوطنية، وفي مقدمتهم الإسلاميون الذين لم يعترفوا بها، ولم يستطيعوا أن يخلقوا صياغات جديدة للعلاقة بين الهوية الوطنية والثورات الديمقراطية، وبين الانتماء العربي والإسلامي. وهذا المأزق أيضاً لا تخلو منه الأقليات الإثنية والثقافية والدينية في العالم العربي الذين تتصاعد بينهم الأحاديثُ عن هويات فرعية تنبعث من الرماد، منفصلةً عن الهوية الوطنية الجامعة.

رابعاً: بناء الدولة بإعادة التفكير فيها

الهدف الأساسي الذي يجب أن يجمع المصريين الآن (وهو لا يختلف في جوهره في البلدان العربية الأخرى)، فهو الحفاظ على الدولة المصرية من عمليات التحلل التي أصابتها، بإصلاح مؤسساتها وتجديد أصولها، عن طريق بناء نظام ديمقراطي تعددي تشاركي، قادرٍ علي تلبية الحاجات العامة للمصريين بما يحفظ أمنهم الإنساني والقومي.

في هذا المقصد يبرز التحدي الأساسي الذي تواجهه الجماعة الوطنية في البلدان العربية المختلفة، وهو إحداث تحول ديمقراطي أحد شروط نجاحه إعادة بناء الدولة، ولكن من خلال طرح صيغ جديدة لإعادة البناء. فقد انتهت من المنطقة صيغة دولة ما بعد الاستقلال، وفي مصر مثلاً انتهت دولة يوليو التي يدق الآن آخر مسمار في نعشها، تلك الدولة التي قامت على تلبية الاحتياجات الأساسية للمصريين مقابل تخليهم عن حريتهم.

إن أخطر ما جرى وما يجري في المنطقة، هو تبديد رأس المال التاريخي الذي أنجزه المواطنون على مدار العقود الماضية، من إنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي سمحت بقيام الدولة بأداء وظائفها الأساسية باستقلال عن توجهات النظام السياسي.

ولعل الخشية هي أن يكون استمرار الدولة العربية مرهوناً باستمرار النظام الحاكم ونخبته، كما جرى في ليبيا والعراق. خاصةً في ظل تحلل الدولة الوطنية إلى عناصرها الأساسية من طائفية وقبلية وإثنية وجهوية / مناطقية.

وأخيراً وليس آخراً، فإن التفكير في الدولة العربية التي نروم إعادة بنائها في القرن الواحد والعشرين، يجب أن يكون مبنياً على تفكير جديد، وليس على إعادة إنتاج القديم. المثال هو قيام الدولة العربية الحديثة تأثراً بالدولة القومية على مبدأي التجانس القومي والمركزية المقيتة، لكن التحدي الآن هو كيفية تعاملها مع التعددية الظاهرة في كل ركن، والتي تمت التغطية عليها لسنوات طويلة، بالإضافة إلى كيفية إعادة التوازن بين المجتمع والدولة التي تعد قضية اللامركزية أحد تجلياتها.

خامساً: من إسقاط النظام إلى تفكيك الدولة العميقة

1- عملية التفكيك  ممتدةٌ وتأخذ وقتاً طويلاً وقد تستغرق عقوداً، وليس المهم السرعة في التحول، وإنما اتصال خطوات الإصلاح وعدم انقطاعها، بحيث لا تعطى الفرصة للدولة العميقة بتحالفاتها الدولية والإقليمية والمحلية أن تستعيد قوتها وتعيد تنظيم صفوفها. من هنا فإن النضال السلمي المستمر شرطٌ ضروري لتفكيك مرتكزاتها، وأي استخدام للعنف لن تستفيد منه إلا الدولة العميقة بمؤسساتها.

2- تماسك قوى التغيير وتوافقها وتجانسها مع وجود دعم شعبي. وهي إحدى مستلزمات تفكيك مرتكزات الدولة العميقة (1). بالطبع ليس مهماً التوافق التام بين نخب التغيير، ولكن من الضروري الاتفاق على الحد الأدنى من قواعد التحول الديمقراطي ومطالبه العملية، بالإضافة إلى حوكمة الإجراءات الموصلة إليه. وهنا يثار هذا التساؤل: لمن تقدم التنازلات في الفترات الانتقالية؟ هل للدولة العميقة، أم للمتفقين معنا أيديولوجياً وإن كانوا غير ديمقراطيين، أم لشركاء الميدان من القوى الديمقراطية. لا تحول ديمقراطي من غير ديمقراطيين حقيقيين.

