العراق الذي دخله أكثر من تريليون دولار منذ العام 2004 وحتى الآن، صار عاجزاً عن توفير 5 مليارات دولار لبناء أهم ميناء فيه وفي المنطقة، وهو ميناء الفاو الكبير، لأن خزائنه اليوم خاويةٌ بفعل الفساد المالي والإداري. ولا يعطّل إنشاء الميناء الأموال الشحيحة فحسب، وإنما هناك رغبات خارجية تعرقله، خاصّةً وأنه سيؤثر سلباً على الموانئ في المنطقة ويوقف بعضها عن العمل، لأهمية موقعه الاستراتيجي.
التصميم الأساس
بدأت فكرة العمل بميناء البصرة الكبير، أو ما يسمى الآن "ميناء الفاو الكبير"، قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وتحديداً خلال فترة الاحتلال البريطاني، في العام 1919. وقد ساهمت ثورة العشرين بعدم تنفيذه، فمنذ بداية تأسيس الجمهورية، كانت السياسات تعتمد على عدم تنفيذ مشاريع الاحتلال. إلا أن الفكرة عادت إلى البحث خلال فترة الثمانينات الفائتة، ولكنها أُجهضت بدخول العراق بحرب مع إيران، ومن ثم غزو الكويت، وبعدها الحصار الاقتصادي الدولي على البلاد... وكل التداعيات اللاحقة المعروفة.
وفي العام 2005، قدمت أربع شركات، اثنتان منها كويتية، والأخريان عراقية وإماراتية، مخططاتها لاستثمار الميناء، وكانت المفاوضات مع الشركة الإماراتية قد وصلت إلى مرحلة توقيع العقد. آنذاك، طالبت الإمارات، المفتوحةُ شهيتها على الاستحواذ على الموانئ في عدد من الدول، بـ40 عاماً من الاستثمار، بعدها يسلم الميناء إلى الحكومة العراقية، واقترحت إنشاء أرصفة متعددة يختص بعضها بالبضائع، وأخرى لتصدير 10 ملايين برميل من النفط يومياً، وكذلك تصدير الغاز السائل. ولكن الحكومة العراقية رفضت ذلك، لأن الشركة طالبتها بدفع كلفة إنشاء الميناء على شكل 2.4 مليون برميل نفط يومياً، ولمدة 20 عاماً. وفي العام 2008 قدمت الحكومة الإيطالية منحةً بقيمة 46.5 مليون يورو إلى 9 شركات إيطالية سميت "اتحاد الشركات الإيطالية"، وبالاتفاق مع العراق، وهي قامت بوضع دراسة للموانئ العراقية بشكل كامل، وقدمت فكرة إنشاء ميناء عالمي في جزيرة الفاو المطلة على البحر، وتَرْك فكرة تطوير الموانئ العراقية الخمسة الحالية. وقد وضعت الشركات الإيطالية دراسة الجدوى والتصاميم لميناء الفاو الكبير، وحصلت على الموافقة على تصاميمه من قبل الحكومة العراقية عام 2012. وما زال هذا الاتحاد هو الجهة الاستشارية والمشرفة على تنفيذ المشروع.
وتُوفر التصاميم خطّةً طموحة تلبي متطلبات العراق الاقتصادية، وتساعده في تنويع مدخولاته بدلاً من الاعتماد على النفط، فضلاً عن أنها تعزز من موقع العراق الاستراتيجي والأمني. وتتضمن تصاميم الشركات الإيطالية إنشاء ميناء للبضائع، يكون من جهة كاسر الأمواج الغربي، وميناء للنفط يكون من جانب كاسر الأمواج الشرقي، وإنشاء 90 رصيفاً بعمق 19.8 متر يسمح برسو السفن العملاقة التي ستدخل إلى العراق لأول مرة، على أساس ترجيح وصول أكثر من 3 آلاف سفينة إلى الميناء سنوياً. وإلى جوار ذلك، وضعت تصاميمُ لمنطقة اقتصادية تتضمن الصناعات الخفيفة والمتوسطة، ومن ثم منطقة سكنية تتكون من 90 ألف وحدة سكنية مع سكة حديد تمتد بطول 98 كلم، تربط شبه جزيرة الفاو بالبصرة، بالإضافة إلى إنشاء نفق بحري في خور عبد الله لمرور الشاحنات إلى البصرة.
تُوفر التصاميم خطّةً طموحة تلبي متطلبات العراق الاقتصادية، وتساعده في تنويع مدخولاته بدلاً من الاعتماد على النفط، فضلاً عن أنها تعزز من موقع العراق الاستراتيجي والأمني.
