تعود للذاكرة حكايةُ قريبة من قريبات سلمى، قصيرةِ القامة، ممتلئة الصدر، دوماً ما تخضّب يديها بالحناء، هادئةً، تعمل في النظافة. كانت تكسب أجراً ضئيلاً، لكنها أفضل من سلمى على أي حال، على الأقل كانت أشجع منها ومستقلة مادياً. كانت سلمى التي تصغرها سناً تغبطها سراً، على الرغم من الرائحة الفظيعة التي تفوح منها عندما تقابلها صدفةً، وهي عائدةٌ من عملها على شاحنات النظافة التي تجوب المدينة المكتظة دوماً بالقمامة، والتي لم يتعلم ساكنوها قط كيف يصبحون أنظف، أو على الأقل كيف يرمون أكياس القمامة في البراميل. تلك الفتاة، مثل كثيرين من عائلة سلمى، كانت أعمالهم محددة منذ الميلاد لتكون في قطاع النظافة.
قبل الحرب، وفي لحظة من لحظات سلمى الغريبة، عادت أمها من الخارج فزعةً وصرّحت: ليالي في السجن! وحتى حينها، فكرت سلمى أنه كيف للفقراء والمهمشين والمنبوذين أن يفكروا بأسماء جميلة كهذه، كيف لأهل أمها أن يفكروا باسم لطيف كهذا الاسم، ويا ترى من الذي اختاره؟ هل هو اختيار جماعي مثل كل شيء آخر في حياتهم؟ ردّدت أمها الخبر تنتظر منها ردة فعل، لم تسأل سلمى لماذا ولا متى ولا كيف؟ فقط قالت لها: هل سنذهب إليها؟ على عكس أمها، سلمى لا ترى في هذا الخبر صدمةً كبرى، بل نتيجةً اعتيادية لكون الفتاة ببشرة سوداء، وتعمل في النظافة.
المهمشون في اليمن.. اغتراب في أدنى الهامش
03-10-2019
في السجن بكت المسكينة، بكت بمرارة وقتاً طويلاً، وطلبت منهم أن يحضروا حنّاءً في المرة القادمة. كانت تهمة الفتاة القصيرة والتي لم تتعدَّ السابعة عشرة، أنها ارتكبت فعلاً خادشاً للحياء في الشارع العام. غطّت وجهها، وبكت في كل مرة رددت فيها التهمة، وهي تشرح أنها لا تفهم ماذا يعني هذا؟ وما الذي خُدِش؟ وحياء من بالضبط؟ واتفقت معها النسوة اللاتي زرنها أن هذا شيءٌ عجيب. شرحت سلمى للتجمع العائلي ماذا تعني الكلمتان، حاولت تبسيطها قدر ما استطاعت على الرغم من أنها هي نفسها ما كانت لتعرفَ ما هي ملابسات جريمة كتلك، حتى بعد أن كبرت واطّلعت على صياغة القانون، إلا أنها لم تجد وضعيات معينة لتطبيق هذا القانون.
ليالي التي بكت حين دخلت أول مرة للسجن، خرجت منه تشرح لسلمى وضعيات الجريمة والقانون الفضفاض الذي يغطيها. فالشابة التي كانت تركب سيارة النظافة مع زملاء وأقارب لها يتبادلون النكات، ويضربون بعضهم بالمكانس، كانت تخدش الحياء العام لأنها لم تكن بصحبة قريب من الدرجة الأولى.. وسيدة أخرى كانت في الحديقة الهندية تحشو يديّ عشيقها تحت حمالة نهديها، وفتاة أخرى أمسكت بيدي حبيبها في المطعم، كلهنَّ صادف أن عبر بجانبهنَّ رجل أمن، وقرر ذلك الرجل أنهنَّ خدشن الحياء العام. ولو كنَّ أكثر حظاً، أو كان الرجل بمزاج رائق لكان تغاضى عن ذلك. شاهدت سلمى بعد ذلك كيف أن هناك عشرات الفتيان والفتيات يجوبون الشوارع مع أصدقائهم في السيارات، ويحتضنون بعضهم في المقاهي، ويتبادلون القبل وراء الستائر البلاستيكية في المطاعم. لكن أولئك لا يخدشون الحياء العام لأن ملابسهم أنظف، ولون جلودهم أكثر صحة ونضارة، لأن أظافر البنات غير مطلية بالحناء بل بالطلاء الفاخر، لأن سياراتهم أكثر لمعاناً وأسماءهم أكثر رنيناً، على الرغم من أن اسم ليالي كان من المفترض أن يحميها و لو قليلاً. ومع هذا فهي أكثر حظاً من ذوات البشرة الأصفى، فقد عادت لعائلتها على عكس الأخريات اللواتي لم يعدن قط، وكان ملجأهنَّ الشارع.
