الانتقال السياسي في تونس يشبه ثورتها: مليء بالمفاجآت. فبعدما كانت معظم وسائل الإعلام المحلية والعالمية، قبل أقل من شهر، تؤكد على أن هذا الانتقال يراوح في مكانه ويواجه مأزقاً لا حل له، يبدو أن هناك أغلبية تحتفل اليوم «بالنموذج التونسي». والحق، تبدو تونس على الطريق السليم مقارنة بمصر وسوريا واليمن والعراق والبحرين. فـ«الحوار الوطني» (راجع «هل ينقذ الحـــوار الوطنــي الثــورة التونسـية؟» بتاريخ 13/11/2013 )، وتنازلات التحالف الحاكم («الترويكا»)، والضغوط العالمية، ويقظة المجتمع المدني وحراكه ـــ على خلفية التمردات والاضطرابات التي اختفت بالسرعة نفسها التي ظهرت فيها ـــ كل ذلك سمح باستعادة المجلس التأسيسي لأعماله بشكل صائب. ويظهر أنه سيتم تبني الدستور قبل نهاية هذا الأسبوع. أكثر من ذلك، استقالت رسمياً حكومة علي العريض الإسلامية وسميت حكومة «تكنوقراط مستقلين» يديرها وزير الصناعة السابق مهدي جمعة.
وجرى تشكيل هيئة عليا مستقلة، مكلفة بالإشراف على الانتخابات المقبلة. لا يجوز في مثل هذه الظروف إفساد الحفل أو الضغط على النقاط الموجعة، وإنما ينبغي تفحص هذا الذي يبدو أقرب إلى المعجزة. فعن أي نموذج نتكلم بخصوص «المثال التونسي»؟بعيداً عن الخطابات حول الانتقال الديموقراطي التي تتراوح بين الذم والمديح، يظهر من تحليل السيرورة الثورية المنطلقة منذ كانون الاول/ديسمبر 2010، أن التقدم السياسي في الأشهر الأخيرة لا يمكنه أن يحجب الشكوك بخصوص الدينامية التي افتتحها الشعب المطالِب بإسقاط النظام. وهذا التقدم يمثل ضماناً متيناً لترسيخ عقد اجتماعي جديد تتكون ركائزه الأساسية من الدولة والمؤسسات التمثيلية.
نحو تونس ديموقراطية
تبني دستور جديد هو مطلب مركزي للثورة التونسية، عبرت عنه خلال أحداث القصبة الثانية (شباط/فبراير - آذار/مارس 2011). التحق آنذاك بالحركة الاتحاد العام التونسي للشغل وبعض الأحزاب السياسية ومنها حركة النهضة، مطالبين برحيل الحكومة المؤقتة وحل «التجمّع الدستوري الديموقراطي» (حزب الرئيس بن علي) وتشكيل مجلس تأسيسي.
ويفترض بالدستور الجديد أن ينظّم شروط توزيع السلطة وكذلك العلاقات بين السلطات العامة، وأن يعين الحقوق والحريات الرئيسية، وفق النفَس الثوري الذي أنتج المجلس التأسيسي. من المفرح أنه جرى تثبيت حريتي الرأي و التعبير، وحرية الاعتقاد، والنشر، الى جانب الحريات الاكاديمية، واستقلال القضاء، والمساواة بين المواطنين والمواطنات (التي ليست تماماً هي نفسها المساواة بين الرجال والنساء)، والحق بالعمل، وفصل السلطات.
فكل هذه الأحكام تُعتبر ضمانات فعلية لتَحقُق تونس ديموقراطية يتوفر فيها، بخلاف ما كان قائماً، مساواة التونسيين في الحقوق والواجبات، وتَحول دون استغلال السلطة ودون ممارسة قانون الأقوى كمرتكزات للشرعية.
