«طبقة الزيت»: يمنيون مستشرقون!

هذه المادة مكتوبة بناء على ملاحظات شخصية ومشاهد يتعثر بها الكثير من الناس في صنعاء. ليست بحثاً علمياً ممنهجا، ولا تعكس حقداً على فئة معينة من الناس. ولكن إن أصر البعض إلاّ أن يفهمها كذلك، فليكن! فذلك أقل ما يمكن أن يُتخذ كموقف من فئة تدعي الحديث باسم اليمن وهي لا تعرفه. وبالتأكيد لكل شيء استثناء، إلا أن النص يتحدث بالضبط عن كل من يعتقد انه الاستثناء. في مطار صنعاء
2014-02-05

فارع المسلمي

رئيس مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية


شارك
(من الانترنت)

هذه المادة مكتوبة بناء على ملاحظات شخصية ومشاهد يتعثر بها الكثير من الناس في صنعاء. ليست بحثاً علمياً ممنهجا، ولا تعكس حقداً على فئة معينة من الناس. ولكن إن أصر البعض إلاّ أن يفهمها كذلك، فليكن! فذلك أقل ما يمكن أن يُتخذ كموقف من فئة تدعي الحديث باسم اليمن وهي لا تعرفه. وبالتأكيد لكل شيء استثناء، إلا أن النص يتحدث بالضبط عن كل من يعتقد انه الاستثناء.

