وإنْ اختارت الدولة التونسية والأحزاب السياسية الرئيسية تثبيت الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011 كتاريخ رسمي للثورة، إلا أن العملية الثورية لم تبدأ في هذا التاريخ، وهي لا تزال سارية المفعول الى الآن.
السرد الروائي للأحداث
تشكّل هذه الذكرى مناسَبة للعودة إلى جذور العملية الثورية التونسية، لكن من وجهة نظر سوسيولوجية. فمنذ هرب بن علي، نُسجَت العديد من الروايات الأسطورية، في الوقت نفسه من قبل كتاب ومناضلين ومفكرين، وحتى من باحثين، أكانوا تونسيين أم أجانب، وحاولت شرح وتفسير ما الذي حصل في تونس. هذه الروايات التي نادراً ما وُوجهَت باختبار الواقع، بمعنى أنها لا تستند على أبحاث ميدانية، تكرر فرضيات ذهنية و«أفكاراً» جاهزة، مهمتها محاولة الكشف عن حقيقة الأحداث. وهي تتشكّل كخطابات سياسية تحاول إعادة كتابة التاريخ على شكل خطاب علمي. السردية الأقوى هي من دون شكّ تلك التي تدّعي أنّ الثورة كانت عفوية وخالية من أي تنظيم. وبحسب هذه الراوية، فإنّ الثورة «انفجرت» في المرحلة الأولى بعد انتحار محمد البوعزيزي، ثمّ «انتشرت» أولاً في منطقة سيدي بوزيد، وفي كامل أرجاء تونس لاحقاً، لتؤدي فعل «بقعة الزيت» و«العدوى» و«التمدُّد» في العالم العربي في مرحلة ثانية. وفق هذا المشهد، فإنّ «شرارة» البوعزيزي أشعلت نار الثورة: لقد قام التونسيون يداً واحدة لهزم الديكتاتور، وقد قام نظراؤهم المصريون والليبيون واليمنيون والسوريون... بتقليدهم.
تمتلك كتابات التاريخ هذه، قوة الدليل بالنسبة لمريديها. إلا أنها في المقابل لا تصمد، لا أمام الامتحان التجريبي، ولا إزاء الواقع الاجتماعي للأطراف الفاعلة في هذه الثورة. فخلال عامَي 2011 و2012 ومن خلال بحث ميداني واسع أجريَ في تونس العاصمة وفي مناطق سيدي بوزيد وقبيلي وبنزرت، حول مناضلين سياسيين ونقابيين وشباب عاطلين عن العمل، من حَمَلَة الشهادات وممن لا يحملها، ومن سكان أحياء شعبية، تمكنّا من فهم درجة خطأ هذه الروايات ومبالغتها، وهي التي تتداولها مجموعات اجتماعية من مصلحتها بثّ هذه الصورة عن ثورة غير سياسية وقعت في تونس، ثورة غير منظمة وتفتقد للموقف المتّسق والمنسَّق.
كيف تقوم الثورات؟
تُعلّمنا سوسيولوجيا التحركات والثورات، أنه طالما أن أسباباً بنيوية (كالبطالة والفقر والقمع...) لا تتخذ شكلها في إطار خطاب متّسق يتم بثّه داخل مجموعات عديدة، فإنها لا تكفي وحدها بطريقة آلية كي تؤدي إلى نشوء حركة اعتراض. لا يتحرك الأفراد أو المجموعات بشكل تلقائي لمجرد أنهم يعانون من أوضاع سيئة، مهما بلغت درجة بؤسها وقساوتها. غالباً ما يحصل عكس ذلك أصلاً. إنْ عدنا إلى الثورة الفرنسية، نتذكر أنّ الذين تحرّكوا لقلب النظام القديم لم يكونوا المزارعين الذين كانوا يشكلون التجسيد الأوضح للبنى الاجتماعية ــ الاقتصادية التي تفتقد للمساواة في النظام القديم... فمَن تحرّك لقلب ذاك النظام كانت البورجوازية.
