طوت تونس صفحة من صفحات الانتقال الديموقراطي، حين تمّ الإعلان عن تبنّي الدستور الجديد في كانون الثاني/يناير الماضي، الذي انسحبت على إثره حكومة الائتلاف الثلاثي بقيادة الإسلاميين لمصلحة تولّي حكومة من الكفاءات المستقلّة مهمة إدارة شؤون البلاد حتّى الانتخابات المقبلة. إلاّ أنّه لا يجوز المرور سريعا على هذه الفترة التّي هيكلت المشهد السياسي التونسي، خصوصاً لجهة صعود حركة النهضة الإسلاميّة إلى السلطة وتحالفها مع أحزاب علمانيّة في مقابل تكتّل جزء هام من الأحزاب المعارضة حول حركة "نداء تونس" التّي أعادت تجميع أجزاء واسعة من شبكات النظام القديم. فقد برز استقطاب ثنائي حادّ داخل المشهد السياسي لعبت ظاهرة ما يسميه التونسيون "المناولة السياسيّة"، (وهي معادل "التلزيم السياسي)، دورا أساسيّا في إذكائه. التلزيم في السياسة كما في الاقتصاد يقوم على توزيع الأدوار بين أحزاب كبرى تضطلع بأدوار رئيسيّة بينما تُعطى للأحزاب السياسيّة التّي حالفتها أدواراً ثانويّة مقابل المشاركة في السلطة، وفي مغانمها في الحاضر او المستقبل.
السرديّة الكبرى لتحالف المعتدلين الإسلاميين والعلمانيين
لم تكن تحالف حركة النهضة مع حزبي "المؤتمر من اجل الجمهوريّة" و"التكتّل الديموقراطي للعمل والحريّات" مجرّد تحالف أملته الضرورة بحكم النتائج التّي أفرزتها صناديق الاقتراع في انتخابات المجلس الوطني التاسيسي، خاصّة أنّ الإسلاميين لم يحصلوا على الأغلبيّة الكافيّة ليحكموا وحدهم (نالوا 42 في المئة من المقاعد). فقد حرصت حركة النهضة على وضع هذا الائتلاف في إطار سرديّة كبرى للانتقال الديموقراطي، تقوم على "تحالف الإسلاميين المعتدلين والعلمانيين المعتدلين". استطاعت النهضة تسويق هذا التحالف، خصوصا في الخارج، كتجربة عمليّة قادرة على تجاوز الانقسام الذي طالما عانت منه الطبقة السياسيّة بين من يقبل بإدماج الإسلاميين في اللعبة السياسيّة وبين من يُقصيهم ويرفض التعامل معهم، مستندا في ذلك إلى ضرورة الدفاع عن النموذج المجتمعي الحداثي. في الواقع، عكست تجربة الترويكا براغماتيّة الإسلاميين وإدراكهم لأهميّة الحصول على الدعم الخارجي، سياسيّا كان أم اقتصاديا، عن طريق إعطاء ضمانات عبر التحالف مع هذه الأحزاب العلمانيّة، وكذلك حرصهم على تكوين درع تمنحهم هامشا للمناورة ولتوزيع الأدوار، وتقيهم من هجمات معارضيهم، سواء تعلّق الأمر بخياراتهم السياسيّة أم بغموض مرجعيّتهم الفكريّة. لعبت مقولة "تحالف الإسلاميين المعتدلين والعلمانيين المعتدلين" دورا أساسيّا في ترويج صورة تونس "التلميذ النجيب" القادر على موائمة الإسلام و الديموقراطيّة، في استعادة لمساعي نظام بن علي إلى تسويق نموذج تونس "التلميذ النجيب" للمؤسّسات المالية العالميّة، القادر على التكيّف مع شروطها المجحفة والإيفاء بتعهّداته إزاءها. يعلم الإسلاميّون جيّدا أنّ تسويق نموذج هكذا يعني الإقرار ضمنيّا بمركزيّة الحضارة الغربيّة واطلاقيّة قيمها، لكنّهم يعون جيّدا أيضا انّ التبعيّة هي ثمن التمكين أو على الأقلّ ثمن تطبيع وجودهم كقوّة سياسيّة مراهنة على حكم البلد في السنوات القادمة. في المقابل وجدت قيادات "المؤتمر" و"التكتّل" في المشاركة في السلطة فرصة لتقوية موارد أحزابها، والتمكّن من مواقع سياسيّة واجتماعية ظلّوا طويلا مقصيين منها. وهما استماتا في الدفاع عن حليفهما الأكبر، ضدّ مصلحتهما أحيانا كما فعل حزب المؤتمر عندما هاجم المعارضة التّي طالبت بتوسيع صلاحيّات رئيس الدولة لضمان نوع من التوازن على رأس السلطة التنفيذيّة (وكان الحزب يحتل موقع الرئاسة)، وكذلك ضدّ مبادئ الديموقراطيّة الاجتماعية التّي دافعا عنها في حملتهما الانتخابيّة عندما دعما الخيارات الاجتماعية والاقتصادية المجحفة التّي تبنّتها حكومتا الترويكا، خصوصا في علاقة ذلك بتفاقم المديونيّة وغياب الإصلاح الضريبي، وفي مهادنة رموز وشبكات الفساد... وهو ما دفع محمّد عبّو الوزير المكلّف بالإصلاح الإداري إلى الاستقالة من الحكومة الأولى التّي ترأّسها حمّادي الجبالي، والانسحاب في ما بعد من حزب المؤتمر احتجاجا على ارتهان قراره لحليفه الأكبر.
