إنّ النقص في التحليل الذي نعاني منه، مترافقاً مع انفعالية يمكن التلاعب بها بيسر، يحوّلان الثورات العربية إلى فضاءات للخلاف، ليس في أماكن النزاع فحسب، لكن أيضاً في كل الحيز الإسلامي. تتحمّل تركيا جزءاً من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في سوريا اليوم. لطالما كان أردوغان مقرباً من ديكتاتورية الأسد التي وفّرت لتركيا بوّابة الدخول للأسواق العربية. لكن تركيا أدارت للأسد ظهرها سريعاً، وحالما بدأت رياح الثورات العربية تهزّ النظام السوري.
الخلطة التركية
وفي حين تُوِّج أردوغان كوصيّ على الثورات العربية، وكممثل عن هذا "الإسلام المتخلص من العقد"، فقد أظهر الرجل للثوريين العرب أنه يمكن للمرء، في آن، أن يستفيد بفخر من منافع الليبرالية الاقتصادية، والقبول من دون خجل بالعلمانية، والتعايش رغم كل شيء مع العلاقات "الضرورية" مع الدولة الصهيونية.
جميع الاسلاميين العرب يدّعون تطبيق هذا النمط من الاسلام السياسي على الطريقة التركية، من الغنوشي التونسي، وصولاً إلى الاسلاميين المصريين. هو نمط من الإسلام السياسي الذي تنظر إليه الإدارات الغربية والإسرائيلية بإيجابية كبيرة. وهكذا وجد هؤلاء الزعماء الاسلاميون تسوية مناسبة بالنسبة إليهم، وهم الذين يأملون بالوصول إلى السلطة من دون إثارة خوف الغرب. وهو أيضا اخف الشرور بنظر هذا الغرب التاجر.
تجسّد "النجاحات الاقتصادية" الظاهرة لحزب العدالة والتنمية التركي هذا الوهم المرعب، الذي يفيد بأنه يمكن لنظام يهيمن عليه اسلاميون أن يكون في آن واحد عضواً في حلف شمال الأطلسي، وأن يتمتع باقتصاد ليبرالي مزدهر، وأن يمتلك علاقات (اقتصادية وديبلوماسية وعسكرية) مع الكيان الصهيوني.
إنّ اعتماد نمط الاسلام السياسي لحزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أردوغان كمرجعية لهذه الحركات الاسلامية العربية، يؤمّن لها الإذن الغربي للوصول إلى الحكم في دولها، وذلك من دون التفريط بالشرعية الشعبية التي تتمتع بها، والتي راكمتها في ظروف شديدة القسوة، بعد عقود من القمع والتعذيب اللذين مارستهما ضدها الديكتاتوريات المتعاقبة في دولها.
أراد أردوغان ركوب هذه الموجة آملاً بحصد المكاسب التجارية، مع فتح الأسواق العربية أمام الشركات التركية. لكننا اليوم بتنا نشاهد محدودية هذه الإستراتيجية قصيرة النظر:
• يتحول الانخراط الكبير لتركيا إلى جانب الثوار السوريين، بموازاة تجاهُل العامل الإسرائيلي شديد الحضور في ذلك البلد، إلى حمل ثقيل الوطأة، على أصعدة متنوعة:
ــ على المستوى الاقتصادي أولا، مع تدفُّق مئات الآلاف من اللاجئين إلى الحدود التركية، وقد أصبحوا يشكلون مشكلة إنسانية كبيرة، وأمنية كذلك.
ــ ثمّ على الصعيد الدبلوماسي، حيث أنّ سياسة "تصفير المشاكل" التي اعتمدتها تركيا إزاء جيرانها لم يعد لها وجود يُذكَر. هكذا، صار على تركيا التعامل مع ثلاثة جيران كبار، علاقاتها معهم ستكون عدائية بشكل عميق: هناك دولة سورية التي وإن ضعفت لكنّها لا تزال قائمة، وحليفاها المخلصان (روسيا وإيران) المنخرطان عسكرياً في النزاع السوري.
ــ وأخيراً استراتيجياً. لأنّ النزاع السوري أرغم تركيا في نهاية المطاف على وضع نفسها في ظلّ الحماية الأطلسية المغرضة اليوم أكثر من الأمس.
