ويلٌ لأمة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودِّعه بالصَّفير، لتستقبل آخر بالتطبيل والتزمير... ويلٌ لأمة مقسمة إلى أجزاء، وكل جزء يحسب نفسه فيها أمّة.
جبران خليل جبران
وصلتني مؤخّراً رسالة من عبد المجيد العقيلي ــ الجراح الاستشاري الذي تدرّب في بريطانيا وأحد أبطال الثورة الليبية المغمورين - يعبّر فيها عن الألم الشديد إزاء الحال الذي بلغته أمور موطنه. ومجيد واحدٌ من بين كثيرين شاركوا في الثورة بدافع الحب الذي يكنّونه لبلدهم فحسب. التحق هؤلاء الرجال والنساء بالمعركة ضد المتجبّر من دون أي اكتراث بسلامتهم، ولا سعي وراء المكاسب الشخصية. وهذه "المثالية الثورية" الطاغية التي كانت في البداية هي ما يضاعف مرارة خيبة الأمل حيال ما تكشّف في ليبيا بعد ذلك.
من أبطال إلى خاطفين
بخلاف إيثار الشباب والشابات في الأيام الأولى للانتفاضة، فإن الانتهازية السياسية لدى "القذاذفة" الصِّغار، الذين ظهروا مذاك وراحوا يتصارعون على أيّ أسلاب، ويتدافعون على أيّ مكاسب طارئة، هي أمر مخز تماماً. وقد نجح هؤلاء الانتهازيون في تشويه الثورة في أذهان كثير من الليبيين، خاصة الشباب. منذ بداية انتفاضة شباط/ فبراير 2011، جرت سلسلة من الحوادث يعود بعضها إلى العجز العام في حين يعود بعضها الآخر إلى تخطيط فاسد وشرير. وقد تضافر ذلك كلّه ليخلق الوضع الحالي.
قذافيّة من دون القذافي
حدثت الانتفاضة في سياق يفتقر إلى المؤسسات المدنية والسياسية الراسخة. ولم يولِ المجلس الوطني الانتقالي وخَلَفه المؤتمر الوطني العام تطوير هذه المؤسسات وتوحيدها الاهتمام اللازم. وأخفق، لأسباب مختلفة، في خوض العملية اللازمة للتطور والنقاء السياسيين، بما فيها تطوير المؤسسات وآليات المساءلة والانضباط الذاتي. ومن المؤسف أنه كرس أسوأ ملامح القذافيّة من دون القذافي.
كان غياب الاستمرارية الإدارية التي توفرها بيروقراطية فاعلة عقبة أخرى أعاقت الانتقال السلس الذي شهدته مجتمعات أخرى (أوروبا الشرقية أو حتى تونس). وكانت لدى ليبيا في عهد القذافي بنية بيروقراطية مُحْكَمة ومعقدة، فيها منظمات جديدة فُرضت على المؤسسات القائمة. وهي تمثلت في بنى متوازية ومتداخلة لا تتضح فيها حيثيات السلطة والمسؤولية، وكثيراً ما تسببت بمنافسة ونزاع شديدين داخل الحكومة، الأمر الذي أتاح للقذافي أن يكون الحكَم الوحيد في أدقّ التفاصيل على المستوى الوطني ودون ـ الوطني. واقتصر الأمر بعد 17 شباط/ فبراير على إحلال "الثوّار" محل إحدى طبقات "اللجان الثورية". وهم تضافر لديهم انعدام الخبرة والولاء القبلي/ الإقليمي مع انعدام الكفاءة، ليزيد من حدة النزاع والتنافس ضمن نظام إداري منتفخ سيئ الأداء.
أمّا قانون العزل السياسي، الذي يحظر استلام مسؤولية على من تولى منصباً رفيعاً خلال حكم القذافي، فقد حرم البلاد من كل من يمتلك أبسط مهارات اتخاذ القرار. وأدّت فلسفة "الثوار"، التي مفادها اكتساب الخبرة من خلال التدرّب أثناء العمل، إلى حالة غريبة تمثلت في إدارة بلد بأكمله بأيدي مبتدئين ومتدربين. وفي هذه الأثناء، كان محركو الدمى من أمراء الحرب يواصلون شدّ خيوطهم وتوجيه الحكومة من خارجها، تماما كما كان يفعل القذافي. إلا انه في حين كان هناك قذافي واحد، هناك الآن العديد منه. ومن المؤسف أنه جرى تكريس أسوأ ملامح القذافيّة من دون القذافي.
