عادت مشاركة العرب الفلسطينيين في إسرائيل في انتخابات الكنيست لتحتّل نصيب الأسد من جدالات المقاهي وشبكات التواصل. الحدّة التي تتسم بها هذه الجدالات بين أطراف يصعب على مراقب خارجيّ أن يرى بوضوح الحدّ الفاصل بين خلافاتها السياسية والشخصيّة، لا تعكس، للأسف، حالة عصف ذهنيّ أو انقسام ملحوظ في الشّارع العربي الفلسطيني في “إسرائيل” الذي يجنح في غالبيته، تحت تأثير عوامل تراكميّة متعددة، باتجاه المشاركة الفاعلة في الانتخابات البرلمانيّة الإسرائيلية.
الأصوات الداعية لمقاطعة انتخابات الكنيست الاسرائيليّ، وهنا نقصد لفيفًا واسعًا غير متجانس من النشطاء الحزبيين وغير الحزبيين، لا يبدو أنّها تستطيع أو ترغب في الفكاك من توتّرها في التعبير عن موقفها الذي يتّسم (وهنا تكمن المفارقة) بالكثير من البساطة، إذ يعتبر هؤلاء أن مشاركة قسم من الشعب الفلسطينيّ في انتخابات برلمان المشروع الصهيونيّ غير مقبولة ولا مجدية. يتعثّر التعبير عن هذا الموقف الوطنيّ الذي تدعمه جملة من الأسباب الرزينة، فيُستعاض عنه في معظم الحالات بابتزاز ومزايدات حول الخيانة وتقسيم الشعب والتصهين.
يُقابل توتّر خطاب المقاطعة بتوتّر مضاد من مؤيدي المشاركة الفاعلة في الانتخابات الإسرائيلية، فيتحوّل الجدل النخبويّ أصلاً، والذي يترجّى مفهوماً مشوّها عن “الشعب” ولا يعبّر عنه في الحالتين، إلى جدلٍ بيزنطيٍّ لا رجاء منه ولا خير فيه، بين معسكرين ليس لهما صفات أو ملامح واضحة، فنصير أمام صراخ طرشان وتبادل للاتهامات من دون أيّ بحث معمّق في الوضع القائم، ولا تقديم شروح وافية لما قد يتوفّر من بدائل، أو على الأقل، تحجيم إدّعاءات الطرفين ومحاولة وضع النقاط على الحروف.
اكتشاف "كنز"المواطنة
بدأ العرب الفلسطينيّون داخل إسرائيل بإدراك المزايا والمساحات الواسعة التي تمنحها لهم المواطنة الإسرائيليّة في الفترة نفسها التي بدأ فيها الفلسطينيّون عديمو المواطنة بتطوير مفهوم ووعي حديث بهويّتهم الوطنيّة. والواقع أنّ عقد السبعينيات، وهو عقدّ “المدّ الثوريّ” الفلسطينيّ، كان أيضاً عقد “اكتشاف المواطنة” عند العرب الفلسطينيين في إسرائيل، بعد رفع الحكم العسكريّ عنهم عام 1966، ليتمايزوا عن باقي الفلسطينيين، ولتصير لإسرائيل عندهم صورة مختلفة، أكثر مرونة وأقلّ دموية بكثير من صورتها عند فلسطينيي الضفّة والقطاع والشتات.
كما وسهّل انتهاء حكم الحزب الواحد في إسرائيل في نهاية السبعينيات، بعد فوز حزب الليكود بقيادة مناحيم بيغن بأربعة وثلاثين مقعداً في الكنيست، الطريق أمام الفلسطينيين في إسرائيل لوضع وعيهم المضطرد بمزايا مواطنتهم المنقوصة موضع التطبيق، بعد أن صارت إسرائيل دولة أكثر ليبراليّة، يتناوب على حكمها حزبان سياسيان رئيسان، وتمتاز بتوفر هامش واسع من حرية التعبير والتنظيم والتجمّع والعمل الإعلاميّ. وفي تطبيق كلاسيكيّ لمقولة هيغل "الحاجة هي وعي النقص"، رافق وعي الفلسطينيين في إسرائيل بـ"مواطنتهم"، وعياً بالنقص الذي يشوب هذه المواطنة، وبالتالي، حاجة للوصول إلى صيغة تملأ هذا النقص وتنهيه.
