الحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في قطاع غزّة المحاصر ليست على ما يرام. هذا ليس بسر. وهي كذلك وإن بدا، بعد أكثر من سبع سنوات على الحصار، أنّ كل شيء طبيعي. تلقّى القطاع، منذ فوز «حماس» في انتخابات المجلس النيابيّ لسلطة أوسلو، وتولّيها زمام الأمور في كامل القطاع عام 2007، ضربات مختلفة في طبيعتها، موجعة في أثرها، دفعت بالجغرافيا وأهلها إلى مزيد من التأزّم الذي تظهر تجلّياته، بين الفينة والأخرى، وبطرق مختلفة.
كان من بين تجليّات هذا التأزم المستمرّ، والذي تتوزّع روافده بين الداخل والخارج، الانتشار المهول لتعاطي حبوب «الأترامادول» المخدّرة، والتعاظم الملحوظ في استهلاك نبتة «الحشيشة»، ناهيك عن الارتفاع النسبيّ في معدلات هجرة الشباب إلى بلاد أوروبيّة. لكنّ مشكلة جديدة ربّما تحمل مقوّمات التحوّل إلى ظاهرة، تطلّ برأسها وتدقّ ناقوس خطر مختلف: الانتحار.
بلغت محاولات الانتحار في قطاع غزّة في العام 2009، حوالي المئة محاولة، كان من بينها سبع محاولات «ناجحة» أدّت إلى الوفاة. تضاعف هذا العدد أربع مرّات بحلول العام 2012 ليصل إلى قرابة 400 محاولة موزّعة على مساحة القطاع الضيّقة. واليوم، وبحسب إحصاءات قسم الاستقبال في مجمّع الشفاء الطبي ـ أكبر مستشفى في غزّة ـ فإنّ 30 محاولة انتحار شهريّة تصل إليها، يعني معدّل حالة واحدة يومياً. وهناك بالتأكيد حالات لا يُهرع بها الى المستشفيات، وتعالج في المنزل أو في مستوصفات ومستشفيات أخرى، ويجري التستر عليها. ويسمح الرقم الذي يقدمه مستشفى الشفاء بافتراض زيادة مطّردة في حالات الانتحار، الفاشلة منها والناجحة. ولكن الامر يحتاج لمعرفة أكثر دقة وعلمية، وهي بوابة كل مقاربة ومعالجة، مما ليس متوافرا حتى الآن.
السواد الأعظم ممن يحاولون الانتحار هم من فئة الشباب العمريّة (16- 25)، وأغلبهم إناث. الحالة القانونيّة غير المنصفة للمرأة الفلسطينيّة، التي تضعها في خانة أدنى من الرجل في مسائل المخاصمات العائليّة، خصوصاً في قطاع غزّة (وكذلك الى حد بعيد في الضفّة الغربيّة)، ناهيك عن الضيق الذي يبدو مضاعفًا على شريحة النساء في الشريط الساحليّ، باعتبار المرأة «الحلقة الأضعف» مجتمعياً ومحطة تفريغ التوتر الذي يعاني منه أقرانها الذكور، هذا كله يجعل المرأة تتصدّر مشهد الانتحار، لا سيّما في التجمعات السكانيّة البعيدة عن غزّة المدينة، من مخيّمات وبلدات. فهل إقدامهن على محاولة الانتحار تمرد مستجد، وشكل من أشكال رفض هذا الواقع، أم هو وسيلة يائسة للتخلص «الحاسم» من وضعية تبدو بلا مخارج أخرى؟
الوسائل المستخدمة متنوعة، ما بين الشنق، والحرق، واستخدام أسلحة ناريّة، أو تناول كميّات كبيرة من الأدوية. أمّا الأسباب التي تدفع بأولئك لمحاولة إنهاء حياتهم، فيظهِر أنّ للجانب الأسريّ والمجتمعيّ فيها نصيباً أكبر من الجانب الاقتصاديّ الذي، وإن كان محدوداً، فلا يمكن إهماله كعامل في هذه الزيادة في معدلات الانتحار عامة.