أزمة الهوية
تُعَدُّ ليبيا من أصل حديث تماماً، ذلك أنها، ككيان سياسي واحد، مشروعٌ إيطالي. والإيطاليون هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم لدى استعمارهم المنطقة الواقعة بين الحدود المصرية والحدود التونسية. وقد تمكّن الليبيون خلال فترة قصيرة من تكوين غاية مشتركة تمثلت بالرغبة في التخلص من القوة الاستعمارية ذاتها، لكنهم لم يحرزوا أي تقدم منذ الاستقلال عام 1951 على طريق تطوير هوية وطنية مشتركة. وفي هذا، تُعَدّ ليبيا فريدة من نوعها بين دول شمال أفريقيا.
مع تفكك السلطة المركزية الجامعة في17 شباط/ فبراير 2011، عادت ليبيا إلى أجزائها المكونة قبل الاستقلال، مع هوية أولية ووحيدة أحياناً، متمحورة حول المناطق والقبائل وما كان بينها من صراع على الهيمنة في أواخر أربعينيات القرن الماضي. تم حل نزاع فترة ما قبل الاستقلال ذاك بالتسوية الجهوية / القبلية التي قدمها دستور 1951. ولعل هناك اليوم حاجة لإلقاء الليبيين نظرة على دستور 1951 لمعرفة ما إذا كان لا يزال يوفر حلولاً وسطاً ملائمة لاحتياجاتهم.
لقد أسهمت مجموعة محددة من الديناميات الاجتماعية في عودة ليبيا إلى أجزائها المكونة. ففي الأربعين سنة الماضية، شهدت البلاد تحضّراً سريعاً أدى إلى تقويض الثقافة القبلية التقليدية وآلياتها الخاصة في تسوية النزاعات. وعمل النظام السياسي الليبي منذ وصول القذافي إلى السلطة على تقويض سلطة جماعات النخبة التقليدية أو البديلة التي شكلت تحدياً محتملاً لقيادته، وهذا ما أسهم في تعزيز سلطته الشخصية عن طريق الحدّ من الضوابط والموازين القبلية التقليدية المفروضة على السلطة التنفيذية المركزية، والقضاء على جميع قواعد السلطة الأخرى. منذ زمن طويل لم يعد ثمة وجود للنظام القبلي التقليدي ولآلية حلّ النزاعات داخل القبائل وفيما بينها، التي يشكل مجلس الزعماء أو الشيوخ أساساً لها. وهذا هو السبب الرئيس وراء فشل كل الجهود الرامية إلى إطلاق عملية مصالحة وطنية تقوم على الآلية التقليدية. والأمر الأسوأ أنّ الشيوخ الحكماء وزعماء القبائل من كبار الأجيال السابقة، والذين كانت لهم قامتهم ومكانتهم بين أقرانهم، حلّ محلّهم قادة ميليشيات، وأمراء حرب، وسياسيون قصيرو النظر لا تحركهم سوى شهوة السلطة الشخصية الطاغية.
وكان احتمال هذا التفكك، في حال الانهيار السريع للسلطة المركزية، حاضراً دائماً، ويمكن التنبؤ به من قبل أي شخص لديه معرفة أساسية بسيطة بالتاريخ والبنية الاجتماعية الليبييْن. وكان من الممكن كذلك تجنب هذا التفكك، أو التخفيف منه على الأقل، لو جعل المجلس الوطني الانتقالي وخليفته المؤتمر الوطني العام المصالحة الوطنية أولوية مطلقة تسبق الرغبة في الانتقام. إلا أن حقيقة أن المصالحة الوطنية لم تُجعل أولوية مطلقة كان ليؤدي حتماً الى الوضع القائم الآن. ومن هذا المنظور، فإن كلتي المؤسستين تتحملان المسؤولية الكاملة عن الوضع الراهن.
أزمة الأمن المفتعلة
تلافى المركزان السكّانيان الأكبران، طرابلس وبنغازي، أي قتال واسع بفضل الانشقاقات الباكرة التي قام بها عدد من كبار أفراد الطاقم الأمني والعسكري. كان منشقو المنطقة الشرقية بقيادة اللواء عبد الفتاح يونس قد التحقوا بالمعركة ضد القذافي، في حين بقي منشقو المنطقة الغربية، ومن بينهم اللواء البراني اشكال، آمر الحامية ذات الأهمية الاستراتيجية، في أماكنهم وساعدوا مع آخرين في تسليم طرابلس وتجنيب العاصمة معركة "زنقة زنقة" التي وعد بها القذافي.