ومن هنا جاء المشروع السياسيّ الذي قسّم الاشكالية السياسيّة عند فلسطينيي الداخل إلى مركبتين، الأولى داخلية تتمثل في المطالبة بالمساواة، والثانية خارجية/قوميّة تتمثّل بدعم خيار الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بإقامة الدولة في الضفّة والقطاع. ولقد تعرّض هذا المشروع الذي أراد العرب في مناطق 48 إسرائيليين داخل حدود "الدولة"، وفلسطينيين في الضفة والقطاع، لضربات موضوعيّة وذاتيّة قاتلة، فجاء مشروع "دولة المواطنين" الذي طرحه عزمي بشارة في منتصف الثمانينيات، ليحلّ محله، ويعكس اتجاه المركبّة القوميّة لتصير موجّهة نحو الداخل من خلال ربط مطلب المساواة الكاملة بالاعتراف بالحقوق القوميّة الجماعية للفلسطينيين في إسرائيل.
بكلمات أخرى، جاء مشروع "دولة المواطنين" ليقول إنّ بإمكان الفلسطيني الحامل للجنسيّة الإسرائيليّة أن يكون مواطناً إسرائيلياً كامل الأهليّة والحقوق، وفي الوقت نفسه، فلسطينياً تاماً يتمتّع بحقوق قوميّة داخل إسرائيل لا خارجها. ولا يمكن، في واقع الأمر، لأيّ من متفّهمي أو داعمي المشاركة في انتخابات الكنيست باعتبارها "نضالاً" أو دفعاً بإسرائيل لـ"ترزح تحت تناقضاتها"، أن يبتعدوا كثيراً عن الأسس المعرفيّة لمشروع دولة المواطنين، وعن الأثمان الواجب دفعها من أجل جعل هذا المشروع مشروعاً سياسياً يمكن اختبار قابليّته للحياة بشكل جدّي.
"الاشتباك مع الواقع من أجل تغييره"
يشتمل أيّ موقف داعم للمشاركة العربيّة في انتخابات الكنيست على تأييد لفكرة التسليم بالواقع كخطوة تسبق الاشتباك معه من أجل تغييره. ولا يجب، في واقع الأمر، نفي هذه الفكرة أو إبداء فوقيّة عدميّة تجاهها كما يفعل كثيرٌ من دعاة المقاطعة، حتى يكون فيها ما يمكن معارضته وتبيان تهافته ضمن حدود نموذج "دولة المواطنين". فالمشكلة، بالنسبة لفلسطيني لا يحمل الجنسية الإسرائيلية، ليست بالضرورة في "الاشتباك مع الواقع من أجل تغييره"، بل في التشخيص السّائد لهذا الواقع والتحديد المُتّبع لطبيعة "الاشتباك" معه، والحدود التي ينتهي عنها هذا الاشتباك. فإذا ما سلّمنا بصوابيّة "الاشتباك مع الواقع من أجل تغييره"، كان لزاماً أن نسأل: من يملك سلطة تشخيص الواقع؟
الواقع في نموذج "دولة المواطنين" هو دولة إسرائيلية ذات فضاء سياسيّ وقانوني محدد، رغم أنّها لم ترسّم حدودها أبداً، والتغيير المُرتجى هو تحويل هذه الدولة من دولة صهيونيّة يهوديّة عنصريّة، إلى دولة لكافة مواطنيها، وكافّة مواطنيها هنا لا تشمل بعطفها الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة أو قطاع غزّة أو مخيمات سوريا ولبنان والأردن، لاستناد نموذج "دولة المواطنين" بشكل شبه كامل على تصوّر أوسلويّ للواقع القائم اليوم في فلسطين ما بين النهر والبحر.