اليوم - بينما تتذكر- تقرر سلمى أنها ستذهب لزيارة الحديقة الهندية. قالت لها قريبة أخرى أن الحديقة الهندية هي ملتقى العشاق، هي المسلسل التركي الحقيقي، وأنها هناك سترى كل ما لا يخطر على بالها. ارتدت سلمى قفازاتها القطنية، أسدلت برقعها، وأنزلت القطعة الشفافة على عينيها، وأخبرت أمها أنها ذاهبة لزيارة صديقتها. في الطريق إلى الحديقة الهندية، سرحت سلمى في خيالات اليقظة: ماذا لو – كما في الأفلام – ذهبت للحديقة الهندية؟ ثم قُبض عليها بتهمة خدش الحياء العام لأي سبب يراه شرطي الآداب ملائماً للتهمة، ثم اقتيدت إلى السجن. وفي السجن تتفاجأ بأن زنزانة علي هناك بجانب زنزانتها! ثم ماذا لو – كما في الأحلام – استطاع علي شقَّ نفق صغير إليها، ركع أمامها، واعتذر عن خذلانه، وعن اختفائه، وعن حماقاته، ثم شق نفق آخر خارج السجن، وفر الاثنان خارجاً؟ ماذا لو انتهت رحلة الأنفاق هذه في عالم آخر؟ عالم أشجاره تحيط بجانبي الطريق، وتتمشى سيداته المسنات دون قلق وببذلات رياضية، وعلى الأسوار الوطئة للحدائق تجلس الشابات الصغيرات، وبين سيقانهنَّ يستقيم الشبان أحباؤهنَّ، يحتضنون بين كفوفهم وجهوههنَّ السعيدة، ولا يوجد في أقسام الشرطة لديهم مسمًى لشرطي الآداب، ولا قوانين الآداب، وليس هناك من تهم تتعلق بمن يكتب عن المستشفيات الهالكة، والفتيات المغتصبات من قبل مسؤولي السلطة. ماذا لو كانت رحلة الأنفاق هذه بداية ضوء جميل ينعكس على بشرتها القاتمة، فلا يؤذيها ولا يطعن ثقتها بنفسها وبمبادئها؟ من أين تبدأ رحلة الأنفاق إذاً؟ إن كانت البداية من السجن مستحيلة.
الفتاة صاحبة أكبر "لا"!
08-03-2019
تتنهد سلمى وتفكر أنه بالتأكيد ليس من أقصى الحديقة، حيث اتخذت موقعها وتدندن لحناً حزيناً. يحيط بها اللحنُ الحزين كأنما يلتهمها، وتصبح الشخص الأكثر وحدةً على الأرض، الفتاة التي يمكن أن تشيخ الوردات من ثقل روحها، كانت هناك بلحنها الحزين تسح دموعها بصمت، وهي تشاهد العشاق الذين لم تتعدَّ مشاهد مسلسلهم التركي أكثر من لمس اليدين، العشاق الهامسين القلقين من شرطة الآداب ومن الأوبئة ومن الأهالي ومن الطيران والقصف والاعتقالات العشوائية بتهم غير مفهومة. عادت سلمى لتسأل نفسها سؤالها الاعتيادي الدائم: ما الذي يحزنك بالضبط؟ ولماذا هي في الحديقة الهندية؟ لا تعرف سلمى الإجابة على وجه الدقة، لكن الافتراض أنها هناك، لأنها أرادت أن تصدق أن هناك حباً في هذه الأرض، وأنه ليس في الأفلام والروايات فحسب. أرادت أن تتخيل نفسها كائناً عادياً ضمن نطاق هذه المدينة المتوحشة. أرادت أن ترى إن كان بإمكانها وعلي أن يتشاطرا كرسياً هناك إنْ عاد يوماً من اختفائه الرهيب، أرادت أن تكذب وتقول إن علي لم يرفضها، كان فقط خائفاً عليها.
