ثمة اعتقاد واسع في كل مكان بأن ما يقال له الاقتصاد الموازي معزول كلياً عن الاقتصاد المهيّكل، أو الرسمي أو الشرعي الخ... وأن انتشاره خلال العقدين الأخيرين في تونس مثلاً، مرده عجز النظام عن إيجاد بدائل اقتصادية في ظل احتدام المنافسة العالمية. غير أنه من الضروري قراءة ازدهار هذه الأنشطة غير المهيكلة في إطار الاقتصاد السياسي للسلطة في تونس، فهو ليس خارجاً عن ذلك الاطار ولا هو نقيضه، وكذلك قراءته بعلاقته مع الخيارات السياسية والتوازنات التي قام عليها نظام بن علي.
تفاقم أزمة نموذج التنمية وإتسّاع الهوامش
إن انتشار الأنشطة الاقتصادية غير القانونيّة، كالتهريب والتجارة الحدودية غير المسجّلة والقائمة على التهرب من دفع الرسوم الجمركية الخ... هو نتاج طبيعي لأزمة نموذج التنمية المعتمد منذ سبعينيات القرن الماضي. وهي أزمة لم تكن خافية على نظام بن علي، إذ تفيد دراسة أعدتها وزارة التكوين المهني والتشغيل في 2008، بالتعاون مع البنك الدولي، أن تونس تسجل سنوياً دخول 140.000 عامل لسوق الشغل، أغلبهم من الحاصلين على شهادات جامعية، في حين أن الاقتصاد التونسي غير قادر على خلق سوى 60.000 إلى 65.000 مركز شغل سنوياً. وأكدت هذه الدراسة أن العجز هيكلي، وهو ليس ابداً ظرفيا، إذ يتعين تحقيق معدل نمو سنوي يناهز الـ 10في المئة حتى تستطيع الحكومة السيطرة على تفاقم مشكلة البطالة، وهو ما لا يمكن تحقيقه بالنظر إلى تركيبة الاقتصاد التونسي القائم أساسا على السياحة زهيدة الكلفة، وعلى الصناعات التصديرية والتجميعية ذات المحتوى التكنولوجي الضعيف والمشغِّلة خصوصا لليد العاملة غير المتعلمة. تفاقم أزمة التشغيل في العقد الأخير خصوصاً، كان أيضا نتيجة لتسارع وتيرة الخصخصة، بالنظر لازدياد حاجة الدولة للعملة الصعبة، وتزايد معدلات الدين، مما أدى إلى تنامي أعداد المسرّحين من الشركات العمومية.
هذه الأزمة كانت وراء اتساع رقعة الاقتصاد الموازي، بانتشار ما يعرف بأسواق ليبيا وتنشيط حركة تهريب المحروقات على الحدود الليبية التونسية التي يناهز طولها 500 كلم، إضافة إلى تنامي دور شبكات نقل وتوزيع البضائع انطلاقا من الأسواق الحدودية بمدينتي بن قردان ومدنين في الجنوب التونسي، مرورا بسوق مدينة الجم ومساكن في الوسط، وصولا إلى أسواق سيدي بومنديل وسوق المنصف باي بتونس العاصمة. استغل رهط من الوصوليين هذه الأنشطة ليكوّنوا ثروات وليقفزوا إلى قمّة الهرم الاجتماعي، فيما وجدت الغالبيّة الكبرى في اختلاف النظم الجبائيّة على الحدود التونسيّة ـ الليبية، وفي تباين أسعار الصرف، وتغيّر الطلب بحسب المناطق والمواسم، فرصة لتحقيق أرباح صغيرة تكفيهم مشقّة العوز. ازدهر هذا الاقتصاد تدريجيا ليصير أحد مراكز خلق الثروة وأحد أهم القطاعات المشغلة، إذ ومنذ مطلع الألفية الثالثة، راح يستوعب 40 في المئة من القوى العاملة، ويمثل 38 في المئة من الناتج الوطني الخام، وفق دراسة نشرها البنك الدولي في سنة 2002.
