يكاد لا يمر يوم، منذ بداية جائحة الكورونا، دون جريمة عنف أسري في العراق. وبينما تزداد أعداد الجرائم بين قتل وضرب وحرق واغتصاب، تقف الحكومة العراقية عاجزةً تماماً عن حماية الضحايا أو محاسبة الجناة. فآليات تنفيذ الحماية تلك، إنْ وجدت، تخضع كلياً لسيطرة العشائر ورجال الدين، الذين هم في غالب الأحيان مستفيدون من استمرار الوضع على ما هو عليه، فيحتكم الناس لما يملونه هم عليهم، لانعدام البديل القانوني المدني منذ سنوات عديدة. فالعنف الأسري في العراق ليس ظاهرة جديدة أو غريبة.
المجتمع العراقي كباقي مجتمعات المنطقة، مجتمع محافظ، تحيطه وتحدّه الكثير من التقاليد الذكورية المتوارثة في التعامل مع الأسرة وعلاقاتها. وقد عانت الأسرة العراقية الكثير من انعدام الرعاية القانونية، في بلد من المفترض أنه شرّع في أواخر خمسينات القرن الماضي إحدى أهم وأكثر قوانين المنطقة تقدماً فيما يخص الأسرة، وهو قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959. لكن العمل به بدأ بالتراجع بشكل كبير منذ بدأ الحصار الاقتصادي (1991-2003)، عندما تغاضى نظام صدام حسين عن تطبيق القانون المدني مقابل ضمان ولاء العشائر له.
العنف ضد النساء في العراق، ما هو المختلف؟
08-09-2020
البكاءات العالية.. عن أحزان المرأة العراقية
15-05-2020
واستمر الحال بالتردي بوصول الاحتلال الأمريكي عام 2003، وما تلاه من عنف وانفلات أمني حتى يومنا هذا. على الرغم من ذلك، لم تتوقف الأصوات النسوية في العراق عن المطالبة بسَن قوانين تحمي المرأة، والطفل والأسرة ككل. كما حاولت منظمات عراقية، محلية بشكل خاص، توفير بعض الحماية للنساء والقاصرات اللواتي يتعرضن للعنف ضمن أُسرهن. إلا أن هذه المنظمات عانت، ولا تزال تعاني من عدم وجود غطاء قانوني يضمن سلامة العاملين فيها، أو سلامة مَن تحاول إنقاذهن. بل إن وجود هذه المنظمات بالأساس عادةً ما يكون مهدداً من قبل المليشيات المسلحة التابعة للأحزاب الدينية، أو من قبل رجال العشائر. وذلك يحدث في الأخص فيما يتعلق بالبيوت الآمنة، ودور الإيواء التي تستقبل ضحايا التعنيف الأسري، حيث ترفض الأحزاب الدينية وجودها بحجة تهديدها "لثوابت الدين الإسلامي"، وترفضها العشائر لأنها تهدد بطبيعة الحال، سطوة العشيرة وموروثها الرجعي. فبقيت معظم تلك الدور والمراكز تُدار بخفية وبسريّة، بعيداً عن الأعين، مما يجعل إيجادها صعباً حتى على الضحايا المحتملين.
شُرّع في العراق في 1959 أحد أهم وأكثر قوانين المنطقة تقدماً فيما يخص الأسرة، وهو قانون الأحوال الشخصية رقم 188. لكن العمل به بدأ بالتراجع منذ بدأ الحصار الاقتصادي (1991-2003)، عندما تغاضى نظام صدام حسين عن تطبيق القانون المدني مقابل ضمان ولاء العشائر له. واستمر الحال بالتردي بوصول الاحتلال الأمريكي عام 2003.
وعلى الرغم من نجاح المساعي لإصدار قانون مناهض للعنف الأسري في إقليم كردستان العراق، والذي أقر عام 2011، إلا أن الأمر بقي صعباً ومعقداً بالنسبة للحكومة المركزية في بغداد، وهي المسؤولة عن باقي مدن ومحافظات العراق. فيجد الضحايا أنفسهم بلا منقذ ولا جهة تُرفع إليها شكواهم ضد العنف الممارس عليهم.
ولكن، وربما لأن رئيس الوزراء العراقي الجديد، مصطفى الكاظمي، أراد امتصاص الغضب الشعبي ضد العنف الذي ازدادت وتيرته مع فرض الإجراءات الوقائية والحظر الصحي بسبب جائحة كورونا، ومحاولة منه لحفظ ماء الوجه بعد أن أصدرت 4 منظمات تابعة للأمم المتحدة (مفوضية حقوق الإنسان، هيئة الأمم المتحدة للمرأة، منظمة اليونيسف، وصندوق الأمم المتحدة للسكان) بياناً مشتركاً تعبر فيه عن قلقها من ذلك العنف المتزايد في العراق. فأصدرت رئاسة الوزراء مسودة قانون لمناهضة العنف الأسري، وأرسلتها إلى مجلس النواب العراقي للمصادقة عليها في نيسان/ أبريل الماضي، أي بعد 9 سنوات من إقرار القانون في إقليم كردستان. مسودة القانون المطروحة حالياً تبدو متواضعة، وفيها الكثير من المطاطية. مثلاً تنص المادة - 19 من القانون على "أولاً: يحيل القاضي أطراف الشكوى إلى البحث الاجتماعي لإصلاح ذات البين، وله الاستعانة بمحكّمين من طرفي الشكوى للغرض المذكور. ثانياً - إيقاف الإجراءات القانونية المتخذة بحق المشكو منه إذا حصل الصلح والتراضي بينه وبين الضحية"، وهو ما يعني خلق ثغرة قد تستخدم لإجبار الضحية على المصالحة رغم التعرض للعنف. إضافة إلى ذلك، ينص القانون على أن كل ما يتعلق بآليات حماية الضحايا، وكيفية تطبيق تلك الحماية يقع ضمن صلاحيات الحكومة، والتي من المعروف أنها خاضعة لنظام المحاصصة الطائفية، وبالنتيجة تحت سيطرة الأحزاب الدينية.