يشتمل النموذج، بكلمات أخرى، على القصور نفسه في المخيلة والسياسة الذي أدّى إلى إضفاء شرعيّة فلسطينيّة وطنيّة على تقسيمات جاء بها الاستعمار والمشروع الصهيونيّ. أمّا الثّمن الواجب دفعه من أجل الوصول إلى "دولة المواطنين"، أو أيّ هدف آخر بوسائل "ديمقراطيّة"، فهو ثمن بالغ الوضوح: هذا "نضال" يجري تحت سقف المواطنة الإسرائيليّة، وبلغة ليبراليّة حقوقيّة تفهمها المؤسسة الصهيونيّة، وهو نضال محدود الخطورة وشديد الأنانيّة بالضرورة، لاستناده على تصور قوميّ لهويّة فرعيّة وجزء محدود من الشعب الفلسطينيّ، شاءت المصادفة التاريخيّة أن يجد نفسه في الجهة الأخرى من السلك الشائك.
وهنا، ينتفي عن جزء من أرض فلسطين الفهم الفانوني (من فرانز فانون) للاستعمار باعتباره عنفاً خالصاً لا يمكن أن يخضع إلّا في حالة مواجهته بعنف أقوى، في حين يُعاد تبني هذا الفهم بطريقة وصوليّة ما أن يتعلّق الأمر بجزء آخر من الأرض نفسها، الأمر الذي لا يعدو كونه إعادة إنتاج تنكريّة لمشروح حلّ الدولتين الذي مات وتعفّن. وبالتالي، يصبح ممكناً لإسرائيل، في نموذج "دولة المواطنين"، أن تكون واقعاً ذكياً ومنطقياً ومرناً وخجولاً - في مناطق جغرافيّة معيّنة دون غيرها-، يمكن انتزاع تنازلات منه بل وتغييره جذرياً عبر سُبل ديمقراطيّة وليبراليّة.
يُصدَّر هدف الحصول على المساواة والاعتراف بالحقوق القوميّة، والسعي نحو هذا الهدف، باعتباره نضالاً يجعل "إسرائيل" ترزح تحت وطأة تناقضاتها، في حين يمكن الإدّعاء، في ظلّ محدوديّة هذا النموذج السياسية والجغرافيّة والديموغرافيّة، وتنكّره المضاد لواقع الفلسطينيين خارج فردوس المواطنة، وكونه سيفاً ذو حدّين (جاهل فقط يمكن أن ينكر استفادة إسرائيل من وجود نوّاب عرب "يناضلون" من داخل الكنيست)، أنه لا يجعل إسرائيل "ترزح تحت وطأة تناقضاتها" بقدر ما يحاول، من حيث يدري أو لا يدري، حاله حال الليبراليين اليهود في أحياء نيويورك ولندن، إنقاذ إسرائيل من نفسها.
في ضرورة مساءلة "أوسلو الداخل"
يدّعي مناصرو المشاركة العربيّة في الانتخابات الإسرائيلية، أو أولئك الذين لا يبدون موقفاً مبدئياً ضدّها، في معظمهم، أنّ هذه المشاركة تنبع من "خصوصيّة" وتميز واقع العرب الفلسطينيين في إسرائيل. والحال أنّ العرب الفلسطينيين في إسرائيل لهم "خصوصيتهم" بالفعل. ولكن غيرهم من الفلسطينيين لهم "خصوصيتهم" أيضًا، وهذا هو ما يتوجّب على المتحمسين لانتخابات الكنيست فهمه ومحاولة الردّ عليه إن كانوا يصدقون أنفسهم بالفعل عندما يعتبرون أنّ دخول البرلمان الاسرائيليّ لا يتعارض، إن لم يدعم، حقوق وتطلّعات الشعب الفلسطينيّ في كافة أماكن تواجده.