3- في حديث الانتخابات في الفترات الانتقالية يمكن الإشارة إلى عدد من النقاط:

- في معظم تجارب الانتقال لا يتم اللجوء إلى الشعب - إن في استفتاءات أو انتخابات - بعد أسابيع من انهيار النظام القديم، وذلك لعدم تصدير خلافات النخبة إلى الشارع قبل التوافق حولها (لم تكن المشكلة في آذار/ مارس 2011 في مصر هو الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً، وإنما الانقسام المبكر بين نخب التغيير وقواه).

-الديمقراطية ليست انتخابات فقط، ولكن أيضاً من دون انتخابات نزيهة وتعددية، لا يمكن الحديث عن تحول ديمقراطي. لذا فإن استمرارها مع التركيز على دفع العملية الديمقراطية هو الضمان الوحيد للانتقال السلمي، حتى ولو لم تأت الانتخابات الأولى بالحكومات التي تلبي المطالب. إن استمرار العملية الانتخابية قادرٌ على تصحيح الخيارات الخاطئة، وفي تجارب التحول الديمقراطي عادةً ما تخسر أول حكومة الانتخابات التالية بسبب ثورة التوقعات المتزايدة للمواطنين.

4- التفاهم بين النظام القديم والجديد من الأمور التي انطوت عليها أغلب خبرات التحول الديمقراطي. في هذه النقطة يشار إلى ما يلي:

- من الخطأ انفراد مؤسسات الدولة العميقة بإدارة الفترات الانتقالية والخيارات التي تعتمدها، ففي الحالات الناجحة من الانتقال الديمقراطي التي لعبت مؤسسات الدولة العميقة دوراً فيها، كان هذا الدور قد اقتصر على تهيئة المشهد السياسي لانتخابات، أو على تسليم السلطة للمدنيين.

- الصفقات بين مؤسسات الدولة العميقة وبعض قوى التغيير، ليست مستبعدةً وليست عيباً أو نقيصة. لكن المشكلة الأساسية ألّا تكون قوى التغيير موحدةً ومتوافقة على ذلك، لأنه بدون ذلك يكون حديث الصفقات سبيلاً إلى انقسامها، كما يفتح الطريقَ إلى شق صفوفها والتلاعب على انقساماتها.

- تحالف أي تيار سياسي مع النواة الصلبة للدولة العميقة والسكوت على قمع أي تيار آخر، له تداعيات سلبية جسيمة على التيارين معاً، فهو مدمر لهما ولعملية التحول الديمقراطي. كما لا يتصور أن تنسحب هذه النواة الصلبة من السلطة بعد تدمير المدنيين أو التيارات السياسية المنظمة، فالفراغ يجب أن يملأ.

5- لابد من توفير شروط خارجية مناسبة، فتفكيك الدولة العميقة ليس مسألة داخلية فحسب، بل تتقاطع معها العناصر الدولية والإقليمية بحكم امتداد شبكة تحالفاتها إلى هذين النطاقين.

6- ضرورة استمرار الضغط الشعبي على الدولة العميقة، مع وجود رأي عام مساند. وهنا يحسن أن نفكَّ التناقض بين الإصلاحي (بناء المؤسسات والانتخابات ) وبين الثوري (استمرار الاحتجاجات في الشارع)، فالاثنان يجب أن يعملا بتناغم معاً بغية إحداث التفكيك المطلوب.

وأخيرا، فإن الدولة العميقة قد ثبت فشلها، لأن صيغتها القديمة قد انتهت في كثير من مقوماتها، ولم تعد قادرة على توليد صيغ جديدة تلبي الحاجات العامة للمواطنين أو تستجيب للتحديات التي تواجه المجتمع والدولة معا.

سادساً: منظومة عدالة انتقالية مستقلة وذات موثوقية

تتضمن العدالة الانتقالية أربعة عناصر: كشف الحقيقة فيما يخص الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها المواطنون في ظل الاستبداد، ومحاسبة المسؤولين المتورطين في الانتهاكات الجسيمة، وجبر الضرر للضحايا وتعويضهم مادياً ومعنوياً، وأخيراً إحداث إصلاحات مؤسسية وتشريعية تضمن عدم تكرار هذه الانتهاكات، وبما يحول دون إعادة إنتاج الاستبداد مرة أخرى.