دستور حداثي وعلماني؟
إلا أن النموذج التونسي لا يتمثل في اعتماد دستور حداثي وعلماني. فعلى الرغم من فرح العلمانيين والتقدميين التونسيين والأجانب، الذين يتشاركون في كراهية عميقة للإسلام السياسي، لا يهم في الحقيقة أن يُثْبت الدستور «عصريته» أو بالعكس «تقليديته»، (ومن المعلوم أن المفهومين مصطنعان)، أو أن يضمن حيادية الدولة في الشأن الديني. إن التركيز الإعلامي على الإحالة إلى النص الديني أو الشريعة في الدستور، ورديفه، أي الجدل حول مكانة حقوق المرأة، يترجمان تجاهلاً للواقع الاجتماعي التونسي على الأخص، والعربي عموماً، كما يمثّلان إسقاطاً مصطنعاً لمخاوف وتخييلات عن «الشيطان الإسلامي» وحلفائه. إنّ تركيز الأنظار على الحريات الفردية ـ وبخاصة التي تتعلق بالنساء ـ هو استعادة، سواء كانت واعية أو غير واعية، لما تخيّله الزعيم الأسبق الحبيب بورقيبة من أفكار مبسطة عن تونس («باني تونس الجديدة ومحرر المرأة»، كما يقول الشعار الرسمي)، بينما هو في حقيقة الأمر أول مؤسِسي النظام الاستبدادي. وهذه طريقة للتعمية على الانتهاكات التي مارسها نظامه ثم نظام بن علي بحق النساء، باسم العلمانية والقيم العالمية الشاملة.
فذلك النظام هو الذي أرسى عدم المساواة بين النساء والرجال في الميراث، في قانون الأحوال الشخصية سنة 1956. وفعلياً، تبقى «تونس الخضراء» تلك، التي صنعها بورقيبة وحداثته، تمييزية وغير عادلة تجاه النساء وتجاه الطبقات الشعبية الهشة والمحرومة.
الآمال المحبَطة للديموقراطية الاجتماعية
الدستور بذاته ليس إلاّ واحداً من المطالب الثورية المتعدّدة. بينما تبقى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وضمان حماية المجتمع للفئات الضعيفة، الجزء الأقل أهمية من هذا البناء الدستوري الجاري، رغم أنّها كانت تشكل المطالبات الأساسية في الأيام الأولى من الثورة.
ولعل هذا ما يفسّر قلة اهتمام العديد من التونسيين من الطبقات الشعبية بأعمال المجلس التأسيسي، تماماً مثل عدم اهتمامهم بمفاوضات الحوار الوطني التي سبقتها. فبالنسبة إليهم، لم يحقق النص السامي الذي أنتجته النخبة السياسية، الديموقراطية الاجتماعية التي يطمحون إليها، والتي يدركون بقوة أهميتها ويعرفون بدقة معناها. كما أنّهم يعرفون أنه من دون الإرادة السياسية بإنشاء مؤسسات ديموقراطية وعادلة، فسيبقى الدستور مجرد حبر على ورق، دون تأثير على الواقع. وأن تبنيه لن يغيّر بذاته المجتمع التونسي، المخترق بتشققات متعددة، والمؤسَّس على نمط اقتصادي مفوَّت ومنتِج للإقصاء.
وبالتالي، فإنّ توظيف الخريجين الجامعيين المعطلين عن العمل، والضمان الاجتماعي الشامل، وتوفير الغطاء للمخاطر الاجتماعية... أي باختصار الدولة الرعائية، ما زالت تنتمي إلى عالم الأوهام طالما لم يُفتتح نقاش عام جدي بشأنها. وبالمقدار نفسه، فإن ملفات العدالة الانتقالية ومحاسبة الجلادين السابقين عولجت حتى الآن بقلة احتراف واستهتار، وخَضعت لحسابات سياسية، رغم اعتماد قانون خاص بهذا الشأن مؤخراً.
المجلس التأسيسي في صلب السيرورة الثورية
وبمقابل كل هذه الاستحقاقات، كانت أعمال المجلس التأسيسي مناسبة أمام الطبقات الوسطى والعليا لعكس مخاوفها وتهويماتها. لذا فلم يكن من السهل تبني دستور يرضي أغلب الفاعلين السياسيين، سواء من الممثلين في المجلس أو الموجودين خارجه (كنقابات الشغيلة وأرباب العمل أو الرابطة التونسية لحقوق الإنسان).