أصدرت 4 منظمات تابعة للأمم المتحدة (مفوضية حقوق الإنسان، هيئة الأمم المتحدة للمرأة، منظمة اليونيسف، وصندوق الأمم المتحدة للسكان) بياناً مشتركاً تعبّر فيه عن قلقها من العنف المتزايد في العراق.
على الرغم من ذلك، لاقت المسودة ترحيباً كبيراً من المنظمات النسوية في العراق باعتبارها خطوة أولى تعطي حق الشكوى القانونية للضحايا، كما أنها تمكّن مراكز حماية الضحايا، ودور الإيواء من الحصول على الحماية القانونية. وهي النقاط ذاتها التي يرفض نواب الأحزاب الدينية المصادقةَ على القانون بسببها، بحجة أن ذلك سيؤدي إلى "تفكيك الأسرة العراقية"، وسيفقد رب الأسرة (الرجل) قدرته على فرض السيطرة على أولاده (وزوجته/زوجاته). وذهب البعض إلى حد اعتبار مراكز الإيواء مخالفة للعرف الاجتماعي، وتشجّع على "الرذيلة" وأن تمرير القانون سيؤدي إلى "انتشار الخيانة من قبل الزوجات".
الحجر الصحي: صرخات من خلف الأبواب الموصدة
13-05-2020
البيوت أسرار.. ذاكرة مجدّلة بالعنف
05-09-2020
جرائم قتل النساء في فلسطين وتباطؤ القانون
20-07-2020
وكعادة الأحزاب الدينية في معركتها المستمرة ضد كل ما يتعلق بحقوق المرأة، قام ممثلو تلك الأحزاب، بدلاً من المصادقة على قانون مناهضة العنف الأسري، بإعادة طرح قانون تعديل حضانة الأطفال مادة رقم 57 من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، حيث تنص هذه المادة من القانون على حق الأم في حضانة الطفل حتى سن العاشرة مع إمكانية التمديد إلى سن الخامسة عشرة. في حين أن التعديل المطروح حالياً في مجلس النواب ينص على تقليل فترة حضانة الأم للطفل إلى سن الـ 7 سنوات، وثم نقلها إلى الأب. مما سيؤدي إلى وضع المرأة الراغبة بالطلاق بين خيارين صعبين جداً، فإما البقاء في علاقة هي غير راغبة بها - وربما تكون مع زوجٍ معنّف - أو فقدان حضانة أطفالها. وهذه الفقرة تقع ضمن فقرات قانون الأحوال الشخصية الجعفري (المعتمد على المذهب الجعفري الشيعي في أحكامه) والذي طرحه نواب حزب الفضيلة الإسلامي في عام 2014 حتى يستبدل به قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المدني.
لاقت المسودة ترحيباً من المنظمات النسوية في العراق كخطوة أولى تعطي حق الشكوى القانوني للضحايا، وتُمكّن مراكز حماية الضحايا، ودور الإيواء، من الحصول على الحماية القانونية. وهي النقاط ذاتها التي يرفض نواب الأحزاب الدينية المصادقة على القانون بسببها، بحجة أن ذلك سيؤدي إلى "تفكيك الأسرة العراقية"، وسيفقد رب الأسرة (الرجل) قدرته على فرض السيطرة على أولاده (وزوجته/زوجاته).
ولو نجح "القانون الجعفري" في أن يمر آنذاك، لكان ذلك سيؤدي إلى أن تحتكم الأسرة العراقية في قضاياها، كلُّ أسرةٍ حسب أحكام طائفتها الشرعية، وبمعنى أدق سيكون بمثابة حكم الإعدام بحق القضاء المدني. إلا أن القانون الجعفري خسر معركته مع المنظمات النسوية والحقوقية عام 2014، ولم يمر. وبالنتيجة أصبح من المعتاد بين فترة وأخرى، أن تحاول الأحزاب الدينية، عن طريق نوابها في البرلمان، تمرير تعديلات على بنود معينة في القانون المدني، لتتماشى مع ما جاء في ذلك "القانون الجعفري". وبذلك يبقى ضحايا العنف الأسري رهينةً لضعف الحكومات المتعاقبة، وتقاعسها عن خلق آليات لحماية المرأة والأطفال على وجه التحديد. هذا من ناحية. وتبقى من ناحية ثانية رهينةَ أحزاب دينية ترجّح بطبيعة الحال كفة التشريع الديني على المدني. إضافة الى دور العشائر الرجعي الذي أصبح لديها الفصل في أمور الأسرة واستبدال القانون المدني بأحكامها القبلية، وهي بمثابة مصدر يدر الأموال والأرباح على مجالسها ومشايخها، فللعشائر هناك ديّة/ثمن مالي يُدفَع لحل أي مشكلة، مهما كانت تعقيداتها أو حجم الأذى الذي وقع على الضحايا.