هول فقد الإنسان الفلسطينيّ في غزّة، وفي أيّ مكان على أرض فلسطين، يمكن له أن يزداد لعنة ووطأة إذا فُقدت القدرة على سرد قصّة هذا الإنسان، وعلى الإلمام بمركّبات حياته السياسيّة والاجتماعيّة، عبر منتجات تترجّى الكفاءة وتحاذي الجمال. وإذا كان أحد الروائيين الروس قد قال إنّ حياة أي فرد من عامّة الشعب (ناهيك عن مماته!) يمكن لها أن تكون قصّة عظيمة إذا رويت بطريقة جيّدة، فإنّ أعظم عُقد العيش ولحظات الملاحم يمكن لها أن تُنسى وتصدأ، إذا تُركت للحكّائين الرديئين وأهل الاقتباس.
لا تزال المعادلة التي ابتدعها الروائيّ الفلسطينيّ جبرا ابراهيم جبرا في روايته "السفينة" قابلة للتحقق عبر مختلف الأزمنة، وإن استلزم الأمر (منذ البداية) تعديلاً في بنياها اللغويّ. الفلسطينيّون كلّهم شعراء، لا بالفطرة، بل بالاكتساب. كان السرّ، حسب المعادلة، هو الجمع بين جمال الطبيعة والمأساة، مع التأكيد على أنّ أغلب الفلسطينيين - وهنا يحار المرء، لما يراه، بين الامتنان أو الأسف - لا يكتبون الشّعر ولا الأدب.
يقدّم العدوان على قطاع غزّة، وهو الثالث من نوعه خلال خمس سنوات، فرصة لإعادة زيارة المعادلة الجماليّة لجبرا، ومثيلاتها لدى رموز وأعلام النص الفلسطيني. فالأرض الفلسطينيّة، كما بات معروفًا إلى درجة مضجرة وتحضّ على الانتحار، عليها "ما يستحقّ الحياة"، وغزّة التي تقصف بالطيران الحربيّ، رغم كلّ ما تعرّضت له عبر عقود من قطع في الأطراف والمخيلة، لا تزال جزءًا أصيلاً من الأرض الفلسطينيّة "المطرّزة" والمزروعة بالزيتون.
ومن نافل القول إنّ الشبكات الاجتماعيّة قد فرضت نفسها بنجاعة كصفحة بيضاء لا تتحرّج في قبول كل الأقلام على اختلاف ألوانها، وأذواقها، وانحيازاتها الجماليّة. وفي خضمّ العدوان، وإلى ما بعد انقشاع غباره، تتحلّى الكتابة كفعل إنتاج بمزيد من المغريات، وتتطوّر لدى الجماعة البشريّة المُستهدفة رغبة جامحة لإنتاج النصوص والقصص، ويرتبك الكلّ تحت وطأة حاجته إلى أن يترك لمسته الخاصّة وسط الخرائب.
وعلى "طبيعية" ردّة الفعل هذه، إلا أنها، لتوقيتها الحرج ومفاعيلها التراكميّة، تفتح الباب أمام كثير من المساوئ والمخاطر والممارسات المشوّهة، المضغوطة، للمأساة الفلسطينيّة التي تصنّعها إسرائيل يومياً، وبكفاءة متناقصة، منذ أكثر من ستّة عقود. بكلمات أخرى، يجنح كثير من الفلسطينيين الذين لا يكتبون الشّعر في العادة، ولا حتّى النثر، للكتابة تحت القصف – بالمعنى الفعليّ أو المجازيّ. لكنّ نظرة عموميّة على المشهد تستلزم الوصول إلى نتيجة بسيطة مفادها أنّ السواد الأعظم من المكتوب عن القصف وتبعاته يخرج بدوره مقصوفاً، ومشوّهاً، وقبيحاً. فما العمل؟
يخبرنا الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا أن المرء حين يواجه مسألة تبعث فيه القلق والضيق والغرابة، فإنّ أمامه خيارين. إمّا أن يقبل هذا الأمر، على ما فيه من قضّ للمضاجع وإزعاج للعيون، أو أن يثور. والثورة هنا قد تأخذ طابعاً فيزيائياً عملانياً، أو طابعاً شديد الرمزيّة. وبالقياس، فإننا مع العدوان على غزّة، إذ نقف أمام الإعصار الهائل من الكتابات الرديئة، والكليشيهات، والاجترار الفجّ لمستهل نشرات الأخبار، واقتباسات القصائد ... فإننا لا نملك إلا أن نقبل أو أن نثور.
