الرواية النسوية اليمنية في الألفية الجديدة.. سيرة المأساة

صار عمر الكتابة الروائية النسوية في اليمن، منذ انطلاقتها الأولى في الستينات نصف قرن. وجود النساء في الهامش الاجتماعي، دفعهن الى أن يسعين كتابياً للصعود إلى المتن، ما جعل إنتاجهن الأدبي جزءاً من أدوات التمرد على الضوابط الاجتماعية السائدة.
2020-11-27

سهير السمّان

صحافية من اليمن


شارك
غلاف رواية "زوج حذاء لعائشة" للكاتبة اليمنية نبيلة الزبير.

غيرت الأحداث الاجتماعية والفكرية في اليمن من مسار الكتابة الأدبية، حين خاضت المرأة اليمنية غمار تجربة الكتابة الإبداعية، لتحقق حضوراً يكافحُ من أجل استمراره .

نصف قرن تقريباً هو عمر الكتابة الروائية النسوية في اليمن، منذ انطلاقتها الأولى. فعلى الرغم من الغياب التام للرواية النسوية في اليمن خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلا أن بداية الستينيات شهدت حضوراً مهماً، فبرزت الروايات المكتوبة من النساء على الرغم من العديد من القيود الاجتماعية. ولم يكن هذا البروز صادماً للمجتمع اليمني المحافظ عموماً، ولذاك القارئ فحسب، بل باعثاً على ريبة كتّاب الرواية الذكور أنفسهم.

أصدرت رمزية الإرياني روايتها الأولى "القات يسمم حياتنا" في عام 1969، وكانت ذات محتوى سردي كشف عن تطلعات وآمال المرأة اليمنية في التحرر من ربقة الأبوية وإدانة شجرة القات.

نجحت رمزية الإرياني في اقتحام منطقة حظر التجوال النسوي، وتمكنت من عبور ثقب المحرمات المجتمعية، وواصلت بخطًى واثقة الكتابة لتشق الطريق أمام إبداع أخريات. فشهد عقد الثمانينات تصاعداً كمياً في إنتاج المرأة السردي من خلال ثلاث روايات لسلوى الصرحي، هي "وأشرقت الشمس" (1984) و"صراع مع الحياة" (1985) و"ويبقى الأمل" ( 1986). أما في التسعينيات، فبرزت المرأة الروائية بقوة وظهرت أسماء عدة وأعمال جيدة، منها ثلاث روايات لعزيزة عبد الله هي رواية "أحلام نبيلة" و"أركنها الفقيه" و"طيف ولاية" وكذلك رواية "دار السلطنة" لرمزية الإرياني.

في الألفية الثالثة، شهدت الساحة الثقافية نقلة نوعية في مسيرة الرواية اليمنية، فكانت الأحداث التي شهدتها اليمن المحركَ الأساسي لإنتاج المرأة الروائي، فاستطاع السرد أن يرصد التحولات في مراحلَ مختلفة، وجنح إلى الخيال والمتخيل.. الذي لا ينفصل عن الواقع. فهناك أعمال كتبت في هذا الإطار الإبداعي، ويمكن أن تندرج في سياق تطور الوعي بالكتابة الروائية في اليمن في اتصالها بالواقع والمجتمع، مثل "عقيلات" و"صنعائي" لنادية الكوكباني، و"إنه جسدي" لنبيلة الزبير، و"معرض الجثث" لبلقيس مالك الإرياني، و"امرأة ولكن" للمياء الإرياني، و"خلف الشمس" لبشرى المقطري. وتلك على سبيل المثال لا الحصر.

الرواية بدل الشعر

إن وجود النساء في الهامش الاجتماعي، دفعهن الى أن يسعين كتابياً للصعود إلى المتن، ما جعل إنتاجهن الأدبي جزءاً من أدوات التمرد على الضوابط الاجتماعية السائدة. من هنا تسعى النصوص الأدبية النسوية إلى عرض تلك الصورة المأساوية للمرأة، في سبيل تصحيح المسار الاجتماعي المرفوض، سواء بالتمرد عليه وطرح رؤية بديلة، أو بالاكتفاء بتخليد ما تعانيه االنساء في ظل وضع اجتماعي قاس فُرض عليهن.

كان أول ملمحٍ لأدب النساء في اليمن هو اتساع مساحة السردي على حساب الشعري. أتاح السرد مساحة واسعة لصوت المرأة المقموع، لينطلق معبراً عن همومها وقضاياها، بعيداً عن قيود الشعر وقوانينه الصارمة. فللسرد عالمه السحري.

