عليّ: جزء من حقيقة

تستعيد ريم مجاهد هنا سياق قصتها المتسلسلة عن اليمن اليوم، بعد انقطاع لأشهر لأسباب قاهرة. في الحلقة 17، الأخيرة التي نشرناها في أيار/مايو الفائت، تركنا ناديا تطالب المستأجرة البائسة بسداد ما عليها، غير عابئة بالكارثة التي تحيط بها، وبالبناية التي يقطنون، نتيجة السيول التي غطت الشوارع ودخلت المنازل..
2020-11-06

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
أحمد قدور - سوريا

عليّ الذي خاب أمله في نفسه وفي العالم وفي الناس، ولكن بدرجة أكبر في سلمى ذاتها، ضبط نفسه لمرات كثيرة يفكر بأنه ضحية خيانة. ولشهر كامل لم يستطع تحديد إن كان غاضباً منها أم عليها. ولم يكن ما حدث ليغير لون حياته، أحسَّ أنه يأكل كالمعتاد ويتحدث كالمعتاد، لكن حين يجن الليل، كان العالم يتسع ليصبح هوة واحدة بفم عملاق. هوّةٌ على امتداد نظره ومدارات إحساسه، والزمن يصبح ساعة لا نهاية لها. حاول عليّ أن يبعثر من وقته ما استطاع، التزم بمقايل القات، كما لم يتوانَ عن أن يصبح طفيلياً متى اقتضت الحاجة، ولم يرفض عرضاً قط لشخص اقترح أن يشتري له القات. اخترع عليّ من الحكايات ما لا يعد ولا يحصى، وكان في طريقه يغترف من الأكاذيب والمبالغات ما لم ينتبه لها هو، لكن الآخرين فعلوا.

ما الذي يجعل العالم ضيقاً كقبر. ما الذي تحمله رياح المدن التعيسة، فيصيب الروح بالموت قبل الرصاص وقبل المرض؟ ما الذنب الذي ارتكبناه في حيوات سابقة لنكون ما نحن عليه الآن؟ هذا الألم الماشي على قدمين، وهذه التعاسة بشهية مفتوحة؟

لم يكتب عليّ خلال تلك المرحلة الكثير، لكن ظهور الوباء في المدينة كان المادة الخصبة التي ستتيح لأي كاتب مثل عليّ أن يجد ما يكتب عنه. وبجنون الصحافي، تسلل عليّ إلى المستشفيات والعيادات الخاصة، راقب الناس في الشوارع، آملاً بأن يجد قصته الذهبية، وأن يرى سلمى على حين غفلة. أراد أن يتطلع هذه المرة في إنحناءاتها، وفي عينيها دون أن يكون مجبراً على قول شيء، تتبع حركة السيارات المسرعة والمغطاة، وفي أسواق القات استمع بعناية لكل ما يمكن أن يقال من نميمة، ومن تبادل لآخر أخبار المدينة. وجد عليّ الكثير ليكتب، ولن يكون للغته الركيكة أي تأثير على قوة ما سيكتب.

في الغرفة، نسّق حكاياته ومشاهداته، كتب عن الوباء، عن المستشفيات الهلعة، والأطباء المغادرين نوباتهم بأعذار لا تقال، عن مقايل قات الأطباء في الأروقة، عن عشرات الحكايات لأناس كانوا يعانون من ارتفاع في ضغط الدم زاروا المستشفيات ثم لم يعودوا أحياء، عن إبرة الرحمة التي أرهبت الناس أكثر من الوفاة، عن الأسرّة قليلة العدد في الحجر الصحي، وعن الكهرباء التي تقتل العنايات المركزة. عن تهمة الوباء التي تتسلل لبيوت المصابين فيُنْبذون من كل الحارات المجاورة، عن إصرار المساجد على نفيها، عن إيمان الناس غير المنتهي ولا المفَسّر بالله و بالعدالة و بالنجاة لا محالة، عن الجثث التي تعفنت في الدكاكين، عن الجثث التي رميت بجانب المقابر مخافة دفنها، أو لعدم المقدرة على دفع تكاليف دفنها، عن العزاءات وأسباب الوفاة الكاذبة التي تملأ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، عن الجنازات الصامتة، عن الدموع الغريبة، إذ يموت الميت ولا يعرف الأهل هل يبكون، أم يعتكفون للصلاة بانتظار موتهم الخاص، عن فرق المخابرات التي تجوب الشوارع تلاحق الإشاعات، ثم تأخذ الرجال من أسرّة زوجاتهم لمواقع الحجر الصحي ثم تعيدهم بأمانة: باردي الجثث مطفأي العيون. عن المرأة التي تحمل قطعة من سريرها أمام المنزل تعرضها للبيع، وتعلن أن زوجها مات بالحرب وفقدت هي عملها خلال الوباء، وأن هناك طفلين ينتظران غداءً، وبجانب قطعة السرير بلون البيج المزخرفة والمصقولة، يقف ولدان صغيران قذران، بينما تلوح الأم بيدها السمراء المجعدة. عن المشردين الذين كانوا يملأون الشوارع، ثم تضاعفوا فصاروا يملأون كل الأماكن. عن وزراء الصحة في كل الأشطار من البلد، عن صفحات التويتر الرسمية، عن الرجل الذي عدَّ خمسين عزاءً على الفيسبوك في يوم واحد، ثم قرأ على تويتر أن "إحصائية وفيات اليوم هي 3 أشخاص".

