أثار مشروع قانون الميزانية الذي أعدّته وزارة الماليّة التونسية الكثير من الانتقادات، خصوصا لجهة ما اعتبره الكثيرون استهدافا للقدرة الشرائيّة «للطبقة الوسطى» التي قد تتأثر جرّاء الإجراءات الجبائيّة المقترحة، كالآتاوة على السيّارات وتوسيع قاعدة الجباية بفرض آداءات على من يمتلكون مسكنا ثانيا.
أثارت النقطة الأخيرة جدلا واسعا حول أحقيّة من يمتلكون أكثر من منزل بالانتماء للطبقة الوسطى، في ظلّ غياب إحصاءات دقيقة حول الهيكلة الاجتماعيّة وفق توزيع المداخيل والممتلكات، خصوصا أنّ الإحصاءات كثيراً ما خضعت للتلاعب وللتوظيف السياسي تحت حكم بن علي. فقد كشفت وزارة الشؤون الاجتماعيّة مثلا أنّ ربع السكّان تقريبا يعيشون تحت خطّ الفقر، مفنّدة أرقام النظام السّابق الذي حصر الفقر في نسبة 4 في المئة فقط. لكن بعيدا عن جدل الأرقام، فإنّ ما يقوله النقاش الدّائر حول قانون الميزانيّة هو أنّ الطبقة الوسطى تتجاوز المسألة الاجتماعيّة لتصبح رهاناً سياسيّاً تدافع عنه الحكومة كما المعارضة، من دون وجود توافق حول حجمها أو تركيبتها. بهذا المعنى تعيد «الطبقة الوسطى» فرض نفسها محوراً للسّجال كمشروع سياسي تاريخي بالأساس.
الطبقة الوسطى والهندسة الاجتماعية
لم تولد الطبقة الوسطى في تونس كنتيجة طبيعيّة للتنظيم الاقتصادي للمجتمع، بل تكوّنت في إطار هندسة اجتماعيّة لعب فيها القرار السياسي دورا أساسيّا.
دفع توجّه البلاد نحو الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات النظام البورقيبي إلى التفكير في بناء قاعدة اجتماعيّة يرتكز عليها تكون قادرة على منحه نوعا من الاستقرار، خصوصا بعد فشل «تجربة التعاضد» في نهاية الستينيات. كان بناء هذه الطبقة ضروريّا لتمكين الصناعة المحليّة حديثة العهد من سوق داخليّة تتيح لها تسويق إنتاجها. لم تتمّ عملية تكوين هذه الطبقة من فراغ، فهي ارتكزت على وجود صغار التجّار والحرفيين وملاّكي الأرضي وأصحاب المهن الحرّة المتواجدين في تونس، وفي منطقة الساحل أساسا، بالإضافة إلى توسيع فئة صغار الموظّفين عبر تسريع التوظيف في القطاع العمومي.
يعكس هذا القرار السياسي المنطق التحديثي للنظام البورقيبي الذي وضعت على ضوئه سياسات لتطويع الواقع وتشكيل المجتمع. غير ان ّالنجاح النسبي لهذا المشروع لم يكن مردّه قدرة النظام على فرض رؤاه فحسب، بل وجود قوى اجتماعية تبنت عمليّة التحديث هذه على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل الذي اعتمد خطابا مدافعا عن الطبقة الوسطى، لا سيما أن هذه المنظّمة عُرفت تاريخيّا بتحفظّها إزاء مقولات الصراع الطبقي.
تَدَعّم موقف الاتحاد تدريجيّا خلال السبعينيات خصوصا، مع بروز تقارب واضح بين النظام البورقيبي وطبقة رجال الأعمال الذين كانوا في أغلبهم من كبار الموظّفين السابقين في الدولة، الذين استغلوا علاقاتهم لبناء ثروات والدفع إلى مزيد من تحرير الاقتصاد وخفض الأجور.
لعب الخطاب المدافع عن الطبقة الوسطى دورا اساسيّا في إدارة علاقة الاتحاد بالنظام، وجعل الصراع بينهما مضبوطا وفق آليات المزاوجة بين المطلبيّة والتفاوض من جهة، وبين الشراكة الاجتماعية ودعم النفوذ السياسي لاتحاد الشغّالين من جهة ثانية. هذه العلاقة المعقدة جعلت من الطبقة الوسطى رهانا سياسيّا انتهى بالتصادم وبسقوط نظام بورقيبة وتدجين منظّمة الشغيلة.
