ظلت موريتانيا بلد الحق والعدل حتى وهي تحت حكم المستعمر الفرنسي الذي نصب بالرغم من جبروته قضاة مشهود لهم بالعدل والورع. ومع استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960، حدث تطاول على القضاء.
عاشت موريتانيا بعد الاطاحة بالرئيس المختار ولد داداه (وهو محامٍ من الرعيل الاول)، فوضى عارمة أصبح خلالها القضاة مجرد عمال بسيطين تحت إمرة الضباط الذين باتوا يقتصدون في القانون، فلا يدان إلا الضعفاء ولا يمثل الاقوياء أصلا، ناهيك عن ان يدانوا.
وقبل عامين، عزل الرئيس الموريتاني الحالي (وهو لواء سابق في الجيش استولى على السلطة بانقلاب عسكري) رئيس المحكمة العليا القاضي مع ان القانون ينص على ان رئيس المحكمة العليا عند استلامه لمهامه يمضي فيها خمس سنوات لا يجوز إعفاؤه منها دون مانع كالموت.. الا ان الرئيس فرض اقالته بالقوة، وعلى الرغم من رفض رئيس المحكمة للقرار، استعان الرئيس بامن قصر العدالة ليحول دون دخول رئيس المحكمة اليها.
وخلال العقود الأربعة الماضية، داس الضباط على القضاء والقضاة، ووظفوا العدالة وفق رغباتهم، فصارت تحرك ضد الخصوم.
أزمة وزير العدل ونادي القضاة
فجر لقاء تلفزيوني جرى منذ بضعة أسابيع أزمة جديدة بين وزير العدل ونادي القضاة الذي يتهم الوزير بتسييس القضاء.
كما قدم قضاة استقالاتهم من النادي احتجاجاً على ظهور أمينه العام في برنامج بثه التلفزيون الحكومي واستضاف فيه وزير العدل. وأكد بعض المستقيلين ان مشاركة الأمين العام باسم نادي القضاة كديكور في برنامج سياسي، من دون التشاور مع القضاة ومن دون أن يتحدث أو يطرح المشاكل، يشكل تنازلا عن الدفاع عن القضاة، متحولاً بذلك من "ممثل للقضاة إلى مساعد لوزير العدل".
وأشار القضاة المستقيلون إلى أن هناك عدة قضاة آخرين فكروا بالاستقالة من النادي، ولكنهم يخضعون لضغوط لمنعهم من ذلك. وان البرنامج التلفزيوني ليس إلا مجرد موضوع عارض مقارنة مع ما يجري في أروقة القضاء، فيؤكدون ان تدخل السلطة التنفيذية لتعطيل الاحكام القضائية التي لا تخدم النافذين هي من بين أمور أخرى باتت تعمق الشرخ بين وزير العدل والمحامين والقضاة وحتى مع كتاب الضبط الذين يعانون بدورهم من التهميش.
وخلال افتتاحه للسنة القضائية الجارية، قال الرئيس الموريتاني ان الدولة لن تألو جهدا في سبيل المحافظة على استقلال القضاء وتحسين ظروف عمل الأسرة القضائية وتسهيل إجراءات التقاضي واحترام أحكام القضاء والعمل على تنفيذها.
وأضاف، بوصفه رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، أن بناء دولة القانون وتعزيز الحريات العامة والخاصة مرهون باحترام القانون وإقامة العدل بين الناس على السواء.
لكن الرئيس الذي قال انه عمل جاهدا خلال السنوات الست الماضية من حكمه لعصرنة الجهاز القضائي وتخصيص الموارد اللازمة لحسن أدائه وتجديد النصوص وإرساء قواعد دولة القانون من خلال السهر على تحقيق الاستقلال التام للقضاء وخضوع الجميع للقانون، فوجئ في جلسته بأحد المحامين ينزع معطف المحاماة ويضعه على طاولته احتجاجا على تردي العدالة. وأرفق المحامي بمعطفه بياناً موقعاً باسمه عبر فيه عن استيائه من وضعية العدالة في البلاد وتبعيتها الواضحة للسلطة التنفيذية. وقال إن تصرفه "جاء احتجاجاً على وضعية العدالة وتضامناً مع جميع المتضررين من غيابها".
وأوضح أنه "في يوم مخصص لتقييم العدالة، لم يجد تعبيراً أفضل من نزع سترته"، مشيراً إلى أن هنالك "إرادة سياسية واضحة لتدمير العدالة".
التعذيب متواصل رغم الوعود
أنكر وزير العدل وجود تعذيب في السجون، معترفاً في الوقت نفسه بعدم ارتياح حكومته لأوضاعها ، وموضحاً أنها أحسن بكثير مما كانت عليه في السنوات الماضية، وأن هنالك خططا حكومية لتحسين أوضاع السجناء من خلال تشييد سجون جديدة.. ووسط هذا، دعا نقيب المحامين لوضع آليات لمكافحة التعذيب، وطالب بإعداد "قانون خاص يجرِّم أشكال التعذيب ونشره وإدخال منظومة العلم الجنائي". غير ان محامين آخرين يتحدثون عن تعذيب منظم للمساجين. ويؤكد تقرير لنقيب المحامين السابق أن التعسف أصبح "ممارسة وتوجهاً" في موريتانيا.
ويشير التقرير الى "اعتقالات تعسفية عن طريق سلطة تنفيذية تتحكم بنيابة لا تكترث باحترام القانون وقضاء ضعيف وخاضع على نحو مخجل"، وفق تعبير التقرير. وأمام هذ الوضع، أكد الدكتور القاضي رئيس الغرفة المدنية بولاية نوكشوط الغربية، أن المشرع الموريتاني يتعامل تشريعيا مع جريمة التعذيب بمحاباة كبيرة، فهو وان رفع مستوى تجريمها بجعلها عقوبة ضد الإنسانية لا تقبل التقادم، إلا انه أضعف مستوى العقاب الذي لا يتجاوز في الحالة العادية عشر سنوات.
ويدعو هذا القاضي لوضع ضمانات أساسية لمكافحة التعذيب أثناء التوقيف والحراسة النظرية والتسليم وقضاء المحكومية العقابية، بوضع آليات قانونية وقضائية تسمح بالمراقبة وفرض الرقابة اللصيقة على كافة تلك المراحل، ومن أهمها ضمانة التواصل مع المحامي وحضوره بدون قيد عند الاحتجاز وفي فترة الحراسة، وهو ما لا يتيحه التشريع الموريتاني الذي قيد حضور واتصال المحامي بالمحتجز بترخيص مكتوب من وكيل الجمهورية ولمدة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة. واكد القاضي اهمية تفعيل دور المأمورين العموميين وكتَّاب الضبط كشهود إثبات لكل ما يقع أمامهم من انتهاكات أو يُصرَّح به خلال جلسات الاستماع التحضيرية والمحاكمات وضبط الجلسات، باعتبارهم الشاهد الأول على ما يدور، تطبيقا لما ينص عليه قانون الإجراءات الجنائية.
ومن المفارقات ان تدهور القضاء الموريتاني بات مثار حديث الجميع، حتى الاجانب، فهذه سفارة واشنطن باتت تتدخل في القضاء الموريتاني ودعت إلى مراجعة أحكام سبق أن أصدرتها محكمة الجنح الموريتانية. وذهبت الى القول إنها "تحث مرة أخرى محكمة الاستئناف على مراجعة كل الأحكام دون تأخير، وإلى التعامل مع هذه القضايا الهامة بطريقة عادلة ونزيهة و شفافة"..