وهنا، قد يسأل البعض في معرض تفكيك خيار الثورة، عن جدوى الفعل والمدى المخصص له في ظلّ احتدام عسكريّ جنوب فلسطين المحتلّة، وارتخاء شبه مزمن في بقيّتها. يضاف إلى ذلك صعوبة تحديد الجهة التي يجب توجيه خيار الثورة ضدّها، وصعوبة البحث في تجفيف منابعها. فمن هم، في نهاية المطاف، أولئك الذين يسيئون إلى فلسطين، وإلى شهداء فلسطين، بكتاباتهم الرديئة وصورهم المبتذلة عنها وعنهم؟
الإجابة على تلك الأسئلة، وما قد يُضاف إليها، يكون بالكشف عمّا تتضمنّه من خدع وأوهام معلّبة. إذ إنّ ضرورة تمحيص ما يكتب عن الدمار والحصار والشهيد وتمييز غثّه من سمينه تبدأ منذ لحظة خروج الرّوح. الثورة ضدّ القبح بهذا المعنى، تستهدف القبح في مهده، وتخطط لاغتياله وهو بعدُ لم يتعلّم المشي، وإن كانت مستعدة لتعقبه عبر مراحل تطوره اللاحقة.
أمّا عن تحديد القوائم والجداول وعن استحالة التوصّل إلى نظام إداريّ يتكفّل بالمهمّة، فالتغلّب على هذه العقبة يكون عبر السلب. هذا يعني أنّ المبتذلين، المجترّين، يعرّفون من خلال الغياب المتقصّد لتعريف واضح لهم. فهم، في نهاية المطاف، يعرفون أنفسهم جيّدًا، ويعرفون أنّ قذيفة النقد التي لم تصبهم كانت، ولا تزال، تستهدفهم، وستظلّ كذلك حتى تتمكّن منهم.
السؤال الأهم إذًا، يمكن له أن يكون: هل نتجنّى على الكون ونحاول ثقب السماء بمطرقة ومسمار إذا قلنا أنّ الموت، والفقد، والفجيعة، ليست كلمات سهلة ولا بضائع في سوبرماركت؟ ألا يمثّل تركنا للشّهيد يُساء استعماله عبر نصوص ركيكة وتشبيهات مكررة وصور مسيئة تنازلا وطنيا وجماليا فادحا؟
ولهذا، فإنّ الثورة على القبيح في السياق الفلسطينيّ، بكل تجليّاته، في السينما والمسرح والشّعر والأدب والفيسبوك، ليست خياراً أخلاقياً فحسب، بل وخياراً آمناً وملحاً في العدوان. ذلك أنّ الكتابة الرديئة عن غزّة، مثلاً، جزء لا يتجزأ من العدوان عليها، ومن محاولة سلبها كلّ ما تملك من رزانة ومراكمة حضاريّة. يعني هذا، مكثّفًا، أنّ خيار الثورة ضد الابتذال والقبح امتداد طبيعيّ لخيار المقاومة ضدّ الكيان الصهيونيّ باعتباره خياراً جماعياً، جمالياً من الطراز الأوّل.
الفلسطينيّون كلّهم شعراء. لجمال طبيعة فلسطين، ولما لأرضها من قدرة على إنتاج المعنى، وللمأساة الفلسطينيّة المستمرّة. لهذا كلّه، تبدو الجملة الآنفة أقرب إلى الواقعيّة منها إلى المجاز. لكنّ الواقع أيضا يفرض تتمة تعطي الفكرة بُعداً مهماً، وتمهّد لمقاربات أكثر نفعاً وعملانيّة في التعامل مع ما يضجّ به السيّاق الذي نعيش فيه، ونموت فيه، من كلام وصور وقصائد: الفلسطينيّون كلّهم شعراء، نعم، لكنّ معظمهم - كما هو واضح - شعراء على قدر عالٍ جداً من الرداءة.
مواضيع
العدوان على غزّة: مانيفستو ضدّ الابتذال
مقالات من غزة
فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"
"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...
ما الذي تسعى له السلطة في مخيم جنين؟
بعد أيام من تحذيرات إسرائيلية من احتمال تدهور الأوضاع في الضفة الغربية تحت تأثير التطورات الحاصلة في سوريا، وفي أعقاب اجتياح اسرائيلي لمخيم جنين أسفر عن تدمير واسع للبنى التحتية...
البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية
يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة...
للكاتب نفسه
الكنيست الإسرائيليّ كما يُشاهد من غزّة
عادت مشاركة العرب الفلسطينيين في إسرائيل في انتخابات الكنيست لتحتّل نصيب الأسد من جدالات المقاهي وشبكات التواصل. الحدّة التي تتسم بها هذه الجدالات بين أطراف يصعب على مراقب خارجيّ أن...
داعش والأربعون مثقّفًا
ضجّ الفضاء الإلكتروني الفلسطيني في الأيّام الأخيرة بأحاديث تتعلّق بالدولة الإسلاميّة ووجودها في قطاع غزّة. جاء هذا بعد أن عثر طلاب في جامعة الأزهر بغزّة على بيان يحمل شعار الدولة...
لا نريد «رام الله» أخرى هنا
«ما حققناه، وأقول هذا تواضعًا، هو أننا خلقنا رجالاً جددا»: الجنرال كيث دايتون، مدير المركز الأمني الأميركي في الضفّة الغربيّة، في خطابه أمام معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.قدّمت الحكومة الفلسطينيّة...