سيرةٌ للوجع

لعل ما يجعلنا نميز فترة التسعينات ت الفائتة من عمر الأدب النسوي في اليمن هو جرأة طرح الحياة الخاصة للنساء، وهو ما قلَّ أن نجده في أعمال سابقة. هنَّ نساء يلقي بهنَّ القدر في بيئة لم يكن لهنَّ يد في اختيارها، حيث تصبح المرأة مجرد جسد للمتعة.

"زوج حذاء لعائشة" للكاتبة نبيلة الزبير، و"تابوت امرأة" لسيرين حسن تناولا قضية شائكة في المجتمع اليمني، بمعالجات درامية مختلفة.

فعلى الرغم من كثرة القضايا الاجتماعية في "زوج حذاء لعائشة"، إلا أن القات، وطقوس هذه العادة الاجتماعية المتأصلة تحتل المركز منها. نجد النساء ينخرطن في مجالس القات التي تسمى "التفرطة" عند النساء، وهي فضاءٌ لمآسي تقع فيها العديد من الفتيات.

ما يميز فترة التسعينات الفائتة من عمر الأدب النسوي في اليمن هو جرأة طرح الحياة الخاصة للنساء، وهو قلَّ أن نجده في أعمال سابقة.

كما نجد قضايا السياسة والفساد، وغياب القانون، وسوء معاملة السجينات، تتآزر لتجعل من المرأة ضحية المجتمع الأولى. ومن خلال تعرية المسكوت، كتزويج القاصرات، واستغلال شبكات الدعارة والوسطاء، والتجارة بالفتيات واستغلالهن، يتكشف لنا من ذلك الواقع الخفي المُفارقِ لمظهر الواقع الاجتماعي المحافظ في بلد مثل اليمن. فإن كان ظاهره التدين والمحافظة على الأخلاق والعادات والتقاليد، فإن باطنه بخلاف ذلك تماماً. "كثيرات دخلن السجن بدفع من القوادين، القواد لا يحميكِ، إنه فقط يستثمرك، يحمي مصالحه حتى ولو بسجنك، قد يكون قادراً على إخراجك من السجن"، واقعٌ قد يكون الفقر سببه الرئيسي، ولكن السرد استطاع أن يكشف شرائحَ مختلفة من النساء يتورطن فيه، فهناك ابنة الفقير، وابنة التاجر، وحتى زوجة الإمام والفقيه.. فالظاهرة غير مرتبطة بالفقر، وإنما هنالك عواملُ وأسبابٌ أكبر..

وقد عرجت الرواية على قضية أخرى متعلقة بالمرأة هي تعدد الزوجات. فطارق رجل مزواج مهووس بالجنس، لم يكمل تعليمه، انضم إلى جماعة إسلامية، فلم يعرف امرأة في مراهقته وشبابه، ولم يكن أمامه إلا العادة السرية، التي ظل يمارسها حتى وهو إمام يصلي بالناس، وغدت فرضاً في حياته.. "لا جديد في الصلاة، لا جديد في إمامةِ المصلين. الجديد هو حيرتي إزاء العادة السرية، لقد كانت فرضاً هي الأخرى دخلته لسنين"، وكأنه لما اشتد عوده حاول تعويض نفسه بالإكثار من الزواج، منتقلاً بين أطراف متناقضة. كان أول زواج له من بنت السعودي المتحجبة التي لم يرَ أحدٌ يوماً وجهها، "أبوها هو الذي خطبني لها بمجرد أن التحيتُ. تبدّى له أني دخلت دينه، بخطوة منه صرت صهراً في الله.

وكان آخر زواج له من سعاد بائعة الجنس ذائعة الصيت التي تتحكم في شبكات للدعارة. وبين هذين، تزوج امرأةً ذات تجارب جنسية متنوعة، وهي الطامحة للتوبة، وتزوج الفتاة البكر وكان سبباً في دفعها للشارع، كما تزوج الزوجة المحصنة ذات الأولاد، زوجة أخيه الذي تنازل له عنها، بعدما اختار طريق الجهاد.