كانت تتوقع من العجوز أن ينهرها، ويشتم النساء وجيلها. لكن العجوز رفع يديه عالياً، ودعا بأن يفك الله كربه وكربها، وبأن يعيده إليها سالماً، وبأن يجمع شملهما، ثم غنّى: "ويارب من له حبيب لا تحرمه من حبيبه، لا تحرمه من حبيبه"، وختم أغنيته بأن غمز لها.
في طريق العودة من الحديقة الهندية، اجتازت سلمى البوابة الحديدية، وهمست مودعة العجوز الشارد الذي يقبع على كرسي خشبي يدوي الصنع. لم يرد عليها العجوز، ربما لأنه لم يسمعها من الأساس، نظرت إليه مرة أخرى، ثم اقتربت منه وقالت بصوت عال:
- هل ستدعو لي يا حاج إذا طلبت منك ذلك؟ استغرب العجوز فعلاً، ولم يستطع الرد بسرعة، خاصة أنه غير قادر على رؤية عينيها، فطلب منها ترديد ما قالته، رددته بصوت أعلى، وافق العجوز وما زال مندهشاً، قالت له سلمى:
- لي حبيب مختفٍ، ربما في السجن، ادعُ أن يفرج عنه، وأن نأتي لنجلس هنا.
كانت تتوقع من العجوز أن ينهرها، ويشتم النساء وجيلها. لكن العجوز رفع يديه عالياً، دعا بأن يفك الله كربه وكربها، وبأن يعيده إليها سالماً، وبأن يجمع شملهما، ثم غنّى: "ويارب من له حبيب لا تحرمه من حبيبه، لا تحرمه من حبيبه"، وختم أغنيته بأن غمز لها. تشعر سلمى بسعادة، وتقتنع بشكل كامل أن دعوة العجوز لا شك مستجابةٌ. نامت هانئةً ليلتها، لكنها في الصباح ذكّرت نفسها أن علي هو من تخلى عنها، هو من لم يردها من الأساس، وحتى وإن عاد فلن يجتمع شملهما لأنه لم يتفرق من الأساس، لم يكن هناك أي شمل. تتفق سلمى مع الصوت الذي داخلها أنها لتجعل من نفسها أضحوكة إذ هي تفكر بهذه الطريقة، وإن كانت ستفعل شيئاً، يجب عليها أن تُخرج علي من معتقله أينما كان، وبعدها تبصق في وجهه. هكذا ستكون أرضت كل الأطراف المتصارعة في أعماقها: كبرياءها ومحبتها! لذا فكرت سلمى كيف سيكون شكل الرسالة التي ستبعثها للفتاة ذات الوجه النحيل على الفيسبوك. كانت قد تتبعت الروابط حتى اهتدت للفتاة التي أرادت أن تبحث عن القتلى والأسرى والمعتقلين والمخفيين.
موت
06-06-2019
نادية
14-06-2019
علي
27-06-2019
سلمى
18-07-2019
نادية: إكتشافات ما بعد الظهيرة
26-07-2019
علي: القصص الأخرى
08-08-2019
سلمى، ليالي الحب والحرب
16-08-2019
لقاء نادية بسلمى
29-08-2019
علي: البحث عن أسير
12-09-2019
سلمى: بهجة الحكاية
21-11-2019
نادية وطائر الموت
12-12-2019
حرائق
09-01-2020
سلمى: في حضرة الحقائق
01-02-2020
نادية: أشياءٌ لا تُحكى
14-02-2020
على الطريق الى الريحان
27-03-2020
سلمى: بؤس الصفيح
09-04-2020
مطر
08-05-2020
عليّ: جزء من حقيقة
06-11-2020