وفي علاقة العدالة الانتقالية بفترات التحول الديمقراطي، يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:

1- ضرورة بناء تحالفات وتوافقات تضمن توفير الإرادة السياسية التي تدعم إطلاق آلية للعدالة الانتقالية مستقلة وذات موثوقية. وهذه التحالفات لا يجب أن تتوفر عند البدء فقط، بل أن تستمر بما يضمن تنفيذ مخرجات هذه العملية من سياسات وتشريعات وإجراءات وقرارات. العدالة الانتقالية هي تعبير عن توازنات القوى بين قوى التغيير من جهة، وقوى النظام القديم من جهة أخرى. فهي ذات طبيعة استثنائية تتعامل مع لحظة استثنائية. لذا فإن عثراتها ونجاحاتها ترتبطان بالسياق الذي تتحرك فيه. ولقد تعثرت تجاربها في البلدان العربية لافتقاد الإرادة السياسية، وضعف المجتمع المدني، وهشاشة مؤسسات العدالة، وعدم القدرة على التعبير الديمقراطي عن تنوع المجتمعات. لذا، من المهم اختيار اللحظة المناسبة بما يضمن توفر الإرادة السياسية.

2- ضرورة التوازن بين المحاسبة وبين التسامح. فالأولى تضمن عدم تكرار الفعل، وتفكيك البنية التي أنتجته مع تعويض الضحايا مادياً ومعنوياً، أما الثاني فهو سبيل تقدم عملية التحول الديمقراطي واستمرارها وعدم تحطيمها بالكلية نتيجة استثارة تحالفات وقوى قد تحطم التحول بالكلية. مشكلة العدالة الانتقالية أنها تتم في مرحلة تطبعها الصراعات والتجاذبات بين قوى تسعى للتمسك بالماضي والمحافظة على الوضع القائم، وأخرى تبغي التغيير وتنحو نحو تجاوز إكراهات الماضي، بما يجعل العملية تتحدد - طبيعة ومجالاً واتساعاً - بموازين القوى بين الطرفين، كما قدمت. لذا فهي ليست عملية سهلة لأن المطلوب هو التوفيق بين ما يتم اختياره من آليات العدالة الانتقالية، وبين الأوضاع السياسية القائمة التي تتسم بالهشاشة وعدم الاستقرار (مثال الامتناع في تونس عن حظر رموز النظام السابق).

3 - ضرورة تضمين الجانب الاقتصادي في عملية العدالة الانتقالية، مثل جرائم الفساد ونهب المال العام. فالعدالة الانتقالية ترتبط بالتنمية لأنها توفر شروط الاستقرار واحترام القانون اللازمين لها.

4 - ضرورة الانطلاق من مقاربة شاملة لعملية العدالة الانتقالية. فما شهدناه في مصر بعد 2011 أنشطة متعددة ومبادرات كثيرة مثل استرداد أموال الدولة أو استرجاع شركات القطاع العام أو المجلس القومي لشهداء ومصابي الثورة أو حتى لجان تقصي حقائق... لكننا لم نشهد أية عملية متكاملة، وإنما جهودٌ متفرقة لا يجمعها رابط. كما عانت هذه الجهود المتفرقة من غياب التوافق حولها، ناهيك عن أنها لم تكن أولوية عند قطاعات مؤثرة من قوى التغيير في ظل انقسام مبكر بينها حول الشرعية الدستورية والشرعية الثورية.

سابعاً: الخارج داخلي، والداخل خارجي

هناك ضرورة لتوفر بيئة خارجية داعمة ومساندة، إن لم تكن على الأقل محايدة. هذا ما جرى في أوروبا الشرقية في ثوراتها البرتقالية، وقد استفادت تركيا 2000-2012 من تقدمها للانضمام للاتحاد الأوروبي لإخراج المؤسسة العسكرية من هيمنتها على المجال السياسي، بل يشير البعض أن حزب العدالة والتنمية التركي جاء في إطار صفقة تمت مع الولايات المتحدة أبرمها فتح الله كولن الذي يطالب أردوغان بتسليمه الآن.

في هذا الدرس يمكن الإشارة إلى عدد من النقاط:

1- إحدى بدايات الحراك الشعبي في مصر الذي نقل العمل السياسي نقلةً نوعية مختلفة، تعلق بقضايا إقليمية، حين تفاعل المجتمع السياسي مع الانتفاضة الفلسطينية وحصار غزة والعدوان على لبنان 2006، والحرب على العراق 2003. وقد انتقل الفعل السياسي من الغرف المغلقة وإصدار البيانات إلى تعبئة الجماهير والنزول إلى الشوارع بكثافة لأول مرة.

