منذ وقت قريب، كتب الشاعر مختار عيسى في جريدة الوطن الكويتية قصيدة بعنوان "نساؤنا حبلى بنجمك"، جاء من ضمن أبياتها:
" الخفق لكْ/ العزف لكْ/ خذنا معكْ/ فنساؤنا حبلى بنجمك في الفلكْ/ سبحان من قد عدّلكْ/ ورجالهم حاضوا، فما خاضوا".
كان يمكن لهذه القصيدة أن تمر بسلام فلا يسمع عنها أحد، لولا أنه قد تم نشرها مع صورة كبيرة للفريق عبد الفتاح السيسي. في القصيدة لم يُذكر اسم السيسي، ويقول الشاعر إنه لم يقصد الحديث عنه. ولكنه في حوار أجرته معه جريدة الوطن يقول: "لم أقصد السيسى، وإذا كانت المسألة بهذا الشكل فسأعيد نشرها وكأنها موجهة للفريق السيسى نفسه، لا أجد عيباً في هذا، فهو نموذج لبطل وحلم كرئيس جمهورية، واستطاع أن يحرر البلد كلها من الإرهاب. ولو استمر الهجوم على هذا المنوال سأغيّر عنوان القصيدة وأجعله موجهاً إلى السيسي عنداً فى مدّعى الثقافة".كان هجوم ضار قد ثار ضد الشاعر. فجأة صار اسمه شهيراً، أصبح اسمه شاعر "نساؤنا حبلى بنجمك". كيف حدث هذا؟ كيف انتقل شاعر تقليدي لا أحد من الجمهور الواسع يعرف عنه شيئاً، لكي يتم تسليط الضوء عليه بهذه الضراوة.
في الغالب، ظل الوسط الأدبي في مصر مغلقاً على نفسه، باستثناء نجوم معدودين. لسنوات طويلة، يجتمع الأدباء في مقاه وبارات معروفة في وسط القاهرة والزمالك، يرددون الكلام نفسه، لا يخشون من المحاسبة، لأن لا أحد ينتبه لهم. أما الآن فقد انكشف الشاعر الآمن فجأة أمام بحر الحياة الواسع في مصر.
*****
ردود غاضبة أيضاً حظيت بها مقالة بعنوان "تناقضات البرادعي، وبرادعي التناقضات"، كتبها الروائي جمال الغيطاني. المقالة كان عنوانها الفرعي "هذا رجل خطر على الشعب والدولة".
يقول فيها عن السيسي: "عندما اتخذ القائد العام قراره بانحياز الجيش إلى الشعب كان ينتصر للحضارة بمعناها السامي، وهنا يبدو الجندي أكثر مدنية من البرادعي وأمثاله". الانكشاف أمام الشارع أحياناً يأخذ شكل حسرة الشباب على سقوط رموزهم. أحمد فؤاد نجم، الشاعر الذي كتب "الشارع بيتنا وغنوتنا، والشارع أعظمها مغني"، وكتب بعد هزيمة 1967 "الحمد لله، خبطنا تحت باطاطنا، يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار"، يوقع الآن على استمارة "كمِّل جميلك"، التي تطالب الفريق السيسي بالترشح لرئاسة الجمهورية.
وعبد الرحمن الأبنودي صاحب بيت الشعر الشهير: "يا عم الظابط انت كدّاب، واللي بعتك كدّاب"، يقول الآن في حوار لـ"المصري اليوم" تعليقاً على منع حلقة الإعلامي باسم يوسف من العرض: "لولا السيسي لكنا جميعاً بمن فينا باسم يوسف في المستنقع، ويجب أن نراعي ونحن ننتقد من هم أصحاب الفضل على مصر، وألا ننساق وراء نزواتنا الفكرية". والروائي صنع الله إبراهيم أيضاً لم يشذ عن الكورس. السيسي بالنسبة له بطل يتحدى أميركا.