تصدّع الأحزاب العلمانيّة المشاركة في الترويكا قابله تماسك حركة النهضة التّي وجدت في هذا الائتلاف الحكومي فرصة لتجاوز التناقضات السياسيّة التّي كان محورها موقفها من استحقاقات الثورة. فلقد وضعت تجربة السلطة حركة النهضة على المحكّ، خصوصا انّ حسابات السياسة وموازين القوى دفعتها لتقديم تنازلات كان أبرزها الدخول في مواجهة مع السلفيين عقب أحداث السفارة الأميركيّة، والتبرّؤ من ميليشيات روابط حماية الثورة بعد اغتيال شكري بلعيد، بالإضافة إلى القبول بالحوار الوطني عقب اغتيال محمّد البراهمي. المفارقة أنّ حزب المؤتمر سعى في كلّ مرّة إلى رفع سقف المطالب عبر رفض حلّ جماعات حماية الثورة، ورفض المشاركة في الحوار الوطني رغم ما نجم عن هذا القرار من تهميش لموقع رئاسة الجمهوريّة في مرحلة مفصليّة من الانتقال الديموقراطي.
سعت قيادة حركة النهضة إلى التذرّع باكراهات السياسة لتبرير خياراتها وامتصاص غضب قواعدها، فيما كان حليفها حزب المؤتمر يلعب دور "مخلب القطّ" لحليفه الإسلامي في إطار توزيع الأدوار مقابل ما حصلت عليه قيادته من مواقع ومناصب، غير مكترثة بانعكاسات هذه المواقف على شعبيته وعلى تماسكه بعد ان توالت الانشقاقات في صفوفه. في الواقع، يعكس التذرّع باكراهات السياسة في خطاب الإسلاميين تنامي الحسّ البراغماتي والنزعة الواقعيّة التّي جعلت النهضة تنخرط في التسويّات وبناء التوافقات التّي تحكمها حسابات الربح والخسارة، وسعيها إلى التوجّه إلى جمهور عريض من الناخبين يتجاوز قواعدها التقليديّة. خروج النهضة من الأزمات التي اعترضتها في الحكم تمّ في جانب كبير بدفع حلفائها الى تبني المسائل الخلافيّة والمواقف القصوويّة، للظهور بمظهر الحزب الوطني المسؤول، الباحث عن الاعتدال والتوافق.
لم تكن الترويكا وليدة تموقع انتهازي غير مبدئي بالكامل، خاصّة وأنّ عمليّة إدماج الإسلاميين في المشهد السياسي كانت بدأت منذ تحرّكات ما يُعرف بـ"18 أكتوبر 2005" وهو تحالف نشأ وقتها في إطار رصّ المعارضة لصفوفها لمقاومة ديكتاتوريّة بن علي، على الرغم من أنّ مصطفى بن جعفر وحزبه كانا رفضا الانخراط في هذا التحالف آنذاك، باعتباره يرفع سقف المواجهة مع النظام إلى مستويات يصعب تحمّل تبعاتها. كما أنّ الترويكا ليست تحالفا بين أنداد حول برامج أو رؤى سياسيّة متقاربة، لأنّ النتائج التّي خرجت من صناديق الاقتراع أثبتت الأوزان المتفاوتة للأحزاب المتحالفة، لأنّ أدبيات ومرجعيّات هذه الأحزاب مختلفة تماما. كانت الترويكا في الواقع تجمّعا غير متكافئ وخاضع لعلاقة تلزيم أشبه بالعلاقة الزبونيّة التّي كان الإسلاميّون محورها، والتّي حدّدتها مجموعة عوامل أهمّها حسابات المرحلة والطموحات الشخصيّة لقيادات هذه الأحزاب وأطماع المشاركة في غنيمة السلطة. بهذا المعنى شارك "المناولون" (أو اللزّامون) حركة النهضة الحكومة ولم يشاركوها الحكم. كانت قلب الرحى وكانوا أوراقا تعيد توزيعها وفق مقتضيات اللّحظة السياسيّة. وفي اللّحظة التّي تمرّد فيها حزب التكتّل بإعلان زعيمه مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي تجميد أعمال المجلس ليضغط على حركة النهضة ويُجبرها على الجلوس إلى مائدة الحوار، كانت الترويكا قد انتهت، ووقعت على إعلان خروجها من السلطة معلنة دخول المرحلة الانتقاليّة في فصل جديد.