 في مطار صنعاء الدولي، بدت تلك الفتاة المخملية الجميلة بغاية السخط والحزن، وكأن كارثة قد حدثت للتو. اكتشفت لاحقا أن السبب هو أن موظف الجوازات ختم لها في صفحة جديدة من جوازها، حارماً إياها من مساحة كانت ستحتاجها للتأشيرة ربما العاشرة إلى أوروبا خلال العام. ذلك هو أكثر ما يغضبها في بلد منكوب كاليمن، وذلك ربما أكبر ألم بإمكانها مواجهته. ولكي ندرك حجم الفجوة التي تعيشها اليمن بين الطبقة المخملية المعزولة عن المجتمع، وكم هي عالم متحوصل ومغلق على ذاته، يكفي ذكر عدد الجرائد الناطقة باللغة الانكليزية في بلد يعاني من الأمية قرابة 50 في المئة من سكانه: سبع صحف ومجلات، مقارنة بجريدة واحدة في لبنان مثلا، وهو بلد أغلب سكانه يتحدثون العربية والانكليزية بطلاقة. هذه الفئة المعزولة عن اليمن، ليست معزولة عن أوجاعه الاجتماعية فحسب، وإنما أيضا عن تلك السياسية. وعندما يطلق عليها أحدهم «المستشرقين اليمنيين» على اعتبار أنهم سيبدون مستشرقين لو خرجوا من فيلاتهم الباذخة، ورأوا اليمن واليمنيين على أرض الواقع، وربما كان المستشرق الاجنبي ليتعاطف مع أوضاع العامة ويفهمها أكثر منهم.
 اليمن بخير وكل شيء على ما يرام. هكذا ترى هذه الطبقة الهلامية الإدراك، التي ترغب في الحفاظ على الأوضاع كما هي دائما، لدرجة تذكرك بمهراجات الهند في القرن التاسع عشر والعزل الذي كرسته كثقافة طبقية. وهي نفرت من أحداث 2011 ، على اعتبار أن من خرج إلى الساحات معبرا عن رفضه لاستمرار الوضع القائم حينها وللنظام الذي تسبب فيه، هم فقط مجموعة من الشباب المخدوعين والعاطلين، وأن المجاعة والحروب والتوريث، هي أمور مختلقة ولم تحدث أبدا في اليمن. بالنسبة لها ، ولغياب الحس الإنساني لديها، فإن المشكلة الوحيدة التي كانت تمر بها اليمن هي تأخر التوريث، الذي كان سيحل بنظرها بعض الأمور الهامشية، وهي الوحيدة التي تعاني منها اليمن.
  الجنوب مثلا هو أصلا بلد أنقذته هذه القيادة السياسية بموافقتها على الدخول في وحدة 1990، وأما الملايين الجائعون فهم بأنفسهم أصروا أن يكونوا هكذا، وإلا فان «القيادة السياسية» تريد القضاء على الفقر. 
هذه الرؤية ما زالت تتجلى الآن عبر التقديم الأسطوري المسبح باسم الحوار الوطني ( التائه)، صارخة « ماذا تريدون بعد؟ وما البديل؟» ، على غرار «من البديل ؟« قبل 2011. وكأنه مثلا حرام على بلد ضحى بالعشرات من أبنائه أن يحظى بحوار حقيقي، أو أن يطالب بزعماء سياسيين محترمين. 
في 2009، ارتبط الجزء المسيس من هذه الطبقة بما عرف بـ«الأولويات العشر»، التي أعدتها مجموعة من التكنوقراط الأثرياء العاملين على إعداد ابن الرئيس السابق لوراثة أبيه في الحكم. وقُدِّمت بمباركة المانحين على أنها «الأمل القادم» لليمن. وهذه النقاط العشر يمكن تلخيص فلسفتها باختصار في أنه لا يوجد أي مشكلة في القيادة السياسية اليمنية، وإنما المشكلة في الشعب. وأنه بمجرد اعتماد بعض النقاط الفنية فستصلح الأمور! 
واليوم، وبعد أن فرغت من سلخ القوى المنادية بالتغيير في العام 2011 ، وامتطت الموجة الاستحواذية على القرار بعباءة جديدة، تغمض عينيها عن الكوارث التي تحيط بالبلد، وتعلن أن الوضع الاقتصادي والأمني والسياسي يتحسن، وبخطى واثقة، بدلالة أنه يمكن الاستمتاع بآيس كريم «باسكن روبنز»، فهو لم يغلق أبوابه بعد. وهذا مقياس اقتصادي هام ومفصلي!
 من الصعب أن تشرح لهم ما يجري في 99 في المئة من اليمن التي يتكورون في واحد في المئة منها، ويحتكرون في الوقت ذاته قرابة 85 في المئة من ثرواتها. بالنسبة لهم، أنت تتحدث حينها عن بلد آخر، ليس اليمن بالتأكيد ولا يشبهه أبداً. 
حينما يرتفع عدد الساعات التي ينقطع فيها التيار الكهربائي في مدن عدة إلى ما يقارب 20 ساعة يوميا، بفعل الأعمال التخريبية، فإن حاجة طبقة الهلام هذه لشراء البنزين للمولد الكهربائي الضخم، هي وحدها ما يجعلها تنتبه إلى انقطاع في الكهرباء منذ أيام، ويستحق غضبها العارم. وقبل هذا كله، هي أصلا لا تدرك، أو لا تريد أن تدرك أن اغلب المناطق اليمنية غائب عنها تماما التيار الكهربائي، ولم تصلها الأخبار عن موت بعض المرضى في مستشفيات صنعاء وغيرها، بسبب توقف الأجهزة الطبية لانقطاع الكهرباء. كما أنها لا تعرف شيئا عن الانقطاع الذي يطول لساعات في المحافظات الساحلية التي يشوى أهلها بالحر كل صيف، ومنذ عقود.
 مع ذلك، فإن قرأت حسابات الفيسبوك المتعلقة بهؤلاء، فستراهم في حالة ثورة عارمة على الحكومة، والمسؤولين، لأن بطء سرعة النت أخذت منهم وقتا أطول مما يجب لتحميل آخر أغنية لـ«ليدي غاغا». 
أي مشكلة يمنية تقاس لديهم بما يمكن أن تعكسه عن مظهرهم في الخارج. لدى «الرجل الأبيض» على الأكثر. مثلا ستراهم يقذفون القات بأقذع الشتائم، لأنه يجرح جمالهم خارجيا ويخدش صورهم الأنيقة عند الآخر، فيتعاملون مع المشكلة بالتأفف من ارتباطها بالإنسان اليمني.
 لا يدركون المعنى النفسي للقات، وانه حينما يمضغ اليمني القات فإنه يمضغ الكثير من الأحلام والآلام والمآسي التي يزرعونها هم في حياته. وعلاوة على ذلك كله فإنه يمضغ وجودهم في حياته أصلا.
 بالتأكيد القات مشكلة كبيرة، وتستهلك الماء والوقت والصحة والاقتصاد، لكن المشكلة الأكبر هي تسطيحهم لها، كالتفكير بها من منطلق «مظهري» بحت، بسبب عقدة النقص تجاه «الاجنبي».
 التسطيح للقضايا والمراحل والتاريخ لا ينتج تماما من غباء في كل الأحيان، وإنما هو يكون أحياناً فرصة لهذه النخب الناطقة بالانكليزية أفضل من العربية لأن تُفصِل مشاكل البلد على مقياس فرص شخصية ومهنية دائمة لاحتكارها تمثيل اليمني المعزول عن صوته خارجياً وداخليا.  
حينما تقرر هذه الطبقة أن تخوض معركة معينة من أجل فئة اجتماعية ما، فإنها تخوضها من أكثر أبوابها انحرافا وأقلها يمنية. مثلا ستخطب لساعات عن أهمية الكوتا للمرأة، وكيف أنها الحل الوحيد لتمكين المرأة في الشأن العام. ومع أن ذلك من حيث المبدأ ليس خطأ، إلا أنه أكثر نضال مضلل على الإطلاق؛ ذلك أن المطالبة بكوتا لفئة اجتماعية معينة في اليمن، هو افتراض يوحي بأن باقي الفئات الاجتماعية مُمكّنة ومشارِكة سياسيا. بمعنى آخر، فإن الحاجة في اليمن هي لكوتا للشعب بأجمعه، ضمن معركة وطنية شاملة وجامعة تنتزع فيها الحقوق السياسية من أيادي النخب المحتكرة لها والمقصية لجميع فئات الشعب. 
لكي تعيش في اليمن، عليك أن تبلع ريقك كأنه حجر احيانا كثيرة، وتضغط على نفسك بكل ما لك من قوة وحكمة ورزانة، وأنت تستمع إلى هذه النخب وتتعثر بها في العالم الافتراضي والواقعي. يستحق اليمني جائزة نوبل للصبر في نهاية كل يوم، ما دام قادراً على الحفاظ على حصافته وأدبه أمام هكذا اعتداءات على إنسانيته ومآسيه وأحلامه وواقعه. 
تشبه هذه الطبقة كثيرا طبقة الزيت التي تصر على اعتلاء سطح الماء لتحجب حقيقة وجوده كما هو عليه، وتدعي بإصرار انها صورة الماء النقي، بينما هي في الواقع مجرد تلوث بيئي لا أكثر.

نحتاج لمنظمات بيئية صارمة للحد من هذا التلوث في اليمن العذبة.

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

شاهر عبد الحق: أسطورة الملياردير اليمني عابر الخطوط

رئيس مجلس إدارة "بنك اليمن الدولي"، أكبر بنك أهلي يمني، ومصيدة المساعدات الدولية لليمن، رئيس إمبراطورية مالية واسعة متعددة الجنسيات، تتراوح أعمالها التجارية بين الوكالات العالمية وشركات الاتصالات العالمية، وشراء...