ويمكن إدراج الملاحظة نفسها في الحالة التونسية: فالسخط كان موجوداً بالفعل قبل 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 (تاريخ حرق البوعزيزي نفسه). وكان لهذا السخط مصادر غير متجانسة بحسب المجموعات الاجتماعية: البطالة الممتدة زمنياً، والإقصاء، والقمع، وانتهاك حقوق الإنسان والحريات والفساد... لا شكّ في أنّ كل هذه الظروف التي لا تُطاق تخلق، على المدى الطويل، حالة استياء. لكن هذه الحالة لا تصبح أبداً بشكل تلقائي وطبيعي حركة اجتماعية، ولا فعلاً احتجاجياً جماعياً ولا طبعاً ثورة.
كي يولد أي حراك احتجاجي، يجدر أن يتوفّر أشخاص «حقيقيون»، وشبكات تواصُل وتنظيمات وموارد (مادية ورمزية) وظروف مناسبة. عندها، تبدأ مجموعات اجتماعية عديدة لا تربطها معرفة بعضها ببعض، أو تربطها معرفة ضعيفة، وغير معتادة على القيام بالاحتجاج سويةً، أو حتى على تبادل المواقف والآراء وعقد اللقاءات، تبدأ بشكل جماعي بتبادل الخبرات والمواقف، وبناء بنية تحتية تتمتع بدرجة معينة من الصلابة تسمح بحصول أمرين: التوسُّع الاجتماعي للتحرك، وتمدُّده إلى خارج الإطار الجغرافي الذي انطلق منه. هذه هي تحديداً الآلية المعقَّدة التي لاحظناها في الحالة التونسية. فمنذ 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، وحتى قبل ذلك التاريخ، (نذكر تحركات العام 2008 في الحوض المنجمي)، كانت هناك فئات هامشية من المواطنين تعبّر عن مجموعة من المطالب، ويصيغون شكاوى ذات طابع اجتماعي وسياسي. حول هذا الموضوع، من الخطأ القول، انطلاقاً من تكرار معزوفة الانقسام بين الداخلي/الخارجي، والشعب/النخب، إنّ جذور الثورة أو شكلها البدائي تعود إلى الانتفاضات التي انطلقت من المناطق «المتخلّفة» (سيدي بوزيد، قفصة، القصرين) في ظل شعارات رئيسية تُختصر بطلب التوظيف وتحسين مستوى المعيشة وشروطها، وقد أخذت هذه العناوين «شكلاً سياسياً» في العاصمة أمام وزارة الداخلية في 14 كانون الثاني/يناير 2011.
خلافاً لهذه النظرة الانقباضية (غير الإرادية، التي تغفل الفاعلين الاجتماعيين) للسلوك الجماعي (الشعب ينتفض عندما يجوع وعندما يعاني كثيراً)، نلاحظ أنه منذ 18 كانون الأول/ديسمبر في سيدي بوزيد، حصل الترابط بين المطالب الاجتماعية والسياسية: وُلد شعار «العمل حقّ، يا عصابة السرّاقين!» بفضل نجاح وطني خلال تظاهرة. بالتالي، كان الحراك في آن واحد، ومنذ بداياته، اجتماعياً وسياسياً.
إنّ التسييس السريع للحراك لا يحصل بشكل «طبيعي» أو عفوي. لا بل على العكس من ذلك، فهذا التسييس يفسّره ترابط وتنسيق الأنماط المختلفة للتحرك، التي لا تعتمد بشكل كامل على عامل الصدفة، والتي سيؤدي عاملا الاحتمال والعَرَض معاً دوراً أيضاً إلى جانب الأبعاد الأكثر بنيوية التي ترتبط بطبيعة ميدان النضال النقابي والسياسي أكثر من تعلقها بالتاريخ الطويل نوعاً ما التي تندرج في إطاره تلك الثورة.