وفي مقدمة الميناء ستنشأ قاعدة عسكرية بحرية، وهي الثانية بعد القاعدة العسكرية البحرية في ميناء أم قصر، وتهدف إلى حماية السفن.
ولا يحتاج اختيار الميناء إلى موافقات من دولتي الكويت وإيران، بسبب وجوده في مياه العراق وليس في المياه الإقليمية.
الحاجة للميناء
يُمثّل هذا الميناء حاجةً حقيقية للعراق. فسائرُ الموانئ العراقية لا تتحمّل مرور السفن الكبيرة. لا يمكن للسفن القادمة الى العراق من الصين والمحملة ببضائع، الوصولُ إلى تلك الموانئ لأن أعماق المياه تصل إلى 11 متراً، بينما هي تحتاج إلى أعماق 20 متراً. وهكذا تحط هذه السفن في ميناء جبل علي في الإمارات، أو صلالة في سلطنة عمان، ومن ثم يجري نقل البضائع عبر سفن صغيرة إلى الموانئ العراقية، علماً أن استيرادات العراق تتجاوز سنوياً ما قيمته أكثر من 35 مليار دولار، غالبيتها تصل إليه من موانئ البصرة. وكذلك يصدّر العراق نفطاً بحجم يتجاوز 100 مليون برميل شهرياً، ولكن دخول الناقلات النفطية الكبيرة إليها غير ممكن. وإنشاء الميناء سيقلل من أجور النقل من موانئ الخليج إلى موانئ البصرة، والتي تبلغ 100 دولار للطن الواحد، مما سيوفر على العراق أكثر من 5 مليارات دولار سنوياً.
العمل في ميناء الفاو الكبير بدأ في العام 2012، عبر إنشاء الكاسر الشرقي على امتداد 8 كلم، وهو أنجز خلال العام 2013، ومن ثم الكاسر الغربي الذي يمتد على 16 كلم، وأنجز العام الماضي، وبكلفة مليار دولار لكليهما. وحتى الآن لم يدخل العراق في مرحلة بناء الأرصفة، وهي النصف الثاني من المرحلة الأولى، إذ أشارت الخطة أن الميناء كان من المفترض أن يبدأ العمل في العام 2018، بعد إنشاء 5 أرصفة بطول 1750 متر لكل رصيف، وبطاقة 20 مليون طن سنوياً، والتي تتجاوز اليوم طاقة الموانئ الخمسة العاملة في العراق مجتمعة، التي تبلغ نحو 16 مليون طن سنوياً. والغريبَ أن الحكومة بدأت بإنشاء كاسر الأمواج في البداية، وكان من المفترض أن تقوم ببناء البنى التحتية للميناء، وإنشاء الأرصفة لكي يعمل، لأن وظيفة كاسر الأمواج ظرفية ووقتية، أي عندما يكون البحر هائجاً.
طريق الحرير
يعتبر ميناء الفاو الكبير البوابة الرئيسية لـ"طريق الحرير الجديد" الذي يتعلق بنقل البضائع الصينية إلى العالم. ومهمة هذا الميناء هي نقلها إلى أوروبا. ضغطت الصين على العراق منذ العام 2015 لإكمال الميناء بشكل كامل، مع المنطقة الصناعية والسكنية والقناة الجافة، ومن خلال قروض ميسرة. ولكن الحكومة أدارت وجهها، نتيجة الضغوط السياسية من قبل دول الجوار، مما استفز السلطات الصينية. الخطةُ أن يكون نقل البضائع من الصين إلى ميناء جودار في باكستان عبر السكك، وثم من هناك إلى ميناء الفاو بالبحر، وبعدها بخطط السكك الحديد من البصرة إلى سوريا وتركيا وإلى أوروبا...مما يساهم بتقليل وقت نقل البضائع من الصين إلى أوروبا بنسبة 35 في المئة من الكلفة الحالية، وخفض أسعار البضائع الصينية نتيجة خفض كلفة النقل. كما أن الاتحاد الأوروبي بحاجة أيضاً لإكمال إنشاء هذا الميناء لأنه سيساهم في نقل البضائع الأوروبية إلى الدول الآسيوية والخليج، فالطريق الحالي لنقل البضائع الصينية طويل جداً، وهو ينطلق من ميناء جوادر في باكستان، ويمر بخليج عدن والبحر الأحمر وقناة السويس والبحر الأبيض المتوسط.
