اختُزل الفساد الذي عرفته تونس طوال حكم بن علي في سطوة العائلات المتنفّذة المحيطة بالرئيس، واعتقد كثيرون أنّ دولة الفساد ستنتهي بنهاية تلك الطغمة الحاكمة. كان لهذا الاختزال دور هام في شخصنة الظاهرة، وفي انتشار نظرة تبسيطية تحصر تناول الفساد في إطار مقاربة أخلاقية وقانونية تؤدّي بالضرورة إلى تجاهل ارتباطه الوثيق بالاقتصاد السياسي للسلطة، وآليات عمل الدولة التي أعادت إنتاجه خلال الفترة الانتقالية.
الدولة تَنْهب وتُنْهب
يُعرّف الفساد على أنّه سوء استغلال السُلطة لتحقيق مكاسب شخصيّة. تبرز من خلال هذا التعريف الآلية الأساسية للفساد، وهي تداخُل العام بالخاص، التي تُفهم بالعودة للإطار التاريخي لعلاقة الحاكم بالمحكوم. ثمّة عبارة يستعملها التونسيون للدلالة على سطوة المصالح والأهواء الشخصيّة على المال العام، هي «رزق البيليك» يرمز الرزق هنا بصفة عامّة إلى أملاك البايات وإقطاعاتهم وعائدات ممتلكاتهم. تُحيل هذه العبارة في المخيال الشعبي التونسي إلى تعامل الحاكم مع الدولة على كونها ملكاً خاصّاً يستغلّه كما يشاء، ويُقطعه ويُفرّط فيه لمن يشاء من أعوانه وأفراد حاشيته، وفق اعتبارات الولاء والطاعة وشراء الذمم. كما أنه يستولي على أملاك معارضيه وخصومه ويحكم عليهم بالفقر والإذلال. تطوّر هذا التصوّر للسلطة في المخيال الشعبي من خلال معايشة النّاس للممارسات الاعتباطيّة والتعسّفيّة للحاكم وأعوانه على مدى قرون، قامت أساساً على نهب أموال الرعيّة واستباحة أرزاقها. فقدت بذلك الجباية مشروعيتها وصارت ضرباً من النهب المنظّم الذي جابهه النّاس بمختلف أنواع التهرّب والإفلات من الضرائب والاستيلاء على مقدّرات الدولة متى أمكن لهم ذلك. هكذا صار المال العام أشبه بغنيمة يكون الصراع حولها هو المحدِّد لعلاقة الحاكم بالمحكوم.
فمع انتهاء القرصنة في البحر الأبيض المتوسّط وتراجع تجارة الرقيق في القرن الثامن عشر، فقد البايات موارد هامّة لإحكام قبضتهم على البلاد، ممّا دفعهم للانكفاء على الداخل ولاستنزاف الرعيّة عبر مراقبة المحاصيل ومصادرة الإنتاج الفلاحي وإثقال كاهل القبائل بالضرائب. كان لهذا التحوّل في الأسس المادية للهيمنة تأثير كبير في تعاظم نفوذ أعوان الباي المُكلّفين بالجباية، الذين سعوا لإثبات ولائهم للحاكم عبر ملء خزائنه وانتهاز الفرصة للإثراء على المستوى الشخصي عن طريق فرض الإتاوات وابتزاز الرعيّة.
تعاظُمْ الضغط الجبائي تزامن مع ارتفاع نهب المال العام وازدياد الاستدانة الخارجية تحت مسمّى ضرورة الإنفاق على تحديث الدولة. الواقع أنّ عمليّة الإصلاح والتحديث أدّت إلى ارتهان الدولة للدوائر المالية العالميّة المُقرضة، وإلى دعم محاولات البايات لبسط نفوذهم عبر الحملات العسكريّة لإخضاع القبائل الرافضة للجباية. ولم يكن لإدارة منكبّة على نهب الرعيّة أن تنجح في تغيير الأوضاع. الحقيقة أنّ عمليّة الإصلاح الفوقي والمتعالي كانت مدخلاً لبناء بيروقراطية تستنزف المال العام وتُمهّدُ للتدخّل الأجنبي ومن ثُمّ الاحتلال الفرنسي. نجح هذا الأخير في إحكام السيطرة الأمنية والرقابة على المجال الجغرافي وعلى تحرّكات المجموعات البشريّة، وفي ظلّه توسّع نفوذ الأعوان المكلّفين بالجباية، الذين صارت لديهم سلطة مطلقة للعقاب ولابتزاز القبائل ونهب خيراتها لمصلحة المستعمر ولمصلحتهم الخاصة. وترسّخ تدريجيّاً اعتقاد واسع أنّ الدولة كجهاز حكم وهيمنة على المجتمع هي في النهاية وسيلة للضبط والسيطرة والاستقطاع من العامّة وتوزيع الغنائم على الخاصّة. بهذا المعنى هي تَنهَب و تُنهَب.