على الرغم من كثرة القضايا الاجتماعية في "زوج حذاء لعائشة" للكاتبة نبيلة الزبير، إلا أن القات، وطقوس هذه العادة الاجتماعية المتأصلة، تحتل المركز منها. نجد النساء ينخرطن في مجالس القات التي تسمى "التفرطة" عند النساء، وهي فضاءٌ لمآسي تقع فيها العديد من الفتيات. وهنا يتكشف الواقع الخفي المُفارقِ لمظهر الواقع الاجتماعي المحافظ في بلد مثل اليمن

تسللت الرواية إلى غرف النوم لتلتقط صوراً للعلاقة بين الزوجين، مبنية على الجنس، يغيب فيها الحب والتساكن، مبنية على اغتصاب الزوج لزوجته. تقول الراوية "الاغتصاب سمة ذلك الرجل، ما يميزه هو إتيانه لزوجته دون استئذانها حتى وهي في الصلاة أو صائمة. فقد وجد زينب تصلي فداهمها حيث هي على السجادة... اجتاحها بدون أية مقدمات... لم يمط من ثيابها إلا الموضع المخصص للإيلاج، ومن فوره غادرها إلى الحمام، وحين عاد رآها لم تزل على حالها تلك، لم تتحرك من مكانها ولا ثيابها عادت إلى موضعها.." وكان يفعل الشيء نفسه مع بشرى دون أن تقطع الصلاة أو الصوم، وبعد أن استفتت في الموضوع قيل لها "جمعتِ بين الطاعتين، طاعة الزوج وطاعة الله".

أما في رواية سيرين حسن "تابوت امرأة" فوجع المرأة لا ينتهي، كونها أنثى لا يقبل المجتمع خطيئتها، ولا يغفر لها حتى وإن كان مجنيٌّ عليها.

مقالات ذات صلة

طفلة - شابة في السادسة عشر من عمرها تحمل سِفَاحاً داخل بيت أسرتها، فترمي بها يد القدر نحو المصير المجهول بعد اكتشاف حملها، لتتذوق من أهلها كل أصناف الإهانة والتعذيب، حتى تضطر إلى الهرب من البيت بتحريض من أمها خوفاً على حياتها التي أضحت مهددةً من طرف إخوتها الذين عزموا على أن "يغسلوا" العار بالدم. تقضي سارة أياماً في الشارع، فتعاني من قسوة البرد والجوع والمذلة، قبل أن تهتدي إلى بيت أسرة غنية لتشتغل لديها خادمة. تنجب سارة أو "أزهار" ابنها وليد، تحت رعاية الأسرة التي تشتغل عندها، بعد أن تدعي أن زوجها مات في حادث سير، وكذلك أبوها قد توفي وليس لها أحد تلجأ إليه. لكنها بعد سنوات قليلة تحنُّ إلى أهلها، فتسعى إلى العودة إلى البيت معتقدةً أن الزمن قد طوى ما كان، لكنها تُفاجَأ بأنهم باعوا البيت، وانتقلوا إلى مكان آخر.. لا يتسرب اليأس إلى نفس سارة فتجتهد في البحث، حتى تعثر على بيت أهلها، فتكتشف هناك موت أمها، فتستعطف أهلها لمسامحتها عن "خطئها"، غير أن أباها لم يسامحها، ويصرُّ على التنكيل بها، فيبلغ الشرطة عنها ويتهمها بكونها تنتمي لشبكة دعارة، وأنها مختطفةٌ لابنه وليد، فيلقى بها نتيجة لذلك في غياهب السجن. وهناك ستستمر معاناتها، إذ جاء دور النساء ليعبثن بجسدها، وحين ترفض الإذعان لهن تلاقي معاملةً وحشية وتعذيباً يؤدي بها إلى فقدان الوعي، لتنقل إلى المستشفى، وهناك تظهر بارقة نور وأمل حين تلتقي بالدكتور عبد الله الذي سيتعاطف معها، ويسعى إلى مساعدتها على الهرب واستعادة عافيتها، كي تبدأ حياة جديدة.

وجع المرأة لا ينتهي في رواية سيرين حسن "تابوت امرأة"، كونها أنثى لا يقبل المجتمع خطيئتها، ولا يغفر لها حتى وإن كانت مجنيٌّ عليها.

وبعد أن تطمئن على نفسها، تتصل بامرأة تعرفت عليها في السجن كي تدبر لها شغلاً فتجد ضالتها في ملهًى، هناك تحصل على مبلغ مادي مناسب تكتفي به، وتفر من ذلك العمل الذي تعافه نفسها، لتنخرط من جديد في البحث عن فلذة كبدها دون جدوى، وتستمر مأساتها إلى ما لا نهاية.

يصح أن نرى في هذا السرد النسوي الذي يبدو ساذجاً إن لم نقل بدائياً، أن غايته إظهار سيرة مأساة حياة المرأة اليمنية في مجتمع سلبها حق الحياة.

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...