كتب عليّ وقال: يكذبون، الحقيقة أسوأ مما لكم أن تتخيلوا. كتب عليّ وأعاد التصحيح، ثم كتب مرة أخرى وأضاف ما أضاف، وكل ما كان يراه هو "عليّ" الذي يعتقد أنه ضحيةٌ لفتاة لم تخبره عن لون بشرتها، وكل ما يشعره هو الألم الغريب الذي لم يستوضح نفسه إن كان اشتياقاً أم ذنباً أم كل ما يمكن أن يسبب للإنسان الألم. أكمل عليّ ما بدأ، عنون ملف الوورد المليء بالخطوط الحمراء، حيث قاموس الكمبيوتر لم يتعرف على كلمات تعج بالأخطاء الإملائية والتعابير المحلية، ثم بعثه إلى الصحيفة الإلكترونية التي لم يسأل في أي شطر من البلد كانت. ربما لأنه لم يزل يعيش في كل البلد، ولم يستخدم بعد: "كان البلد".

ما الذي يجعل العالم ضيقاً كقبر. ما الذي تحمله رياح المدن التعيسة، فيصيب الروح بالموت قبل الرصاص وقبل المرض؟ ما الذنب الذي ارتكبناه في حيوات سابقة لنكون ما نحن عليه الآن؟ هذا الألم الماشي على قدمين، وهذه التعاسة بشهية مفتوحة؟

شارك الحكايات في مجالس قات وحافلات وأسواق لا عد لها ولا حصر، نقل شهاداته كما هي، ولم يخفِ شيئاً، كان الجميع يعتقد أن هذا الوباء مثله مثل كل شيء آخر سيزول قريباً، وسيكون الإنسان - ليس الإنسان الذي ينتمي لأرض عليّ، بل الإنسان الآخر خارج تلك الأرض المنكوبة - قادراً على أن يهزمه كما هزم كل وباء من قبل. ولم يفكر قط أن هذا الوباء سيكون أيضاً سبب هلاكه، ليس بأن يدمر رئتيه، أو أن تُعطى له إبرة الرحمة كما يُشاع، بل بطريقة أكثر ابتكاراً. ما اعتقد عليّ أنه يوم آخر وعمل ركيك آخر، كان يسطر صفحة من حياته وحياة آخرين، ولقد فكر كثيراً جداً، فكر بطريقة موته وبطريقة عذابه، تخيل كل الطرق التي يمكن أن يموت فيها بشر، وأن يعاني فيها إنسان، واسترجع كل الأمثلة من الأفلام التي شاهدها والقصص التي سمعها، من ذاك الناجح الذي ينزلق بقشرة موزة في الشارع فيصطدم رأسه بالأرض ويموت، إلى ذلك الذي تخترقه رصاصة صديقه بالخطأ بينما يحتفل بزفافه السعيد. فكر أيضاً بالموت في حوادث السيارات، وبالتلاشي تحت قوة القذائف وبالاختناق تحت الأنقاض. لكنه لم يفكر بما هو محدق به، ولم يسمع تحذيرات الأصحاب الهامسة بأن لا أحد يتحدث عن المستشفيات وأعداد المصابين واللقاحات الممنوعة. لذا فكل خيالاته عن الموت والعذاب كانت أكثر بعداً من الطريق الذي كان يمشي باتجاهه.

أمضى لياليه الباقية قبيل أن تتغير حياته إلى الأبد، في الحريق ذاته. شيء ما يلتهمه من الداخل، يحفر عميقاً في أحشائه، يوقد ناره وينفي السكينة لعوالم لا يمكن له أن يصلها مهما حاول. لم تكن سلمى هي السبب الوحيد، كان الفقر، الربيع، الحياة التي لا يستطيع إليها سبيلاً، الوحدة، والرغبة المحترقة، الرغبة بجسد بشري يحتك بجسده، بكلمة حنونة، بهمس في الليالي، برائحة غير رائحة غرفته، وغير رائحة ثيابه وثياب من يشاركونه الغرفة. لقد شعر مراراً بالظلم من قبل، وشعر بالذنب أيضاً، لكنه آنذاك بدأ ينقم على نفسه وعلى كل شي، كان هو المؤذي والمجني عليه، ولم يكن هناك من ينصفه، وحتى إهانته لسلمى بتلك الطريقة، كان خطؤها هي.

لكن سرعان ما سيصبح كل ما سبق ترفاً، حين سيجد نفسه وسط ضوء الشمس الدافئ، وفي شارع عادي مليءٍ بالبشر، وهو يفكر بما سيكون غداؤه لذلك اليوم، تحيط به ثلة من الأقوياء المسلحين، عيونهم محمرة وأسنانهم مشوهة، المستعدين للضرب والشتم في كل المناسبات، ويفاجأ هو بضربة من عقب بندقية في خصره النحيل، ثم بكفّ أحدهم تهوي على وجهه المأخوذ بالصدمة، وأيادٍ كثيرة ترفعه ثم ترمي به في سيارة، لم يجد الوقت لتحديد شكلها، وأحدهم يهزأ به قائلاً: سنريك الحقيقة كلها التي تبحث عنها.

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة الثامنة
الحلقة التاسعة
الحلقة العاشرة
الحلقة الحادية عشر
الحلقة الثانية عشر
الحلقة الثالثة عشر
الحلقة الرابعة عشر
الحلقة الخامسة عشر
الحلقة السادسة عشر
الحلقة السابعة عشر

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...