لم يُغيّر الاستقلال آليّات الحكم بصفة جذريّة، بل بالعكس. تغيّرت النخبة الحاكمة ولم تتغيّر الممارسات، إلى درجة اعتراف أحمد بن صالح رئيس الحكومة وصاحب مشروع التعاضد في الستّينيات، بأنّ النخب الحاكمة الجديدة تعاملت مع الاستقلال على أنه «زردة»، أي وليمة تُنصبُ عادة لزُوّار ومريدي الأولياء الصالحين. رافق بناء دولة الاستقلال تضخّم الأجهزة البيروقراطية، خصوصاً وقد صار الدخول للوظيفة العمومية رديفاً للأمان الوظيفي والترقّي الاجتماعي.
دفع استفحال الأزمة وتردّي الأوضاع المعيشيّة التي تلت برنامج الإصلاح الهيكلي في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي الموظّفين إلى التعامل مع الوظيفة العموميّة بمنطق الريع. كان ثمن قبولهم برواتب متدنية نسبيّاً وظروف عمل متواضعة هو إطلاق ذراعهم لتحصيل مكاسب شخصيّة وللإثراء غير المشروع. ثمّة حكاية تلخّص تحرّر الدولة من ضوابط القانون وشيوع منطق الغنيمة، إذ يُحكى أنّ الرئيس السابق بن علي أجاب وزيراً أتى يشكو له تململ أجهزة الأمن من تدنّي المرتّبات، بأن ليس لديه ما يُعطيهم إيّاه، لذا «فعليكم بالطريق» أي عليهم ابتزاز العامة بتسطير محاضر ومخالفات ملفّقة. وبغضّ النظر عن صحّة هذه الرواية، فهي لا تعكس مباركة رأس الدولة للفساد فحسب، بل اقتناعاً واسعاً لدى عموم النّاس بأنّه صار شرطاً من شروط عمل واستمرار الدولة، بموجبه يصبح التموضع داخل أجهزتها مصدر رزق وتكسّب عبر استغلال النفوذ. بهذا المعنى، يبرز الفساد كأحد ميكانيزمات تجديد وتوطيد الولاء داخل جهاز الدولة. وعليه، فإنّ تناول الفساد كسلوك منحرف وغير سويّ في إطار مقاربة أخلاقوية، يهمل تداخله التاريخي مع آليّات الحكم والهيمنة وضمان تواصل سطوة الدولة. والقاعدة أن الدولة لا تحرص على الشفافية والأخلاق وإنّما على فرض النّظام بكلّ الوسائل.
تنافس «العائلات» والشرطة
تفاقَم نفوذ البيروقراطية الأمنية خاصّة مع انتشار التهريب والاقتصاد الموازي، وتزايَد عدد الباحثين عن غطاء لأنشطتهم وحماية من داخل الدولة ضد تطبيق القانون. وصارت الحماية واستغلال النفوذ أنشطة مُربحة للغاية، إلى درجة أصبحت فيها التعيينات والترقيات داخل أجهزة الأمن والجمارك تخضع لسوق المضاربات والمزايدات، إذ يشتري الضبّاط مناصبهم ويدفعون لمن يقوم بتعيينهم في الموانئ أو في إحدى البوّابات أو المناطق الحدودية. المبالغ المدفوعة على هذه الشاكلة كانت على أية حال استثماراً مضموناً، إذ يتم استرجاع أضعافها بعد بضعة أشهر من العمل وتوفير الحماية للمهرّبين. وهذا الاستثمار لم يكن حكراً على موظّفي الدولة، إذ أنّ كثيرين من كبار المهرّبين لم يتوانوا عن دفع مبالغ كبيرة لتعيين أبنائهم في سلك الجمارك نفسه. هكذا صارت الدولة أضمن صناديق الاستثمار خصوصاً أنّها فسحت المجال للمصالح الشخصية وللجماعات المتنفّذة لتأمين أنشطتها.
ابتداء من أواخر التسعينيات، لم تعد الأجهزة الأمنية تنشط وحدها في سوق الحماية وسمسرة النفوذ، إذ كان لدخول عائلة الرئيس بن علي وأصهاره دور هام في تأمين مرتكبي جرائم التهرّب الضريبي، والراغبين في الحصول على قروض بنكيّة دون ضمانات، وتوفير غطاء لعمليّات التوريد غير القانونية، والتهرّب من دفع الرسوم الجمركيّة. تمكّنت هذه العائلات من السيطرة على قطاعات هامّة، بالترغيب حيناً وبالترهيب أحياناً، وصارت بالتالي توفّر الحماية للخارجين عن القانون ضدّ تسلّط كبار المسؤولين وابتزازهم. وصارت هذه العائلات تنافس هؤلاء في سوق حماية الأنشطة غير القانونية، خصوصاً عبر التدخّل في التسميات والتعيينات، وإقصاء الموظّفين غير المتعاونين مع وكلائهم. أدّى ذلك إلى إقبال العديد من المهربين ورجال الأعمال على هذه العائلات التي تضمن تحييد الشرطة والجمارك، إلى درجة صارت معها الجرائم الاقتصادية أمراً عادياً يخضع للتفاوض ولمنطق العمولة. وهذا يفسر ارتفاع نسبة التهرّب الضريبي إلى 50 في المئة من مجموع الإيرادات المالية للدولة، وكذلك القروض غير المضمونة إلى 20 في المئة من مجمل القروض في القطاع البنكي، وهو ما استفادت منه بورجوازية طفيلية راكمت الثروة عبر نهب المال العام وإغراق البلد في دوّامة المديونيّة.
