وقائع نشوء الهوية المصرية وتطورها

منذ أيام، قال الكاتب الصحافي إبراهيم عيسى في جريدة التحرير ما نصه: «ستجد من بين كارهي الجيش كمؤسسة وطنية عددا لا بأس به ـ إن لم يكن أغلبية ـ من المصريين من أبناء والد غير مصري أو والدة غير مصرية، أو مصريين متجنسين بجنسيات أجنبية، ويملكون أكثر من جواز سفر، أو مصرياً متزوجاً بأجنبية، أو مصرية متزوجة بأجنبي». المقال حمل عنوانا دالا: «الطابور الخامس متأسلم أو متجنس»، وهو
2013-08-07

نائل الطوخي

روائي ومترجم من مصر


شارك

منذ أيام، قال الكاتب الصحافي إبراهيم عيسى في جريدة التحرير ما نصه: «ستجد من بين كارهي الجيش كمؤسسة وطنية عددا لا بأس به ـ إن لم يكن أغلبية ـ من المصريين من أبناء والد غير مصري أو والدة غير مصرية، أو مصريين متجنسين بجنسيات أجنبية، ويملكون أكثر من جواز سفر، أو مصرياً متزوجاً بأجنبية، أو مصرية متزوجة بأجنبي». المقال حمل عنوانا دالا: «الطابور الخامس متأسلم أو متجنس»، وهو عبارة عن رسالة من «صديق ناشط سياسي» إلى عيسى، الذي تحفظ على بعض القسوة في الكلام، وإن رآه «في منتهى الوجاهة والمنطق ويلامس الواقع فعلا». طبعا غني عن التعريف أن المقصود بالطابور الخامس كما يشرح الصديق، وعيسى معه، هو «من يتبنون آراء كارهة للجيش المصري».

***

في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، بدا ظاهرا وجود مزاج جديد لدى قطاعات من الشعب المصري، أو على الأقل من نخبته المتعلمة. في كل عملية إرهابية يقال أن حماس أو جماعات إسلامية مسلحة قامت بها في سيناء واستهدفت جنوداً مصريين، كان يتعالى الصراخ من أفراد متفرقين ضد حماس وضد الشعب الفلسطيني أحياناً بأكمله. وفي الوقت نفسه، عندما تقوم إسرائيل بعملية ضد غزة (2008 نموذجاً) كانت هذه الأصوات تصمت تماماً. ما اعتدنا عليه في التسعينيات وحتى احتلال العراق في 2003، أيام الفورة العروبية الأخيرة، كان العكس. تبدأ القوى السياسية في الصراخ عندما تكون إسرائيل هي المعتدي، وتصمت عندما يتعلق الأمر بحماس، بوصفها «فصيلاً مقاوماً». ما كان مفاجئاً وقتها هو أن هذه الأصوات كانت تأتي من قلب الفيسبوك، أي أنها لم تكن صادرة من مكتب وزير الخارجية السابق، أحمد أبو الغيط. وكان هذا يعني ببساطة أن الأيديولوجيا المباركية قد بدأت تجد جذوراً لها بين الناس.

بالتزامن مع هذا، كانت الأفكار النيوليبرالية قد بدأت تجتذب قطاعات من الشباب، حزمة من الأفكار، منها أولوية الأمن القومي المصري على ما عداه، وأولوية الحرب ضد الإرهاب، ذلك المصطلح الذي لم يكن قد تخلص بعد من سمعته السيئة، ومنها وجوب إلغاء الدعم الذي تقدمه الدولة للسلع الأساسية للفقراء، بالإضافة إلى النقد الجذري لأفكار اليمين الديني وأفكار اليسار على حد سواء. كانت هذه الآراء جديدة تماماً على مشهد الأفكار في مصر، الذي تسيدت ساحتَهُ الشعبيةَ أفكارُ الإسلاميين، وتصارعت أفكار القوميين واليساريين على اجتذاب النخبة الفكرية، مع هيمنة الأيديولوجيا المباركية على أفكار النخبة الاقتصادية. بدا كأن ثمة جيلاً صاعداً يؤمن بأفكار جديدة تماماً، متماهية مع أفكار نظام مبارك وإن لم تخرج بالضبط من هناك.