الشارع، ونعني به جمهور غير الخبراء الذين يتعاملون مع الشأن السياسي والثقافي، ليس شيئاً مقدساً بالطبع، هو ليس بريئاً تماماً في ميله لهدم السلطة. الهجوم على مختار عيسى، صاحب "نساؤنا حبلى" كان الأشرس من بين الحالات المذكورة. والسبب على ما يبدو أن الشاعر هنا ليس معروفاً، لا يملك رصيداً رمزياً كبيراً ولا يملك الكثيرين ممن يدافعون عنه، لذا بدا شاعراً بلا دية بشكل ما. هناك تراتبية أخرى في الهجوم تقوم على مراجعة تاريخ الشخص. هناك دائماً الشخص المستحق للهجوم بقسوة وهناك "الرمز الذي سقط"، والذي لا يستحق الهجوم بقسوة."الشارع المصري"، سواء أكان شارعاً ثقافياً أو سياسياً، أو حتى شارعاً متواجداً على الإنترنت، يمور بتيارات ضخمة. ربما ما يجمعه، منذ سنوات معدودة قبل الثورة وحتى الآن، هو صخبه.
احتل الباعة الجائلون أرصفة القاهرة، اتجهت الأغاني الشعبية إلى الإيقاعات الصاخبة، امتلأت الجدران بالغرافيتي. ومنذ 25 يناير بالتحديد، تحول فايسبوك إلى ساحة معركة، كان الجميع يصرخون، الثوار والفلول والإسلاميون. اعتصم الأقباط أياماً طويلة في الشارع وظهر الملحدون على التلفزيون بأسمائهم. الكلمة الأنسب بالعامية المصرية الجديدة هي "الزياط"، كلمة تشير إلى المزايدة والهستيريا والميل للصخب. وفي عز أيام حظر التجول، عندما هدأ الشارع فجأة، انتقل الصخب للإنترنت. بدا كأن هناك مزاجاً عاماً نحو "الزياط" غير قابل للضبط. وما دمنا نتحدث عن "الصخب"، فلا بد لنا أن نشير هنا إلى "المثقف الجمالي".
***
في أحد أيام حظر التجول كتبت الروائية سحر الموجي مقالاً بالعامية في صحيفة "المصري اليوم" بعنوان "أهرب من قلبي أروح على فين"، بدأته بـ: "أنا حاولت جاهدة إني أخبي حالة الغرام اللي ملكت قلبي مؤخراً، لقد حاولت.. أيون.. وها أنا أفشل. وها أنا لا أخجل من الاعتراف: "أنا يا جماعة حبيت الحظر". أسبابها كانت عديدة، أولها: "أصل فجأة الحياة - اللي مكنش الواحد شايف لها وش من قفا - أصبحت منظمة." ولكن السبب الأهم كما تذكره هو: "لكن اللي بجد حسسني أن هذه العلاقة هتسيب علامة فى مشواري العاطفي، من الصعب أن يمحوها الزمن، هو صمت القاهرة - حالة السكون والسكينة والهدوء اللي عمري ما شفت لها زي في أم حياتي كلها".
لم تكتب سحر الموجي شيئاً شائناً بالمناسبة. هي، مثلها مثل الكثير من المثقفين والمثقفات، تحب الحياة البيتية، تحب الانضباط، الهدوء، تكره صخب الشارع. هذا هو بالتحديد السؤال: ما الذي دفع المثقف ليكره صخب الشارع لهذه الدرجة؟ نتذكر هنا أن عدداً كبيراً من المثقفين أصدروا بياناً في فترة المجلس العسكري الأول، تشرين الثاني/نوفمبر 2011، طالبوا فيه بوقف التظاهرات الفئوية والاحتجاجات والمعارك الكلامية الفضائية، ثلاثة شهور من أجل مصر، نترك فيها الفرصة للوزارة الجديدة. كان من بين الموقعين الروائيان يوسف القعيد ومحمد سلماوي، ووزير الثقافة الحالي محمد صابر عرب (ويضاف لهم الكاتب الراحل إبراهيم أصلان، الذي اعتذر فيما بعد عن توقيعه على البيان). مما سبق، يبدو أن هناك مزاجين يتنازعان المثقفين المكرسين، أولهما الرغبة في إيجاد بطل قادر على إحبال النساء، يكون شبيهاً بعبد الناصر ويعيد لهم الأب الذي افتقدوه منذ الستينيات، وثانيهما الرغبة في الهدوء والجمال والأناقة، أي، إعادة الاستقرار للشارع المصري وتخليصه من عشوائيته. هذان المزاجان في حالة تحالف الآن ضد من ينساقون خلف "النزوات الفكرية"، بتعبير الأبنودي. لأنه، ببساطة شديدة، من يستطيع إعادة الانضباط للشارع سوى البطل القادر على إحبال النساء؟ المفارقة أنه حتى الذين يتبنون هذا المنطق بقوة، سواء من المثقفين أو من الشارع، فهم يتبنونه بكثير من الصخب. لم يكن غريباً ابداً ان نرى تظاهرات عديدة في مصر تطالب بإعادة الاستقرار للشارع، أي: تخليصه من تظاهراته. وفي هذه المناسبة، نتذكر "30 يونيو".بالتأكيد كان هناك الكثير من المثقفين، ومنهم من تم ذكره هنا، ممن تحمسوا لـ25 يناير. ولكن مثقفين أكثر، أكثر عدداً وأكثر تكريساً، قد تحمسوا لـ30 يونيو. لماذا؟ هل آمنوا بقدرة الشارع على التغيير السياسي؟ يبدو أنه لا. يبدو أن الفيصل كان يكمن في "رفض القبح"، القبح الذي يمثله الإسلاميون، بعشوائيتهم وكروشهم ولحاهم وجلاليبهم وأنقبتهن. ظل مثقفون كثر يتبنون دعاوى "تصفية الإسلاميين"، أي ليس فقط إقصاءهم عن الحكم، وإنما تصفيتهم، إلغاء وجودهم من الشارع، حتى يعود الشارع جميلاً، بعد أن يتم تصفية غيرهم أيضاً، مثل عربات الميكروباص والأغاني الشعبية والباعة الجائلين والعمارات المخالفة. المعركة بدت معركة الجمال أمام القبح، الانضباط أمام الفوضى.
***
هناك شارع. وهناك فن يعبر عن هذا الشارع. ما أن أزاح الجيش محمد مرسي عن منصبه، حتى ظهرت صور ساخرة للسيسي على الإنترنت، ثم توالت الصور، صور ساخرة مقطوعة ومجتزأة للفريق سامي عنان وللرئيس المؤقت عدلي منصور (تذكروا أيضاً فقرة باسم يوسف عنه)، يمكن لأي بحث على الإنترنت عن أي من المواد الآتية: راديو كفر الشيخ الحبيبة، شكاوى المواطن المصري، أبلة فاهيتا... أن يجعلنا نفهم المزاج الجديد الذي تقدمه اللحظة الراهنة. هل هذا فن شعبي جديد؟ الفوتوشوب وغرافيتي الجدران والفيديوهات المفبركة والفيديوهات الساخرة؟
ربما، لا تهم التسمية، ولكن الأكيد هو قدرته على الانتشار في مدى زمني وجيز تماماً، والأكيد أيضاً أنه قادر على الإيلام. بعد خطابة الستينيات الأيديولوجية، وبعد رد فعل الثمانينيات والتسعينيات عليها، أي القول بسقوط القضايا الكبرى، مما أدى إلى الاتجاه إلى "الرهافة" بديلاً عن "القوة"، يأتي الآن هذا الفن (الشعبي؟) الجديد ليتبنى مفهوم "القوة الهدامة". بعد تفاؤل الستينيات الحماسي ولامبالاة التسعينيات يأتي الآن الهدم القوي، الساخر والعنيف، المبهِج والمبتهِج. هذا هو مزاج اللحظة الذي يشعر الوسط الثقافي التقليدي بالعجز إزاءه.
يبدو أن لحظة الثورة، أي السنوات الثلاث الماضية، والتي انفتح فيها كل شيء على كل شيء، لم تكن لحظة مناسبة للمثقف التقليدي، الذي يفضل أن يلقي قصيدته في "أتيليه القاهرة" أمام خمسة أو ستة من أصدقائه، وألا يعلق عليه أحد إلا بقوله "أحسنت"، عن أن يتوه وسط صخب المجموع العام، يؤثر فيه ويتأثر به.
***
يستعير فن الإنترنت الجديد مزاج اللحظة: الهدم الصاخب والمضحك. لا أبقار مقدسة هنا، بما فيها الثورة نفسها. هذا الزخم ظل غير معترف به في الأوساط الثقافية التقليدية، لأنه أتى من الخارج، من الإنترنت ومن الشارع. وإذا كانت هناك مشاكل تقنية تفصل بين المثقف التقليدي وبين الإنترنت، فإن ادّعاء هذا المقال هو أن هناك حاجزاً نفسياً حقيقياً يفصل بينه وبين الشارع. الشارع الموجود فعلاً وليس الشارع الذي يتمناه.