الشروط المتوفرة
لقد سمح التفحّص السوسيولوجي بتوضيح كيفية تخطّي ضرورات تنظيمية ثلاث عبر تحالف أطراف يجمع فيما بينها تنسيق إلى حدٍّ ما.
أولاً، توفّرت في سيدي بوزيد كما في مناطق أخرى، تجمعات لمناضلين مستعدّين للتحرك، ممّن استخلصوا الدروس من الانتفاضات السابقة، كانتفاضة الحوض المنجمي في 2008 (خصوصاً ضرورة تخطّي العزل الاجتماعي والجغرافي). لا تعمل جميع تجمّعات المناضلين تلك على الموجة السياسية نفسها، لكن معظمها ينتمي إلى أقصى اليسار، مع اتجاه عام قومي عروبي، أو تروتسكيّ. يشترك هؤلاء بمراكمة مهارات حول التعاطي مع القمع الذي مارسه عليهم نظام بن علي، فضلاً عن كونهم على اتصال مستمر نوعاً ما في ما بينهم.
ثانياً، انخرط معظم هؤلاء الناشطين في إطار تنظيمي قوي لم يحظره النظام: الأقسام القاعدية لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل» UGTT، وهو التنظيم التونسي الوحيد وإن كان صاحب هدفٍ نقابي مؤكد، إلا أنه عملياً شديد التسييس، وتتميّز قاعدته (خصوصاً موظفي قطاع التعليم الابتدائي والثانوي) مقارنة بمكتبه التنفيذي براديكاليتها التي سبق لها أن أثبتتها في مناسبة تحرّكات احتجاجية سابقة.
ثالثاً، بُني ترابُط مع السكان على امتداد السنوات السابقة، خصوصاً مع صغار المزارعين والمحامين وموظفي القطاع التعليمي المدرسي وجماعة المدوّنين. أُرسيَت علاقات تضامنية قوية للغاية أحياناً في مناسبات مختلفة أهمها حركة الردَيِّف في 2008، وحملة التضامن مع غزة في 2009، واحتجاجات صغار المزارعين في مدينتَي الرقاب وسيدي بوزيد عام 2010، وانتفاضة بن قردان في 2009 و2010.
هذه الأسس التنظيمية الثلاثة سهّلت بشكل كبير تسييس حدث انتحار محمد البوعزيزي وسرّعته. ولم يكن الانتحار ذاك هو الأول من نوعه. فخلال الأشهر العشرة الأولى من العام 2010، سُجّلت أكثر من 300 محاولة تضحية بالنفس حرقاً في مستشفى معالجة الحروق في بن عروس. معظم تلك الحالات حصلت من مناطق داخلية وعلى الملأ أمام مقر يرمز إلى الدولة: مبنى المحافظة، البلدية، أو مؤسسة تربوية.
لماذا واقعة البوعزيزي؟
لقد أثّر ظهور محاولات الانتحار هذه وتكرارها على الأراضي التونسية كافة، على كل من السكان والنظام وأقلقهما. كانت محاولة البوعزيزي «محظوظة»، لكونها حصلت في مدينة ذات أهمية متوسطة، محاطة تحديداً بخلايا حزب «التجمع الدستوري الديمقراطي» الحاكم آنذاك، لكن يقطنها موظفون نقابيون وعاطلون شباب عن العمل من حمَلَة الشهادات. على الرغم من الرقابة التي مارسها النظام، فإنّ خبر حرق البوعزيزي لنفسه، الذي علّق عليه في اليوم نفسه أفراد عائلته، انتشر بسرعة على المستويين المحلي والدولي. في سيدي بوزيد والمنطقة المحيطة بها، شكّلت الكثافة السكانية والقرب من سوق مزدحم ترتاده المنطقة بأكملها، الشبكة الأولى من المعلومات. في اليوم التالي، بثّ الخبر مناضلون نقابيون يتواصلون مع محطات فضائية، مفيداً بأنّ «عاطلاً عن العمل يحمل شهادة جامعية» أحرق نفسه بعد تلقّيه صفعة من شرطيّة في البلدية. وقد تم التداول بهذه الشائعة، الكاذبة عمداً، خلال الأيام العشرة الأولى لما كان في البداية مجرد انتفاضة محدودة، لكنها تستهدف الحزب الحاكم مباشرةً.