المسألة: نمو الثروة أم توزيعها
كان لاعتماد برنامج الإصلاح الهيكلي في منتصف الثمانينيات، وما ترتب عليه من دخول البلاد في مرحلة خصخصة الشركات العمومية والضغط على الأجور والنفقات الاجتماعية برعاية تسلطية بن علي، أثرا كبيرا في تعميق التفاوت الاجتماعي وتضخّم الاقتصاد الموازي، الذي أضحى قبلة الباحثين عن العمل وتحصيل مورد رزق خارج الأطر القانونيّة وآليّات الحماية الاجتماعية.
إذ تفيد إحصاءات البنك الدولي أنّ هذا القطاع كان يستوعب 40 في المئة من القوى العاملة في 2002. تراجع دور الدولة لم يمنع نظام بن علي من جعل الخطاب حول دعم الطبقة الوسطى حجر زاوية في بناء مشروعيّته القائمة على المزج بين النموّ الاقتصادي والاستقرار السياسي. كانت الطبقة الوسطى بموجب هذا الخطاب ضمانة الاستقرار السياسي، وصارت معدّلات النموّ دليل نجاح النظام في إدارة الشأن الاقتصادي.
مكّن التركيز على النموّ الاقتصادي من تجاهل مسألة توزيع الثروة وتنامي أعداد المهمّشين الذين تم إقصاؤهم من ثمار هذا النموّ. وفي غياب إحصاءات نزيهة عن حجم الطبقة الوسطى، عمل النظام على إثبات وجوده عبر التلاعب بالأرقام كما حصل في 2007، عندما اعتبر المعهد الوطني للإحصاء في بحثه حول مصاريف العائلات كلّ من يصرف يوميّا 1،6 دينار (1 دولار تقريبا) على الأقل ضمن هذه الطبقة. هذا البحث كان محلّ سخرية وتندّر الصحافة التونسية، رغم القيود التي كانت مسلّطة عليها، خصوصا أنها اعتبرت أنّ عدد الأغنياء يفوق عدد الفقراء في تونس (747 ألف عائلة غنّية و 376 ألف عائلة فقيرة، وهي تُعدّ بهذا المعنى من مسخرات ديكتاتوريّة بن علي).
اقتصاد الدَين ووهم المعجزة الاقتصادية
سعى نظام بن علي إلى التوظيف السياسي للخطاب حول الطبقة الوسطى، بل وجعلها محور سياسات وبرامج مُوجّهة لها، كبرامج السيّارة الشعبيّة والمساكن الشعبيّة والكمبيوتر العائلي.
الواقع أنّ الفئات المتمتعة بنوع من الأمان الوظيفي في القطاعين الحكومي والخاص، وبالتالي بمداخيل منتظمة على قلّتها، هي التي استفادت من هذه القروض الميسّرة. لم يكن الاقتراض حكرا على هذه الفئات، إذ شاركت فيه كل الطبقات بنسب وشروط متفاوتة، إلى درجة بلغت فيها القروض الممنوحة من القطاع البنكي لأغراض استهلاكية 25 في المئة من مجمل القروض، كما تفيد بعض الإحصاءات أن 70 في المئة من الموظّفين مرتهنون لدى البنوك.
لم يقتصر الاقراض على البنوك بل تجاوزه لصناديق الضمان الاجتماعي ولعدد كبير من المشغلين وجمعيّات القروض الصغرى. ونتج عن ذلك سقوط الكثيرين في دوّامة الاقتراض المزدوج الذي يصبح فيه الدَين وسيلة لسداد ديون أخرى.
هذا يعني أنّ الدَين لم يكن مسألة هامشيّة بل هيكليّة، تلعب دورا أساسيّا في تحسين القدرة الشرائية المتدنية وفي ضبط سلوك فئات واسعة من الشعب على إيقاع الأقساط التي يجب سدادها، ممّا يستوجب سلوكا يوميّا مهادنا ملتزما بالطاعة والصمت، ودفع البعض للقول إنّ انتشار القروض كان نوعا من الرشوة قدّمها النظام للطبقة الوسطى.إنّ الحديث عن رشوة الطبقة الوسطى جعل منها ضمنيّا مفتاح التغيير ودمقرطة النظام الذي ورّطها في الاقتراض لتفادي مطالبتها بحقوقها السياسيّة.