• من جهة ثانية، راحت الأزمة الاقتصادية تقوِّض هذا "النموذج التركي" الذي يعاني من التداعيات السلبية لنظام اقتصادي عالمي انخرطت تركيا فيه بشكل كامل:
ــ أصبح تحقيق تركيا نموّاً مشفراً برقمين (عشرة في المئة فما فوق) مجرد حلم، فالنموّ توقف عند عتبة الـ2.2 في المئة منذ العام 2012.
ــ ثمّ إن ثقل ديونها الخاصة (295 مليار دولار) أصبح مصدر إعاقة كبيرة، فضلاً عن أن تداعيات الانحسار الاقتصادي الذي تشهده الأسواق الرئيسية للبضاعة التركية (أوروبا والعالم العربي) تضفي تشاؤماً على مستقبل الاقتصاد التركي.
ــ التضخم البالغة نسبته عشرة في المئة داخل تركيا يزيد من حدّة انعدام المساواة في المجتمع، كما أن الزبائنية الناهضة تحصر دائرة المستفيدين من النمو ببعض المجموعات المقربة من السلطة فحسب.
وحتى لو بدت التظاهرات التي شهدتها مختلف المدن التركية الكبيرة في الأسابيع الماضية، ذات طابع سياسي، فهي توضح أن "المشروع الإسلامي" لا يمكن له أن يكتفي بعملية إضفاء طابع أخلاقوي على هذه "الحداثة التسليعية"، التي هي أصل انعدام المساواة الاجتماعية وكل ما يرافقها من تداعيات أمنية.
الأخلاق لا تحل المشكلة
إنّ وصول حركة سياسية إلى السلطة باسم إعادة الاعتبار لهوية دينية اسلامية، هو أمر مشروع بالكامل، خصوصاً عندما تكون تلك الهوية الدينية قد تعرّضت للتشويه ولسوء التعاطي وللإنكار، أكان خلال الإدارات الاستعمارية أو لاحقاً في ظلّ حكم جميع الديكتاتوريات التي فرضت الهيمنة الاقتصادية والثقافية الغربية.
لكنّ ذلك لا يعفي أحدا من التفكير العميق بهذه الحداثة التسليعية المعولَمة/الشيطانية (mondiabolisante )، وبضرورة طرح بديل عنها يحظى بالمصداقية. ذلك متسق بالكامل مع هذه الهوية الاسلامية ومع أخلاقياتها التي لطالما نودي بها. إلا أنّ لذلك شروطاً ومقدمات ضرورية:
ــ الشرط الأول هو ضرورة فهم أن التحدّي يفوق بأشواط مسألة الاستيلاء على السلطة السياسية.
ــ الشرط الثاني هو الخروج من تلك الفرضية العقيمة والمعطلة لأي فكر إبداعي، والتي تقول بأنه "لا يوجد بديل"، فيجري تبرير جميع التسويات التي تجعل كل الخيانات "مشروعة إسلامياً".
ــ ثالثاً، على حاملي المشروع الإسلامي، من منتقدي الغرب من دون أن يفهموه فعلاً، استيعاب أنه لا يكفي إضفاء الطابع "الأخلاقي" على نظام ظالم في العمق، بهدف جعله مقبولاً "إسلامياً". إنّ كونيّة الاسلام تتخطّى مسألة الأخلاق، وهي تتعلق بالطموح الى المساهمة في بلورة نظام بديل أسسه نفسها معاد افتكارها. من شأن هذه المهمة أن تطول زمنياً، لكن الموارد البشرية والمرجعيات المفاهيمية (النظرية) العديدة متوفرة بالفعل في التراث الديني والثقافي. لكن يجدر الخروج أولاً من وضعية "الإعجاب الكاره" إزاء الغرب. يجدر التمكن من إدراك جميع مساوئ الغرب، بالتوازي مع امتلاك القدرة على استخراج أكثر الأفكار والتجارب فرادةً وتميزاً التي تتبلور في المجتمعات المدنية الغربية.