وهم انفصال الاقتصاد الموازي عن المهيكل
تثبت هذه النسب الرسمية أن الأنشطة التي نشأت على هامش القانون لم تعد هامشية بالنظر إلى وزنها الاقتصادي. فعلاوة على الكميات الهامة من المحروقات المهربة من ليبيا والتي تصل إلى حدود 100.000 ليتر يوميا، فإن شبكات الاقتصاد الموازي تزوِّد قطاعات هامة من الاقتصاد المهيكل، كالمحلات والأسواق الكبرى بشتى أنواع البضائع الصينية التي هي في متناول المقدرة الشرائية للطبقات الوسطى والفقيرة. إضافة إلى ذلك، فإن الأرباح والثروات التي جناها رجال الأعمال و المهرّبين غالبا ما يقع توظيفها في القطاع البنكي الذي يستعمل في تبييض الأموال المتأتية من تلك الأنشطة، عبر استثمارها في المضاربة العقارية، وفي تمويل عمليّات التوريد القائمة على ما يعرف بتقنية الفوترة الوهميّة (Facturation creative). ويتجلى هذا التداخل الوثيق بين الاقتصادين الموازي والمهيكل في دور محلات تجارة العملة على الحدود التونسيّة ـ الليبية. إذ تؤمن سوق العملة الموازية هذه صرف الدينارين اللّيبي والتونسي، وتساهم بالتّالي في تيسير المبادلات بين البلدين وفي تحرير الفاعلين الاقتصاديين، سواء كانوا تجّارا أم سيّاحا، من الشروط القانونيّة الي تقيّد عمليّة الصرف. تنتشر هذه المحلاّت بكثافة على طول الطريق المؤدية إلى معبر رأس جدير، وهي تساهم كذلك في صرف تحويلات التونسيين المقيمين بالخارج من العملة الصعبة، التي يقع توظيف جزء منها في تمويل عمليّات استيراد بضائع للسوق المحليّة.
إنّ اندماج الأنشطة غير القانونيّة في الاقتصاد الوطني يثبت سطحيّة النظريّات المبنية على الفصل بين الاقتصادين الموازي والمهيكل، والتي تقوم أساسا على تبنّي فكر الدولة وطريقتها في تصنيف الأنشطة البشريّة وفق قوانين ونظم وإحصائيات لا تعكس بالضرورة حقيقة الديناميكيّات الاقتصادية والاجتماعية على أرض الواقع. إنّ استعمال مصطلح "الاقتصاد الموازي" يعكس عدم اعتراف الدولة بهذه الأنشطة رغم انتشارها، ورغم أنها مورد رزق مشروع في نظر العاملين بها. بهذا المعنى يصبح هذا الاقتصاد غير المسجّل وغير القانوني ملغى من دفاتر الدولة، ومداناً. وتلوح بالتالي خلف المصطلحات التقنية معركة قوامها "المشروعية" بين دولة تريد احتكار المعنى كمدخل للتسلّط والهيمنة، ومواطنين يفرضون على الأرض أمرا واقعا، ويدافعون عن وجوده ووجودهم. هذا لا يعني بالضرورة أنّ الاقتصاد الموازي لا يحتوي على نشاطات يدينها المواطن العادي، كتجارة المخدّرات أو السلاح، كما أنّ تعامل الدولة مع هذا الاقتصاد لا يمليه بالضرورة حرصها على احترام القانون، بل يمليه نوع من البراغماتيّة، خصوصا أنّها تسعى للاستفادة من هذا الاقتصاد الذي ساهم في تحقيق نسب نموّ عالية، لطالما تبجح بها نظام بن علي كدليل على نجاحه الاقتصادي!