لو بقي هؤلاء الأفراد، على الأقل ريثما يقرر نظام عدالة انتقالية إدانتهم أو براءتهم من أي جريمة، لكانت البلاد تجنبت ما نراه اليوم من فوضى عدمية. غير أنه بدلاً من ذلك، اختُطف يونس وقتل في وقت مبكر جداً، ووسم ذلك الحادث بداية المرحلة التي تعيشها ليبيا اليوم، بما فيها من اغتيالات استهدفت ضباط الجيش ونفي قسري لكثيرين آخرين مثل اشكال. في الوقت ذاته، كان ثمة جهد متواصل من طرف الجماعات المشار إليها لإحباط جميع المحاولات الرامية إلى بناء جيش وطني أو أي شكل من أشكال جهاز الأمن القومي. وجرى حشد جماعات تزرع الخوف والفوضى والعنف العشوائي العدمي، فضلاً عن الاغتيالات التي تستهدف أفراداً يُجمع الكلّ على امتلاكهم طاقة للبناء، خصوصاً في صفوف الجيش. وقد استُخدمت هذه الأساليب على نطاق واسع كي يُضمَن غياب كلِّ قانون أو نظام أو حكومة فاعلة أو أمن.
وباختصار، فقد رفض أمراء الحرب رفضاً قاطعاً فكرة وجود جيش وطني غير أيديولوجي، وأصرّوا على انضمام الميليشيات إلى الجيش كمجموعات، وذلك أساساً من أجل الاستيلاء عليه. وعندما لم يقبل ذلك، لم يوفروا وسيلة إلا واستخدموها لإحباط عملية بناء جيش وطني، بما في ذلك الاغتيالات التي استهدفت ضباطاً قاتلوا إلى جانب الانتفاضة ولديهم المهارة العسكرية والقدرة على بناء توافق. وزادت وتيرة الاغتيالات في الآونة الأخيرة. وامتلاك مهارة القيادة من أي نوع هي المعيار الرئيس لإدراج المرء في قائمة المستهدَفين. أمّا التكتيكات المتبعة في تطهير الساحة من أي قيادة بديلة محتملة فهي مطابقة لتلك التي كان يستخدمها القذافي.
السلاح، السلاح!
منذ بدايات الانتفاضة، تدفق السلاح والمال من "الدول الشقيقة" متضاربة الأهداف إلى جماعات ومناطق بعينها. بعضهم أراد إقامة نظام ليبي إيديولوجي، في حين أراد آخرون عرقلة عودة الاستقرار في إشارة إلى مواطنيهم بعدم جدوى تغيير النظام.
المجتمع الليبي منقسم أفقياً إلى قبائل/ مناطق تقف عقبة أمام نجاح خطط الهيمنة الأيديولوجية التي ناسبت مجتمعات كمصر وتونس المجاورين. لكن توزيع السلاح العشوائي، الذي استهدف إبراز الانقسامات الأفقية في البلاد، أفلح في تحقيق الهدف المنشود، وهو إحباط أي محاولات لبناء وطن يدور حول حكومة مركزية.
تمثلت نتيجة ذلك كلّه في ليبيا مجزأة، مؤلّفة من عدد من المناطق، حيث الحياة اليومية آمنة نسبياً. وفي حين يمثل جنوب البلاد على وجه الخصوص نوعاً من الأرض الحرام، فإنَّ غياب القانون في هذه المنطقة يقف وراء ما نجده فيها من أنواع اللصوصية جميعاً، من تهريب البشر إلى الاتجار بالمخدرات إلى صفقات السلاح التي تجري في العلن من دون أي خوف من القصاص. وأنشطة هذا الجزء من ليبيا تشكّل بحقّ مصدر قلق رئيس للدول المجاورة.
طرابلس العاصمة تتقاسمها مجموعتان من المليشيات. الاولى مكونة من ميليشيات مصراتة ويتخذون فيلات غرور مقراً لهم، تتحالف معها ميليشيات من سوق الجمعة (كتيبة النواصي) وميليشيات أخرى من تاجوراء والزاوية، وهم يشكلون تحالفاً سياسياً يحركهم بعض أمراء الحرب في المؤتمر الوطني العام. والأخرى ميليشيات من الزنتان (القعقاع وكتائب اخرى من جبل نفوسة والزاوية). والخط الفاصل بينهما يمتد من مطار طرابلس الدولي وحتى قاعة الشهداء بحي الأندلس.