إنّ تسرُّب هذا التحرك إلى خارج سيدي بوزيد حصل بواسطة هذه «الشبكات النائمة» التي ألّفتها قطاعات «الاتحاد العام التونسي للشغل» UGTT. أولاً، على صعيد المحافظة، ثم منذ نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر باتجاه الغرب التونسي (خصوصاً القصرين). في معظم الحالات، تكرر المشهد نفسه: يتم تنظيم تظاهرات سلمية نهاراً، بينما تندلع الاشتباكات ليلاً، لا بل حرب عصابات حقيقية بين قوات حفظ النظام وسكان الأحياء الفقيرة. وقد عرف التحرك نقطة تحول مميزة منذ اعترف به النظام، بخلاف ما حصل في أحداث الرديّف التي ظل بن علي يرفض التحدث عنها علناً. إنّ جعل هذه الأحداث مادة إعلامية بشكل غير رسمي (من خلال مواقع التواصل الاجتماعي) ورسمي (عبر وسائل الإعلام الوطنية والدولية)، أدّيا دور الناقل الإضافي للحراك إلى سكان كانوا لا يزالون حتى تلك اللحظة بمعزل عن هذه الحركة الاحتجاجية. وتوضح جغرافيا انتشار التحركات، إلى أي درجة كانت المدن الأفقر (القصرين، تالة، وتحديداً الجنوب الغربي للبلاد)، وقلب التكتلات السكانية للساحل، والأحياء الأكثر شعبيةً في المدن، في مقدمة التحركات الاحتجاجية.
انصهار الاستياءات
في النهاية، وفي التظاهرة الكبرى لـ14 كانون الثاني/يناير 2011، اندمجت الاستياءات المختلفة للمجموعات الاجتماعية المتنوعة (الشباب والأقل شباباً، الرجال والنساء، العاطلين عن العمل من حملة الشهادات ومن غير حملة الشهادات، أعضاء الطبقات الشعبية والوسطى والعليا)، فاتحدوا لأسباب مختلفة ضد نظام السابع من تشرين الثاني/نوفمبر. وقد أدّى ذلك إلى تسارُع تلاشي دعم النخب الاقتصادية والسياسية للنظام، فضلاً عن الدعم الدولي له، وهو ما سرّع هرب الرئيس السابق.
يظهر هنا بوضوح كيف أن الفكرة التي تفيد بأن الثورة كانت عفوية، سقطت بالكامل على مذبح الواقع. لا يمكن لأي حركة طويلة ومكثّفة موجهة ضد نظام سياسي معين أن تصمد من دون توفر بنية تحتية بشرية قادرة على تنظيم العمل الجماعي، وعلى ربط الأفراد بعضهم ببعض، حتى ولو حصل ذلك بالحد الأدنى. على العكس من ذلك، نلاحظ إلى أي درجة كانت الثورة منظمة ومحضّرة.
وحده البحث الاثنوغرافي يسمح بقياس دور الظروف والأعمال التي غالباً ما تكون غير مقصودة في ترتيب ومفْصلة الواقع الاجتماعي المشترك بين مجموعات مختلفة، وتزويد هذا الواقع بمعنى سياسي موحَّد. هكذا أصبح إسقاط النظام تدريجياً، ومع سير العملية الثورية، هدفاً وحيداً يؤدّي دور المحفّز الذي سيتكرر بعد شهر واحد بالكاد، خلال الوضعية الثورية الثانية في القصبة بالعاصمة التونسية.
(يُنشر بالاتفاق مع شهرية le Maghreb Magazine، العدد 17، 2013).