براغماتية السلطة في التعامل مع الاقتصاد الموازي
لقد دار صراع من أجل الضغط على الأجور لدعم القدرة التنافسية للاقتصاد التونسي، ولكن محدودية هذه الوسيلة أفسحت المجال أمام السلع الصينية والتركية على حساب المنتوج المحلي، ولم يتم ذلك من دون بروز تجاذبات في أوساط رجال الأعمال، خصوصا أن قطاعات هامة كالنسيج والأحذية، وحتى شركات توزيع التجهيزات الكهرومنزلية، تعد من أبرز المتضررين من إغراق الأسواق بهذه السلع. إلا أن هذه الصراعات حسمت لمصلحة القطاعات المشتغلة في التصدير، والحريصة على خفض الأجور، ولمصلحة فئة من المستوردين الذين اثروا من عمليات الاستيراد والتهرب الجمركي والضريبي. كانت الحاجة الماسة للعملة الصعبة محددا هاما لهذه الخيارات، إذ أن هذه الشبكات تضمن تزويد السوق المحلية من دون استنزاف ميزان المدفوعات. كما كان للهاجس الأمني دور أساسي في توسع الاقتصاد الموازي الذي صار ضامنا للسلم الاجتماعي، خصوصا بعد تأزّم الأوضاع في المناطق الداخليّة والحدوديّة (اندلاع انتفاضات الحوض المنجمي في 2008، وبن قردان في 2010). وفي حين تواترت تصريحات المسؤولين الرسميين بضرورة قمع الاقتصاد غير المهيكل، تواصل زحف هذه الأنشطة على الأرض وظلّت القوانين حبرا على ورق. لم يعد القانون هو المحدد لعلاقة الدولة بالاقتصاد الموازي، بل الوعي بضرورة ممارسة السلطة بأقل التكاليف. فبالاضافة إلى سقوطها رهينة المصالح الضيقة، فإنّ الدولة لم تعد تملك الإمكانات الماديّة التي طالما أمّنت سطوتها على المجتمع، كالوظيفة العمومية والبرامج الاجتماعية. وحصل هذا الافتقاد نتيجة تتالي برامج الخصخصة، وتقدّم الانفتاح الاقتصادي أشواطا كبيرة، خصوصا في إطار الشراكة الأورومتوسطية. يكاد لا يعود للدولة تقريبا اليوم سوى احتكار استعمال العنف الشرعي باسم القانون. من هنا نفهم التعامل البرغماتي للسلطة مع هذه الأنشطة. فقد أصبح تطويع الاقتصاد الموازي وجعله وسيلة لإدارة الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم مدخلا لتغول المؤسسة الأمنية التي أخضعت هذه الأنشطة لأولوية الدفاع عن النظام، كمصدر للإثراء، ولابتزاز المهمّشين واللاهثين وراء رغيف الخبز. لم تعد الغاية من القانون احترامه بقدر ما أضحى سيفا مسلطا على الرقاب يمكن تفعيله بصفة انتقائية. صار الفرز يتمّ على أساس الولاء والطاعة. ومن ينظر للاقتصاد الموازي على أساس مخالفته للقانون حصريّا فإنّه يهمل الوجه الآخر للسلطة. فـ"القانون ليس سوى نصف الحقيقة، أما النصف الثاني فيقع في الرشوة والزبونية" (بحسب المؤرخ الفرنسي بول فاين). هكذا صار الاقتصاد الموازي أداة فاعلة لترويض المجتمع على حساب المنتوج المحلي والاقتصاد الوطني.
قيل الكثير في ماهية السلطة في العالم العربي، وتكلّم كثيرون عن قمعها، وعن نزعتها الأمنية، وعن تركيبتها العشائريّة، وحتّى المافيوية، لكن قليلون تكلّموا عن براغماتيتها وحرصها على استغلال الهوامش لتجاوز أزمتها ومواصلة هيمنتها. بهذا المعنى، فإنّ الاقتصاد الموازي هو في قلب الممارسة اليوميّة للسلطة، لأنّه كان وسيلة إدماج الطبقات الوسطى في المجتمع الاستهلاكي على المدى القصير عوض التفكير في تجاوز نموذج التنمية المتهاوي، ولأنّه سمح بقهر المواطن المفقّر مرتين: مرة عندما أوصدت في وجهه أبواب الوظيفة العمومية والعمل المنظم، ومرة ثانية عندما أذل وأبتز حين سعى إلى رغيف خبز على هامش القانون. اشتباك محمد البوعزيزي مع الشرطية لم يكن القطرة التي أفاضت الكأس، بل كان الاقتصاد السياسي مجسدا في مشهد تراجيدي من صميم الواقع، اختزل الحقيقة كاملة جامعاً نصفيها.