علاوة على أنّ هذا الطرح يجعل من هذه الطبقة مفعولا بها. والحال أنها شاركت بصفة فاعلة واستفادت من الاقتراض، فإنه يحمل مغالطة كبرى. فلقد أثبتت التجربة الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا، وكذلك المثال الصيني حديثا، أنّ الطبقة الوسطى لا تحمل بالضرورة مشروع تغيير وإصلاح تدريجي للنظام، وأنها في كثير من التجارب تبدو مهووسة بإشباع رغباتها في الاستهلاك وتحسين ظروف عيشها أو بحماية نفسها من «غوغائية» الطبقات الشعبيّة، مشكّلة بذلك صمّام أمان للكثير من الأنظمة الديكتاتوريّة.
تلعب الطبقة الوسطى بهذا المعنى دور المنطقة العازلة بين الطبقة المفقرة والغنيّة، مساهِمة بذلك في استيعاب التوترات والتقليص من حدّة التجاذبات، وتؤدّي في النهاية إلى تمييع الصراع داخل المجتمع حول مسألة العدالة الاجتماعية وعزله داخل منطقة رخوة في مكان ما في وسط الهرم السكّاني.
من هنا نفهم تسابق الفرقاء السياسيين بمختلف أطيافهم بعد الثورة للدفاع عن الطبقة الوسطى، متناسين الطبقات الضعيفة والمهمّشة ومهملين لها، وهذا كان محرّكاً للانتفاضة ضدّ بن علي، قاطعين بذلك الطريق على تجذير المطالب الاجتماعية، وحصَرها في حدود تُحدّدها الحسابات السياسية ومقتضيات الديموقراطية التمثيلية. هكذا يغيب حقّ كل مواطن في الشغل من دستور ثورة قامت أساسا على المطالبة بهذا الحق.
الجباية والمسألة الإجتماعيّة
في الواقع، فإنّ المسكوت عنه في السّجال السياسي الحالي حول الطبقة الوسطى وضرورة عدم إثقال كاهلها بالضرائب، هو من سيتحمّل العبء الجبائي لتمويل عجز الميزانية والحدّ من تفاقم الدين الذي سيبلغ سنة 2014 نصف الناتج الداخلي الخام تقريبا.
بعبارة أخرى، فإنّ العدالة الجبائية هي الغائب الأبرز في الحوار السياسي اليوم في تونس. إنّ الانتقادات التي وُجّهت لمشروع الميزانية من طرف أرباب العمل «الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والحرف التقليدية» ومنظمة الشغيلة «الاتحاد العام التونسي للشغل» وجزء كبير من الأحزاب السياسية، مردّه فشل الترويكا الحاكمة طوال الفترة السابقة في خلق حوار يؤسّس لوفاق تاريخي بين مختلف الفئات، يضع الضريبة في قلب المسألة الاجتماعية.
من الأكيد أن تونس تحتاج اليوم إلى إعادة النظر في آليات خلق الثروة، وإلى ثورة في توزيعها. فالضريبة ليست بالضرورة عبئا تتهرّب منه الطبقات الميسورة بكل الوسائل القانونية وغير القانونية، بل هو دين لها تجاه المجتمع الذي ساهم في مراكمتها وحمايتها. الضريبة بهذا المعنى هي وسيلة من وسائل توزيع الثروة، واعتراف من يراكمها بأنّ هذه الأخيرة ما كانت لتكون لولا الإطار الاجتماعي الذي سمح بوجودها وحمايتها.
وفي بلد تبلغ نسبة التهرّب الضريبي فيه قرابة 50 في المئة، لم تجرؤ حكومة الترويكا على رفع السرية البنكية وتمكين الرقابة المالية من تعقّب الأموال المشبوهة ومكافحة التهرب الضريبي. إجراء كهذا كفيل بإيجاد مداخيل إضافية تخفف من وطأة الَدين، بما هو إفقار للطبقات الضعيفة ومصادرة لحقها في مستقبل أفضل.