2- انتفاضات الربيع العربي كانت من لحظتها الأولى فعلاً إقليمياً. لقد كانت بمثابة تداعي الدومينو الذي انتقل من دولة لأخرى بسرعة البرق  (2) .

3- على الرغم من أن الثورات المضادة قد نسقت فيما بين أطرافها على المستوى الإقليمي، وفيما بينها وبين من يعبّر عن مصالحها داخلياً (وقد لحظنا تصاعد دور الفاعلين الإقليميين منذ الموجة الأولى من الربيع العربي مقارنةً بدور العناصر الدولية)، على الرغم من ذلك، إلا أن القوى الثورية أو قوى التغيير لم تبذل جهداً – على المستوى الإقليمي- يوازن انقضاض الثورة المضادة على التغيير.

4- وإذ عجزت قوى التغيير أن تبني تحالفاتها على المستوى الإقليمي، فإنها لم تدرك الدلالة الحضارية لحراكها والتأثيرات الدولية لفعلها. فقد حرّكت هذه الانتفاضات ميادين عالمية كثيرة، وتأمل هذا التداعي العالمي للحراك بين مناطق كثيرة في العالم بما يعكس تطلعات الشعوب نحو الكرامة الإنسانية والعدالة. لهذا الحراك جذوره الاجتماعية / الاقتصادية، ودلالاته الثقافية / القيمية والسياسية، بما يستدعي التنبّه لأهمية بناء تحالفات عالمية يمكن أن تجابه الليبرالية الجديدة، وتقدم حلولاً لأزمات الديمقراطية التمثيلية. فهذا الحراك الممتد عالمياً في القلب منه إعادة تعريف السياسة، وطبيعة العقد الاجتماعي/ الاقتصادي في الدولة المعاصرة.

5- كان للرأي العام العربي/ الشعوب دورٌ كبير في تحديد التغيرات الجيوستراتيجية في مواقع اللاعبين الدوليين والإقليميين. ولقد كان لهذا الجمهور دور فاعل في تعريف أمنه القومي ودوائر الحركة فيه (وتأمل كيف زادت فاعلية الجامعة العربية في هذه الفترة إلى أن تم الانقضاض على الحراك).

6- يجب أن نتابع تصاعد الشعور بالكيانية العربية - مع إعادة تعريفها - إلى جانب تعزيز الوطنية المحلية (تأمل تفاعل حراك 2019 مع هموم بلدان عربية أخرى).

____________
من دفاتر السفير العربي
2019: انتفاضات مبتورة النتائج
____________

وأخيراً وليس آخراً، فقد شاعت - بعد انكسار الموجة الأولى من الربيع العربي - رواية أن الحراك في المنطقة تقف وراءه وتحركه قوًى خارجية، وهو منطق خطاب أنظمة الثورات المضادة نفسه. قامت الثورات العربية متناقضة مع سياسة الولايات المتحدة وأوروبا في دعم الأنظمة المستبدة مثل مبارك وبن علي، والقبول بالأمر الواقع مع ما كان يطلق عليه الدول المارقة كليبيا وسوريا، بل إن حس السياسة الخارجية في هذه البلدان يخلو من استشعار التغيير، أو التنبوء به (حالة الثورة الإيرانية والربيع العربي مثالاً)، وهذا بالطبع لا ينفي محاولة التوظيف أو الاستفادة لتحقيق أهداف استراتيجية. هكذا السياسة، لا تعرف حديث المؤامرة، وتعرف التوظيفات واغتنام الفرص.

______________

1- انظر مقال للكاتب، نشر في جريدة الشروق المصرية، كانون الأول/ ديسمبر 2011
2- يمكن مراجعة تقرير "حال الأمة" الذي أصدره مركز دراسات الوحدة العربية في 2013، و يشرح بالتفصيل كيف تعاملت البلدان العربية المختلفة 2- وحتى تلك التي لم يحدث فيها حراك شعبي - مع تسونامي الانتفاضات. ومن الظريف أن من أشرف عليه هو ا. د. علي الدين هلال الذي يقر الجميع بإستاذيته، لكن الانتفاضات قامت وهو أحد أركان نظام مبارك.

مقالات من العالم العربي

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...

للكاتب نفسه

أسئلة قلقة بشأن التطرف الديني في بلادنا

هشام جعفر 2020-08-28

مأزق المؤسسات الدينية، ومشاريع تجديد الخطاب الديني أن هذه المؤسسات تتعامل مع المكون الفكري فقط لظاهرة التطرف العنيف. وقد أجمعت كثير من الدراسات التي تناولت "الجهاديين الجدد" أن الظاهرة تحركت...