أزمة الأحزاب المعارضة للديكتاتوريّة
لم يكن "التلزيم" السياسي حكرا على الأحزاب المشاركة في السلطة، فلقد انخرطت فيه أحزاب طامحة في افتكاك السلطة، مساهمة بذلك في تدعيم الاستقطاب الثنائي الذّي عرفته السّاحة السياسيّة منذ صعود الترويكا للحكم. كان هذا حال الحزب الجمهوري بقيادة احمد نجيب الشّابي، والجبهة الشعبيّة بقيادة أمينها العّام حمّة الهمّامي، اللذّين تحالفا مع "حركة نداء تونس" في إطار جبهة الإنقاذ، مساهمين بذلك في فكّ العزلة عن نظام بن علي السّابق، وفي تطبيع وجوده داخل المشهد السيّاسي بإسم الدفاع عن الحداثة والتصدّي لتغوّل حركة النهضة التّي تعمل على تدعيم سيطرتها على مفاصل الدولة. احاطت "حركة نداء تونس" نفسها بحلفائها الجدد وعاد الإسلاميّون ليكونوا محور الفرز بدلا من تفكيك منظومة الفساد والاستبداد، وعلى حساب ذلك. كانت المحصّلة احتدام الصراع "بين من لا مشروع له إلاّ البقاء في السلطة، ومن لا مشروع له إلاّ العودة إليها بصرف النظر عن ديباجات التديّن لدى هذا الطرف وديباجات الحداثة لدى الطرف الآخر، في مقابل تراجع قوى الثورة وشعاراتها"، كما يقول محمّد الحامدي أمين عامّ "التحالف الديموقراطي" الرّافض لهذا الاستقطاب بين حزبين يمينيين، والذّي طالما كانت الأحزاب الوسطيّة واليساريّة وقوده في إطار لعبة التلزيم.
برز التلزيم السياسي إذاً كنتيجة حتميّة لاحتدام الصراع على السلطة وعلى مغانمها بين أحزاب لا تملك برامج لإخراج البلد من أزمته، ولا امتدادا شعبيّا يُمكّنها من الوصول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، ولكنّها في المقابل تسعى إلى جني ثمار وجودها في السّاحة السياسيّة بعد ان عاشت طويلا في المعارضة بل وفي مقاومة الديكتاتوريّة. المفارقة انّ سقوط الديكتاتوريّة كان في الواقع إيذانا بانتهاء صلاحيّة هذه الأحزاب لتفسح المجال امام ظهور قوى قادرة على صياغة البرامج وعلى البناء. لم تُغيّر هذه الأحزاب بنيتها ولا قيادتها، وفي كثير من الأحيان لم تُغيّر حتّى خطابها. و كان انخراطها في سوق التلزيم السياسي بالتّالي أمرا حتميّا. فقدانها للعمق الشعبي وللحيويّة وللاستثمار في المستقبل جعلها تستعجل حصد المغانم، وتعود بالزمن السيّاسي في البلد الى الماضي، مستحضرة نضالاتها السابقة ضدّ الاستبداد تارة وضد الفرز على أساس هوياتي طورا. كانت هذه الأحزاب رهينة الزمن البائد (والعهد البائد)، وفشلت في التحوّل لأحزاب تمتلك مضامين ومشاريع للمستقبل لينتهي بها الأمر في سوق التلزيم متقمّصة أدوارا مصطنعة كحماية البلاد من ديكتاتوريّة دينيّة ناشئة ("الجبهة الشعبيّة" و"الحزب الجمهوري") لتبرير تحالفها مع "نداء تونس"، أو حماية البلاد من عودة الاستبداد القديم ("المؤتمر من اجل الجمهوريّة"). هكذا تضع فترة الانتقال الديموقراطي الأحزاب والمشاريع ومستقبل السياسيين على المحكّ، كمرحلة حرجة يكون الفشل فيها مكلفا جدّا.