طرابلس نفسها بسكانها البالغ تعدادهم 1.6 مليوناً لم "تُحَرَّر". لقد سُلِّمَت نتيجة تفاهم بين كبار ضباط الأمن والجيش والمجلس الوطني الانتقالي. وقد جرى هذا التفاهم في نيسان/ ابريل 2011، وكان يهدف إلى تجنيب العاصمة أي قتال. وتم تنفيذه حرفياً، وضمن ألا يرفع أي عنصر في الجيش أو الأمن سلاحه للدفاع عن النظام ما إن توضع العملية "عروس البحر" موضع التنفيذ. ويعتبر سكان طرابلس الميليشيات القبلية كقوة احتلال ويكنون لها كراهية لا تختلف كثيراً عن البغضاء التي كانوا يكنونها للجان القذافي الثورية التي مارست دوراً مماثلاً. ومن أحدث فظائع هذه الميليشيات قتلها مؤخرا عشرات المدنيين، عندما فتح أفراد من ميليشيات مصراتة النار على متظاهرين كانوا يطالبونهم بمغادرة المدينة. أمّا في بقية البلاد، فنجد تقاسماً للأرض بين مختلف الميليشيات، التي لم يشارك كثير من أعضائها في الإطاحة بالقذافي. التقسيم يقوم ضمناً على أساس التدمير المتبادل الأكيد، حيث يضمن التعايش على أساس هذا المبدأ ألا تمس الميليشيات واحدتها أرض الأخرى.
لو حكمنا بحسب السوابق، فإنَّ بشائر ليبيا ليست سعيدة. بلدٌ تستولي فيه الميليشيات الخاصة على مواقع لها، وتسيطر الجماعات المسلحة على مبان وممتلكات عامة، وتُخاض معارك يومية بين الفصائل المتناحرة، ويزيد كل ذلك سوءاً حكومةٌ مركزية عاجزة لا سلطة لها خارج ضواحي طرابلس، وقليلاً داخلها... بلدٌ يديره أمراء الحرب المتنافسون، باقتصاد دويلاتي مُبَلْقَن، يجلله الفساد والرشوة والمصالح الذاتية المناطقية، روعته حرب أهلية منخفضة المستوى لا تزال دائرة منذ سنوات من دون أن تظهر لها نهاية. هذه هي ليبيا في 2013. وكذلك كانت أفغانستان في أواسط تسعينيات القرن العشرين قبل صعود طالبان وفرضها نوعاً من السلطة والسيطرة.
الجميع فوق القانون
من غير المجدي أن ننتظر من الحكومة حنكة في الحكم أو القيادة في وضع كالذي نراه. لا حكومة في ليبيا، وليس هناك سوى أفراد يحملون ألقاباً رسمية. ولا يملك أحدٌ، غير أولئك الذين تدعمهم الجماعات المسلحة، أيّ قدر من السلطة حتى داخل وزارته. وحين رفض رئيس الوزراء الاستجابة لضغوط المعارضة كي يستقيل، اختُطف من سريره في الفندق فجراً تحت تهديد السلاح واقتيد بعيداً لإقناعه بفضائل الاستقالة الطوعية.
تبخر الكثير من الحماس والتعاطف الأولي مع الشعب الليبي. لا الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة يريدان الغرق في المستنقع الليبي .الجميع لا يريد أكثر من احتواء الضرر داخل الحدود الليبية. عادت ليبيا إلى ما كانت عليه دائماً للعالم الخارجي: حقل نفط ضخم.
قال عبد المجيد في رسالته ما يمثّل لسان حال معظم الليبيين: "أنا حائر ومنزعج جداً على أقل تقدير. قلبي ممتلئ بالحزن والغضب... خيبة أمل كبيرة. لقد بدأت أسأل نفسي. لقد قاتلت من أجل بلد يكون فيه القانون فوق الجميع، وها نحن في بلد حيث الجميع فوق القانون. الأبرياء لا يزالون يعانون. لا أحد في مأمن، بمن في ذلك نحن".
في لقاء جرى مصادفة في أحد المطارات الدولية، سألت اثنين من أعضاء المؤتمر الوطني العام الليبي عن ردة فعلهم حيال قيام مسلحين بخطف رئيس الوزراء. وكان مفاد إجابتهم أنَّ المسألة ليست بتلك الأهمية. لم أدرك إلا حينها أنني لم أفلح من قبل في رؤية اختطاف رئيس الوزراء في سياقه الصحيح، سياق بلد مُخْتطَف عن بكرة أبيه.
وبينما كنت أتجه إلى بوابتي في المطار رحت أتساءل ما الذي يجعل هذين السيدين واثقين من أنّ جوازَي سفرهما الدبلوماسيين سيظلان محتفظين بقيمتهما لدى مضيفيهما حين يدرك الجميع أنَّ ليبيا تغدو بسرعة مجرد هيكل جيوسياسي من هياكل الماضي.