يكتسي التعامل الحكوميّ مع هذه المشكلة الطابع نفسه لتعاملها مع باقي المشاكل المجتمعيّة والنفسيّة في قطاع غزّة، أي الطّابع الديني، التأكيد على تحريم قتل النفس والتحذير من النهاية البائسة لمن يقدم على ذلك، وسواه من عمليّات التسطيح المقدّس لهذه المشكلة، ومقاربتها دون غوص حقيقيّ في أسبابها ومحاولة فاعلة للتعامل معها أو الحدّ منها.
في بعض الحالات التي يكون فيها الإقدام على الانتحار علنياً، ناجماً عن ضيق في العيش وعوز، ويكون له ارتدادات في الشّارع الغزّي، تضطر الحكومة للتدخل بيدها الناعمة، فيزور مسؤول كبير أهل الميت ويعطيهم ــ في مشهد مصوّر ـ مبلغاً مالياً لحلّ الأزمة. لكن، عامة، كل ما لدى الحكومة، ومن في صفّها من محللين وأصحاب رأي ومقرّبين من الشأن النفسيّ المجتمعي، ليقولوه لمن يفكّر في الانتحار كخيار مطروح على الطاولة هو التالي: «لا تقتل نفسك. حرام!».
أمّا أهل الاختصاص البعيدون نسبياً عن دائرة الحكم في قطاع غزّة، وهواها الايديولوجي، فيتحدثون بموضوعيّة أكثر عن هذه المسألة، دون تعويل على شمّاعة «ضعف الوازع الدينيّ» التي يستخدمها كثيرون. في معرض تفسيرهم لزيادة محاولات الانتحار، يتحدث المختصّون عن الركود السياسيّ بعد حسم «حماس» العسكريّ عام 2007، والحصار الذي تسرّب إلى التربة الاجتماعيّة وضرب بأظافره في مواضع دقيقة، وأدّى إلى ارتفاع في نسب البطالة، ناهيك عن رداءة المنظومة الموكل إليها مهمّة التعامل مع المشاكل العائليّة، من جمعيّات ومؤسسات ودور رعاية.
اليوم، ومع هذه الزيادة التي لا يبدو أنّها ستقف عند هذا الحد في معدلات الانتحار في قطاع غزّة المثقل، فلا بدّ من وقفة للتعامل مع هذه المشكلة. لا يكفي أن نسأل «لماذا يقدم شاب غزّي على الانتحار؟»، بل يجب أن يصحب ذلك بحث عن أجوبة تترجم على أرض الواقع: «كيف نحدّ من ذلك، ونعالجه؟».
مواضيع
الانتحار في غزّة إلى ارتفاع
مقالات من غزة
خالدة جرار مسجونة في قبر!
"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...
اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة
لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...
كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..
شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...
للكاتب نفسه
الكنيست الإسرائيليّ كما يُشاهد من غزّة
عادت مشاركة العرب الفلسطينيين في إسرائيل في انتخابات الكنيست لتحتّل نصيب الأسد من جدالات المقاهي وشبكات التواصل. الحدّة التي تتسم بها هذه الجدالات بين أطراف يصعب على مراقب خارجيّ أن...
داعش والأربعون مثقّفًا
ضجّ الفضاء الإلكتروني الفلسطيني في الأيّام الأخيرة بأحاديث تتعلّق بالدولة الإسلاميّة ووجودها في قطاع غزّة. جاء هذا بعد أن عثر طلاب في جامعة الأزهر بغزّة على بيان يحمل شعار الدولة...
لا نريد «رام الله» أخرى هنا
«ما حققناه، وأقول هذا تواضعًا، هو أننا خلقنا رجالاً جددا»: الجنرال كيث دايتون، مدير المركز الأمني الأميركي في الضفّة الغربيّة، في خطابه أمام معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.قدّمت الحكومة الفلسطينيّة...