بدأ العمل في إنشاء الميناء في 2012، وكان يفترض أن يكتمل في 2018. لكن الغريب أن الحكومة العراقية بدأت بإنشاء كاسر الأمواج، بينما كان من المفترض أن تقوم ببناء البنى التحتية للميناء، وإنشاء الأرصفة لكي يباشر العمل، لأن وظيفة كاسر الأمواج ظرفية، أي عندما يكون البحر هائجاً.
بعد أن رأت الصين أن العراق غير جاد في إكمال ميناء الفاو، لجأت إلى الكويت، وأكدت أنها ستستثمر وتشغل ميناء مبارك الذي يقابل ميناء الفاو، شرط أخذ موافقة العراق على ربط سككي لنقل البضائع، ولكن العراق في ظل حكومة عادل عبد المهدي رفض ذلك، مما جعل الكويت توقف العمل بميناء مبارك.
ولجأت الصين إلى إيران، بعد فشلها مع الكويت، لاستخدام الموانئ الإيرانية، شرط الحصول على ربط سككي مع العراق. وأبدت حكومة مصطفى الكاظمي موافقتها على منح إيران ربطاً سككياً (!)، ولكن الغضب الشعبي ساهم في تعطيل المشروع. والضغط لإكمال مشروع ميناء الفاو الكبير أدى إلى قيام البرلمان بوضع نص في قانون تمويل العجز لأشهر أيلول/سبتمبر 2020، وحتى كانون الثاني/ يناير 2021 يسمح باقتراض الحكومة مبلغ 333 مليون دولار من المصارف العراقية، لإكمال المشروع، وتوقيع العقد مع شركة دايو الكورية، عبر منحها الميناء بشكل كامل، الذي تبلغ كلفة إنشائه أكثر من 5 مليارات دولار، ومن المتوقع أن تصل إيراداته أكثر من 100 مليار دولار خلال 20 عاماً.
المتضررون كثر
تأخر المشروع لأسباب سياسية، إذ إن مصالح دول إيران والكويت والإمارات ومصر ستتضرر. فالموانئ الإماراتية مثلاً ستحرم من استقبال السفن الكبيرة القادمة إلى العراق، بالإضافة إلى أن قناة السويس المصرية ستخسر رسوماً نتيجة انخفاض عدد السفن التي تمر من خلالها.
العراق لمن؟
17-09-2020
وأحد أهم العوامل كذلك - عدا الفوضى الأمنية في العراق منذ العام 2003، وحتى الآن - أن وزارة النقل تَسلّمها 14 وزيراً منذ العام 2004 وحتى الآن، بعضهم بعيد عن الاختصاص. كما ساهم في توقف الميناء عدم تخصيص الأموال، على الرغم من أنه كان هناك أحياناً فائضٌ في الموازنة. فقد سلمت حكومة حيدر العبادي حكومة عادل عبد المهدي التي تلتها مبلغاً قُدّر بـ 15 مليار دولار. وهناك عوائقُ أخرى عديدة واجهت نشوء ميناء الفاو الكبير، منها ترسبات للتربة تحتاج إلى تقنيات حديثة لمعالجتها، لأنها لا تتحمل وضع آلاف الأطنان فوقها..
الضغط الشعبي قد يؤدي إلى إكمال المرحلة الأولى من ميناء الفاو، ولكن العراق لن يستطيع تشغيله، والاستفادة منه، إذ تملك الدول المجاورة أذرعاً مسلحة لها داخل العراق، وهي خارج إطار الدولة، وقد تعمل على استهداف خط السكك من البصرة إلى تركيا وسوريا، ما سيمنع مرور البضائع الصينية إلى أوروبا وبالعكس.
ميناء الفاو الكبير البوابة الرئيسية لـ"طريق الحرير الجديد" الذي يتعلق بنقل البضائع الصينية إلى العالم. ومهمة هذا الميناء هي نقلها إلى أوروبا: يتم نقل البضائع من الصين إلى ميناء جودار في باكستان عبر السكك الحديد، ومن هناك إلى ميناء الفاو بالبحر، وبعدها بالسكك الحديد من البصرة إلى سوريا وتركيا وأوروبا.
أما موانئ العراق الأخرى، فستشل حركتها وتصبح ثانوية للغاية، علاوة على أن ميناء "خور العمية" الخاص بتصدير النفط العراقي، أصبح نصفه تحت هيمنة إيران، نتيجة قيامها بالاستيلاء بشكل تدريجي على شط العرب، وعدم احترام المواثيق الدولية. والخلاصة أن العراق لن يستطيع استثمار موارده في ظل كل هذه التدخلات الخارجية!