***

قامت الثورة. شارك فيها بعض هؤلاء الشباب المعبر عن هذا المزاج الجديد، ثم سرعان ما بدا واضحاً تذمرهم من السياق الذي سارت فيه أثناء حكم المجلس العسكري. وقتها كان الإسلاميون قد بدأوا يظهرون في المجال العام، وبدا واضحا أن أية ديموقراطية سوف تجعل حكم مصر من نصيبهم. كان هذا الإحساس قاسياً على الجميع، ولكنه كان أكثر قسوة على اصحاب ذاك «المزاج الجديد»، فجزء كبير من أفكار هذا التيار كان جذرياً للغاية في نقده للأفكار الدينية. كان على الأقل أكثر جذرية من اليسار الذي كانت أولويته محاربة القمع الأمني لنظام مبارك، سواء ضد الإخوان المسلمين أم ضد غيرهم. وقتها، بعد الثورة بأشهر، بدا أن ثمة صفقة تتم بين الإسلاميين والمجلس العسكري. ولكن ما ان لاحت بوادر الانشقاق بين الاثنين، حتى بادر الكثيرون من حمَلة هذه الأفكار لإعلان تأييدهم للمجلس العسكري. «الهوية المصرية» كانت تحتاج إلى «دولة قوية»، و«رجال الدولة» هم الأجدر بالتعبير عنها. لوهلة، بدا المرشح السابق للرئاسة أحمد شفيق ممثلاً جيدا لهذا المزاج المعقد، ولكن سرعان ما شحبت صورته لدى ظهور الفريق عبد الفتاح السيسي في المشهد. كانت الجماهير الواسعة، وهي تفوض الجيش للقضاء على الإرهاب، تمسك بالأعلام المصرية بجانب صور السيسي وصور عبد الناصر.
***
ليس هناك الكثير مما يجمع بين السيسي وعبد الناصر. ولكن القليل الذي يجمعهما هو ما كانت الجماهير ظمآنة إليه. عبّر الاثنان عن فكرة «الزعيم الملهم»، وعن فكرة الجيش القوي الذي يدير الدولة، وبإمكانه القضاء نهائياً على وجود الإخوان المسلمين، ولا يبالي بحقوق الإنسان وسائر «الأفكار المائعة».
***
في المراحل الأولى من حكم المجلس العسكري، تمت إذاعة تسجيل للناشط السياسي الاشتراكي سامح نجيب وهو يتحدث عن أن واحداً من أهداف حركة «الاشتراكيين الثوريين» هو «إسقاط الدولة المصرية». الفيديو كان صادما للجميع، ولم تفلح الصيغة الاعتذارية «نريد إسقاط دولة الظلم»، في محو آثار الصدمة. بدا للجميع وكأن هذا التيار بالتحديد يعلن الحرب على الدولة المصرية. قام هذا بتحفيز ذلك التصور الغامض عن الهوية المصرية لكي يندمج أكثر في فكرة الدولة. والدولة تعني بالتحديد مؤسساتها «القوية»، أي المؤسسات الأمنية والعسكرية. وإذا كانت الداخلية قد سقطت في 28 كانون الثاني/يناير 2011، فما الذي تبقى متماسكاً من مؤسسات الدولة؟ لم يكن هناك سوى الجيش. هكذا بدأت فكرة الهوية المصرية في «العسكرة» لأول مرة ربما.