إنّ وضع "خصوصيّة" قطاعات معيّنة من الشعب الفلسطينيّ في مقابلة "خصوصيّة" أجزاء أخرى يكشف البؤس الكامن في هذا المنطق برمّته، رغم أنّه يعكس، على مرآة مهشّمة، أجزاء متفرقة من واقع موضوعيّ لا يمكن إنكاره. فإذا كان العربي الفلسطينيّ في إسرائيل يعتبر مشاركته في الترشّح أو التصويت في الانتخابات "نضالاً" ضدّ العنصريّة والصهيونيّة، فإنّ عليه أن يفهم - منطلقًا من خصوصيّته، أنّ هذا النضال ليس له وجود أو دلالة أو قيمة في قاموس فلسطينيّ من غزّة، جرّاء "خصوصيّة" الوضع الغزّي، هذا إن لم يكن هذا "النضال" صورة طبق الأصل عن نقيضه.
وبذلك، فإنّ ما قد يمنح المشاركة في الانتخابات الحدّ الأدنى من الاتّساق المعرفيّ والعملانيّ ضمن حدود نموذجها المشغِّل هو تقديمها على ما هيّ عليه بالفعل: أوسلو الدّاخل النابعة من "خصوصيّة" لا يمكن من دونها فهم أو تلمّس أي فحوى نضاليّة، والكفّ عن محاولة تصوير هذه المشاركة على أنّها "حصان طروادة" نخبّئ فيه أعضاء الكنيست العرب ونرسلهم ليتفجّروا في قلب المشروع الصهيونيّ ويجهزوا عليه. ذلك أنّ ملايين الفلسطينيين من القابعين خارج هذه "الخصوصيّة"، لا يمكنهم، نتيجة شرطهم التاريخيّ و"خصوصيتهم"، إلا أن يروا فيها استغلالاً بيّناً لمزايا منحها المشروع الصهيونيّ لبعض الفلسطينيين دون غيرهم>
ما بعد بعد "الخصوصيّة"
لن يكون من الممكن خلق وضع سياسيّ واجتماعي أفضلّ في البقعة الجغرافيّة الممتدة بين نهر الأردنّ والبحر المتوسّط عبر مشاريع تحاول التعامل مع الأعراض بدلاً من التعامل مع المرض. إنّ منطق "الخصوصيّة"، لو مُدّ على آخره، فهو يضعنا، كشعب، أمام الأسئلة نفسها التي يحاول بعضنا، عبر انتخابات الكنيست، أن يضع إسرائيل أمامها: هل ما زلنا شعباً واحداً بالفعل؟ هل ما زال من الممكن بالنسبة لنا أن نطوّر مشروع مقاومة جامع ومتعدد الأبعاد يضمن لنا، في آخر الدرب، حقوقنا القوميّة والوطنيّة والفرديّة، سواء كنّا من غزّة أو عين الحلوة أو بئر السبع؟
لا يمكن لنموذج "دولة المواطنين"، أو أيّ نموذج آخر يحصر نفسه ضمن مساحة معرفيّة أو سياسيّة مسيّجة ومسقوفة بشعار دولة إسرائيل، أن يجيب على الأسئلة السابقة بالإيجاب لأنّه، لو فعل، فسينفي نفسه. الأمر نفسه ينطبق على نموذج "أوسلو" في كافة تفرّعاته وتجلياته. التحدّي، إذًا، كامنٌ في البحث المستمر عن بدائل متطوّرة، من دون الغرق في الابتزازات العاطفيّة والعزوف عن السياسة أو تخوين قطاعات واسعة من "الشّعب" ومحاولة إخراجهم من معادلة الصّراع، بل من خلال الانخراط في السياسة، ومحاولة العثور فيها على ما هو أبعد من "الخصوصيّة"، أي على الشيء الذي قد يربط، من دون أن يساوي أو يدمج، بين الفلسطينيّ الذي وجّه صاروخه من بين الركام باتجاه الكنيست، والفلسطينيّ الذي وجّه آماله تجاهه.