ومنذ 3 كانون الثاني/يناير 2014، دارت نقاشات حول فصول الدستور التي يجري التصويت عليها واحدة تلو الأخرى، وكانت هذه النقاشات مليئة بالحماسة بل وبالعنف أحياناً، ولكنها توصلت إلى شكل من التوافق. ويتضمّن ذلك ترتيبات مثل صلاحيات رئيس الحكومة (الفصل 90) أو استقلالية القضاء (الفصل 103) التي أسالت حبراً كثيراً، ولكنها وجدت مخرجاً راقياً لكل الفرقاء. وقد أظهرت مضامين هذه النقاشات، انه رغم قلة الشعور بالمسؤولية لدى جزء من النخبة السياسية ـ الإسلامية منها أو المعارِضة ـ المستعدة للاستنفار حول مسائل ثانوية، ولمفاقمة التوترات الشديدة إلى حد تهديد الانتقال السياسي نفسه، رغم كل هذا، فقد جرى تثبيت الإطار القانوني للمجلس التأسيسي كالفضاء الوحيد للنقاش ولبناء العقد الاجتماعي المقبل.
وإن كان إشهار أعمال المجلس التأسيسي إعلامياً (حيث الجلسات تنقل على الهواء مباشرة على القناة الوطنية الثانية) يؤجج السلوكيات العدوانية والمداخلات المنبرية للنواب، فإن أعمال هذا المجلس كانت تكتسب فعالية مضطردة. ومهما قال منتقدوها الذين طالما طالبوا بحل المجلس منذ تشرين الأول/أكتوبر 2012، فإن التوزيع على لجان مختصة، وتحديداً لجنة التوافقات، والتحضير المسبق لصيغ مختلفة من الدستور، تظهر كلها أن العمل كان جباراً، وأن المراهنات تمتلك حظوظاً كاملة بالتحقق. وهذا النجاح، وإن لم يكن كاملاً بعد، يعزز ثقة التونسيين بالمؤسسات الشرعية، وفي نهاية المطاف بالدولة التي ما زالت اليوم تمثل موضع الخشية الأساسي للناس، وموضع أملهم الأساسي في آن.
وفي الخلاصة، هناك درسان يمكن استنتاجهما من التجربة الثورية التونسية. الأول هو أن هذه التجربة تزيد في تهشيم الخرافة التي تصوِّر البلدان العربية ـ الإسلامية وكأنّ لديها حساسية أو نفوراً من الديموقراطية.
وقد وجدت هذه الخرافة المتينة، المتداوَلة في الغرب كما من قبل النخب العربية المتسلطة، حياة ثانية مع الإحباطات التي عرفتها الحركات الثورية، لاسيما في مصر وسوريا. على العكس من ذلك، فإن التداول السلمي على السلطة، وضمان حرية التعبير، والنقاش الدائم والمفتوح وإن كان عنيفاً أحياناً، واحترام المؤسسات القانونية وإن كانت شرعيتها غير تامة، واعتماد قواعد للعبة متساوية ومحترِمة لمساهمة الجميع، تتضافر جميعها يوماً بعد يوم لترسيخ الثقافة الديموقراطية في بلادنا.
ومع ذلك ـ وهذا هو الاستنتاج الثاني ـ فلا ينبغي أن ننسى أن التقدم السياسي الفعلي في الأشهر الأخيرة قد اقتصر على الحقل السياسي، وأنه يبقى الكثير مما هو مطلوب إنجازه حتى تتحوّل كلمات «شغل، حرية، كرامة وطنية» الى ترجمة ملموسة، تندرج تحديداً في برنامج سياسي متماسك يحظى بتأييد شعبي.
بانتظار ذلك، يجب علينا أن نحتفي بـ«العيد الديموقراطي»، مع الأمل بأن خريطة الطريق التي حددها «الحوار الوطني» ستُحترم فعلاً من قبل فرقاء هذه الثورة كافة.