قبلها، في السنوات الأخيرة من عصر مبارك، كان المروجون لـ«الهوية المصرية» لا يخفون تذمرهم من الجيش. وقتها كان قد بدأ الدفع بسلطة البيزنس، أحمد عز وجمال مبارك وغيرهم، لتواجه سلطة الجيش، وبدأ الحديث عن جمال مبارك بوصفه البديل الأمثل لمبارك، لكونه «مدنياً» بالتحديد، كما كانت هناك نبرة متزايدة تؤكد على أن 23 يوليو 1952، كان انقلاباً عسكرياً وليس ثورة. الحقيقة التي تبدو غريبة الآن هي أن مبارك كان أول من فكّر في إضعاف سيطرة العسكر على الحياة المصرية، عبر ترجيح كفة البيزنس ورجال الأعمال الجدد. أما الآن ـ في 2013 - ومع سير الهوية المصرية الجديدة في طرق غير متوقعة، فقد أصبح من الممكن التعبير عن الحنين لمبارك وتقديس الجيش في الوقت ذاته، بل وأكثر من ذلك، فنظام مبارك لم يخف أبداً تذمره من حزب الله ومن نظام بشار الأسد، أما من ساروا في اتجاه «الهوية المصرية الدولتية العسكرية» تلك، فقد صار بإمكانهم التعبير عن تأييدهم لبشار الأسد، بل ولحزب الله أحياناً وإن كان بشكل أقل، في مواجهة الجهاديين الإسلاميين، حيث أصبح الطرف الأول يمثل فكرة الدولة القوية، في مقابل المجموعات التكفيرية التي تمثل الطائفية المعادية للدولة. ينحاز هذا التيار إلى بشار الأسد وحسني مبارك سوياً. بل وأكثر من ذلك، يعبر هذا التيار، الذي أصبح الأكثر شعبية في الشارع، عن عدائه الشرس لأميركا، بسبب ما يوصف بالمحاباة الأميركية لمحمد مرسي. لم يكن متخيلاً أن يحدث هذا العداء من قبل تيار يؤمن بالصيغة المباركية للدولة، وإنما يبدو وكأنه يحمل صبغة ناصرية، لكنها لا تؤمن بـ«العروبة» ولا بـ«العدالة الاجتماعية». بالإضافة لهذا، يبدو غريباً جداً التناقض بين كفر «النيوليبراليين الأوائل» بدور الدولة في المجال الاقتصادي (حيث تم النظر إلى الدعم المقدم على السلع الأساسية بوصفه من ميراث اشتراكية عبد الناصر)، وبين تقديسهم الآن للدولة الممثلة في وزارتي الدفاع والداخلية والمخابرات العامة. الدولة الأمنية المسلحة هي الهدف الآن، وليس الدولة التي تقدم الدعم للمواطنين وتشارك في الاقتصاد. يبدو أنه مثلما تخلى كل فريق عن جزء من قناعاته في معركة الثورة، فقد تخلى المباركيون أيضاً عن جزء من «مباركيتهم».
***
على قناة الأون تي في، يقول الإعلامي يوسف الحسيني، مخاطباً «إخوانّا السوريين اللي جايين هنا عشان يرجعوا مرسي تاني أو عشان ينصروا الاخوان»، يقول: «لو انت دَكَر ترجع بلدك وتحل مشكلتك هناك، مالكْش دعوة بهنا خالص. هتحاول تحت أي ظرف من الظروف، إنك انت تحاول تحتال أو تشارك في حالة تتعلق بالداخل المصري، ماتزعلوش مننا، هتاكل كل قفا وقفا لحد ما قفاك يورم. جد مش هزار. (لو) دكر، تاخد بعضك وترجع على سوريا، لكن (لو) لا مؤاخذة زي النتايا (الأنثى)، هربان وديلك ف سنانك، وجاي هنا تعملّي راجل. لا. اظبط. مش هنا خالص».
***
واحدة من الشخصيات المركزية في هذه المعركة هو الإعلامي توفيق عكاشة، وهو الذي طالما سخر منه «الثوار» لتفاهته، سرعان ما أثبت أنه ليس ذلك المهرج المحض. أثبت عكاشة قدرته على التأثير في الكثيرين. كان لحزمة أفكار عكاشة دور كبير في الدفع بالهوية المصرية إلى الأمام: لم يخف عكاشة بعد الثورة تأييده المطلق للمجلس العسكري، ونفوره الشديد من الإسلاميين، ونفوره من كل ما يتهدد مفهوم الدولة. استطاع بلهجته الريفية كسب الأرض التي طالما احتكرها الإسلاميون، أرض الطبقات الشعبية في الريف. ولأول مرة بدا أن ثمة صيغة علمانية يمكنها النمو من أسفل المجتمع. هذه الصيغة العلمانية ليست صيغة ثورية بالطبع، وإنما دولتية حتى النخاع، كما أنها أيضاً ليست علمانية تماماً، فبعد ترداد اسم «الاشتراكيين الثوريين» في المجال العام، بعد فيديو سامح نجيب المشار إليه، بدأ عكاشة في إدارة حملة شرسة ضدهم، مندداً بهم لأنهم «لا يؤمنون بالذات الإلهية». وكلماته كانت تصل للجميع.
***
تبدو الآن هذه الهوية المصرية الدولتية وكأنها هي المعبر عن المزاج العام في القاهرة والمدن الكبيرة في مصر. الجميع يؤمن بأننا مصريون وحسب، وكل المعارك الأخرى، على سبيل المثال معركة «محاربة التطبيع مع إسرائيل»، قد نُسيت تماماً. وفي الوقت نفسه، ولأنه ليس هناك هوية صافية، وإنما هناك تصورات عن الهوية، ولأن هذه الهوية المصرية كانت ـ من ضمن ما كانت - رد فعل على الهوية الإسلامية، فقد تم إقصاء الإسلاميين عبر الدفع بأنهم «ليسوا مصريين». ليست صدفة أن تكون أكثر الاتهامات شعبية ضد محمد مرسي في عيون غالبية المصريين هي تهمة «التخابر مع حماس وحزب الله من أجل تهريبه في حادثة اقتحام السجون في 28 يناير 2011». هذه التهمة تبدو معبرة عن رؤية هذه الهوية المصرية للعالم. الإسلام السياسي متهم بأنه:

1 ــ ليس مصرياً بالقدر الكافي، بل يتخابر مع جهات تقع خارج حدود مصر
2 ــ يتحدى الدولة ممثلة في وزارة الخارجية، الممثلة بدورها في أقسام الشرطة.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

ثورة متمدِّدة وثوريون منسحبون

في 19 آذار/ مارس 2011، يوم الاستفتاء على تعديلات الدستور التي أدخلها المجلس العسكري الحاكم حينذاك، بعد تنحي مبارك عن الحكم بأقل من شهرين، انتصرت "نعم". وكانت أول هزيمة انتخابية...

سياسات التحكم بالإنسان في إسرائيل

في عام 1910 أقيم "كيبوتس دجانيا" على بحيرة طبريّا. كان أول كيبوتس تعاوني اشتراكي يقام داخل فلسطين، وأقيمت على أثره عشرات الكيبوتسات التي خصصت لغرضي الزراعة والصناعة. لعقود تالية، ظل...