ــ وعلى هؤلاء المعجبين بـ"الألعاب" التكنولوجية التي تنتجها الحداثة التسليعية (أي الليبراليين)، وعلى الذين ينتقدون انعدام المساواة الناتجة عن الاقتصاد المفترس (اليسارويون) أن يفهموا أخيراً أن المشكلة لم تعد محصورة بهذا التوزيع غير العادل للثروات فحسب، بل أيضاً وبشكل أساسي، بالطريقة التي تنتج بها وتستهلك. ذلك أنّ الحداثة المهجوسة بالإنتاج تدمّر كينونة الأشخاص، وبيئتهم، وتمايزاتهم الثقافية، وعلاقاتهم المحددة بالله. وهي تحولهم إلى أفرادٍ لا يتعرفون على وجودهم المتبادل، ولا يعترفون به إلا من خلال عملية الإنتاج أو الاستهلاك. تجدر إعادة النظر بهذا النمط من الحضارة التي تدمّر الانسان في أبعاده المختلفة، تماماً مثلما تجدر إعادة النظر بالفلاسفة الحداثويين الذين يسندون هذا النظام المدمِّر.
كذبتان وحساب عسير
يواجه اليوم الإسلاميون المصريون أو التونسيون الممسكون بسلطات بلدانهم، كما نظرائهم الأتراك، صعوبات هائلة في تطبيق هذا النظام الليبرالي التجاري داخل واقعهم السياسي. فمن جهة، سيخضعون لابتزاز صندوق النقد الدولي الذي لن يقدم لهم القروض إلا مقابل الخضوع الكامل من قبلهم لقواعده الألترا ــ ليبرالية. ومن جهة ثانية، سيتعرضون، على غرار أسلافهم في الحكم، لغضب شعوبهم في إطار رفضها لإفقارها. بالتالي، ستعي الشعوب الموقف وستطالب حكوماتها بجردة حساب حول كذبتين:
ــ الكذبة الأولى هي أن هذه الحكومات جعلت شعوبها تصدّق أن من شأن تغيير بسيط للنظام السياسي أن يحلّ أزمة مطالبهم الاجتماعية والسياسية. فور وصول "الثوريين" الاسلاميين العرب إلى الحكم "بانتخابات ديموقراطية"، تلقّوا زيارات سريعة من مبعوثي صندوق النقد والبنك الدوليين. وقد قام هؤلاء المبعوثون بتذكير الحكام الجدد بالواقع الصعب لنظام مالي يدرك كيف يفرض شروطه القاسية. هي شروط لا تتوافق مع المطالب الشعبية المحقة. يجدر إذاً القيام بمفاوضات صعبة، والادارات الغربية ستعرض بالتأكيد وبكرم، تقديم نصائحها "الجيدة"... بالطبع بشرط مناقشة المسألة الحساسة، أي الاعتراف الرسمي بالدولة الصهيونية... ها قد احكم إغلاق الدائرة. لم يكن بمقدور الحكومات الغربية أن تتأملّ أفضل من التفاوض حول مثل هكذا اتفاق مع أنظمة "منتخبة" ديموقراطياً، لكنها منهارة اقتصادياً.
ــ الكذبة الثانية التي ستحاسب الشعوب حكوماتها عليها، تقع على خلفية قيام الاسلاميين، وبذكاء، بتوجيه الغضب الشعبي حصراً ضدّ جميع الحكام الديكتاتوريين، وضد جماعاتهم (مثلما هو الحال في تونس ومصر)، أو ضدّ خصوصيتهم الاثنية أو الدينية (ليبيا وسوريا أو البحرين)، مع تجنُّب الاضاءة على أسس هذه الحداثة التسليعية التي أنتجتهم وحمتهم. احتيال حقيقي يتمّ من خلاله شخصنة المشكلة أو مذهبتها، وذلك للتهرب من تحديد المسؤول الحقيقي. ولو أنه، مع تضاعُف المجازر وحالات التنكيل الخاضعة للتغطية الاعلامية الشديدة، تحتلّ العواطف بشكل دراماتيكي مرتبة أسمى من التحليل، حتى عند القادة السياسيين والدينيين الأكثر تنوُّراً.