إعادة إنتاج منطق الغنيمة
ساد الاعتقاد بعد الثورة أن الفساد سيزول بزوال الطغمة الحاكمة. إلا أنّ انتشار الرشوة أحبط هذا الاعتقاد. يبرز هذا بصفة جليّة في البوابات الحدودية وفي ميناء رادس حيث تنشطُ شبكات توريد السيّارات المستعملة التي يرتكز نشاطها على التلاعب بالقانون إذ يجيز هذا للتونسيين المقيمين بالخارج لمدّة لا تقلّ عن سنتين ولا يزيد عمرها عن خمس سنوات. تلعب ضبابية القوانين دوراً هاماً في فسح المجال أمام الممارسات الارتشائية لتسهيل الإجراءات وضمان مطابقة المُهاجر للشروط القانونية المجحفة والمعقّدة كافة. انتشرت الرشوة في صفوف الرتباء وصغار الضباط الذين أضحوا يطالبون بنصيبهم من الكعكة التي طالما استحوذ عليها كبار الضباط والعائلات الحاكمة، فيما كانوا في الماضي يختارون الصمت والقبول بالفتات. هذا ما دفع أحد المهرّبين إلى القول إنّ «التوريد صار مكلفاً بعد الثورة أكثر من ذي قبل، إذ يبدو أن الجميع يريد أن يأكل».
ويمكن الجزم أن المطالبة بنصيب من الكعكة الوطنية هي أكثر الأشياء ديموقراطية بعد الثورة. فلقد شاهدنا في مدن تونسية عدة خلال الأشهر الأولى بعد الإطاحة ببن علي، مواطنين يستولون على أجزاء من المجال العام ليُلحقوها بممتلكاتهم الخاصة. كما تعالت الأصوات في قطاعات كثيرة مطالبة بالزيادة في الأجور والامتيازات، ووصل الأمر بموظّفين في بعض القطاعات إلى المطالبة بتخصيص وظائف لأبنائهم في تفعيل واضح للتصوّر الريعي للوظيفة العمومية التي يراد لها أن تعمل بالوراثة عوضاً عن الكفاءة.
لغياب المساءلة لآليات الفساد خلال المرحلة الانتقالية دور أساسي في إعادة إنتاجه، مع إعادة توزيع السلطة داخل جهاز الدولة وما نتج عنه من إضعاف لمراكز القوى القديمة التي آثرت الانكفاء وانتظار مرور العاصفة في مقابل تصميم صغار الموظّفين على تحسين أوضاعهم المعيشية بكل الطرق، الشرعية وغير الشرعية. غياب المساءلة يعود أساساً إلى قصور القوى السياسية الصاعدة، وإلى طبيعة المرحلة التي تسعى فيها هذه القوى للسيطرة على المواقع ولوراثة النظام السابق عبر تحييد و/أو استمالة رجالاته وشبكاته وإعادة تفعيل آليات حكمه. ترتفع الدعوات من الداخل والخارج للإصلاح والقضاء على الفساد، وتوضع الخُطط من قبل الوزارات والمنظمات الدولية للتوعية، فيما تتعامل النخب الجديدة كسابقاتها بمنطق الغنيمة نفسه، من خلال التعيينات والمحاصصة الحزبية. الواقع أنّ محاربة الفساد تقتضي أن تُفكّك قُوى الثورة خطاب الدولة وأن تنظر للفساد كآلية حكم وهيمنة حتّى لا يصبح «الإصلاح» وسيلة التفاف وإعادة إنتاج للفساد عبر جعله ظاهرة تقنية أو أخلاقية أو قانونية محضة. فالمسألة المركزية التي تحدد طبيعة السياسة نفسها هي صياغة علاقة الحاكم بالمحكوم.
وعندما يُصرّ جزء هام من الشعب على أن لا شيء تغيّر منذ رحيل بن علي، فذلك يعني أن الثورة بصدد التحوّل تدريجياً من مشروع تغيير إلى عمليّة استبدال لنُخب بأخرى، مع الإبقاء على آليات الحكم نفسها.