كوفيد-19 في تونس: انطلق الشوط الثاني..

ما الذي حدث في الصيف الماضي؟ خلال شهري تموز/يوليو، وآب/أغسطس، "يتخدر" أغلب التونسيين، ويهجرون الشأن العام، لينغمسوا في موسم الأعراس وحفلات الناجحين في البكالوريا، وعودة المهاجرين من الخارج، والاصطياف والتمتع بالعطل المدرسية والراحات السنوية.
2020-09-24

شارك

"النمط الوبائي شهد نسقاً تصاعدياً ليتحول من مرحلة البؤر التي يمكن تجفيفها عبر تدخل السلطات الصحية، إلى مرحلة التفشي المجموعاتي، جلها حالات محلية من عدوى أفقية، تصعب السيطرة عليها". هذا ما صرحت به "اللجنة العلمية لمكافحة فيروس كورونا" يوم 10/09/2020. بعدها بثلاثة أيام أكدت الناطقة الرسمية باسم وزارة الصحة هذه التقييمات والمخاوف قائلة: "الانتشار الكبير للفيروس يجعلنا نصنف الوضع الوبائي في البلاد في المرحلة الثالثة من التصنيف العالمي للحالة الوبائية، التي تتميز بالانتشار على المستوى الوطني في عدة حلقات عدوى وبداية انتشار مجتمعي للفيروس، وهذا الانتشار يحتم علينا ضرورة تعزيز اليقظة الصحية، والاكتشاف المبكر للحالات حتى يتم التكفل بها، وتفادي ظهور حالات متعكرة، وأيضا تفادي ارتفاع حالات الوفيات، وهذا ما تعمل عليه الوزارة حالياً". هذه التصريحات التشاؤمية والتحذيرية بعيدة كل البعد عن التصريحات الانتصارية والحماسية التي كان المسؤولون السياسيون يطلقونها في أواخر الربيع الفائت، عندما بدأت البلاد في الخروج من الحظر الصحي بحصيلة وبائية متدنية ومطمئنة (في حدود 1000 إصابة، وخمسين حالة وفاة بعد ثلاثة أشهر من تسجيل أول حالة). مع بداية فصل الخريف نجد أن العدد تضاعف أكثر من 11 مرة ليتجاوز الـ 12000 إصابة مؤكدة في 22 أيلول/سبتمبر 2020. ما الذي حدث في الصيف الماضي؟ وما هي المخاطر والتحديات التي تواجه التونسيين، حاكمين ومحكومين، مع بداية الشوط الثاني من الصراع مع الوباء؟

طارت السكرة وحضرت المداينية..

يُضرب هذا المثل التونسي العامّي لوصف حال من ينتبه فجأة إلى مشاكله بعد أن كان مشغولاً عنها بالمتع، فكأنه سكران صحا من سكره، ليواجه الواقع و"المداينية" (الدائنين). وهذا بالضبط حال الحكومة وكذلك الشعب في تونس. حتى قبل ظهور الكورونا، كان الصيف الوقت المفضل لدى حكام البلاد، خاصة في عهد الرئيس الأسبق بن علي، لتمرير الإجراءات والقرارات اللاشعبية مثل رفع أسعار المواد الغذائية والمحروقات، أو الزيادة في تعرفة الكهرباء والماء، أو إقرار ضرائب وأتاوات جديدة، الخ. خلال شهري تموز/يوليو، وآب/أغسطس، "يتخدر" أغلب التونسيين، ويهجرون الشأن العام، لينغمسوا في موسم الأعراس وحفلات الناجحين في البكالوريا، وعودة المهاجرين من الخارج والاصطياف، والتمتع بالعطل المدرسية والراحات السنوية. وصيف 2020 كانت له نكهة خاصة، فبعد أشهر من الحجر الصحي وتقييد الحركة وغلق المجال العام، كان من الطبيعي أن يُقبل المواطنون على التجمعات والحفلات والشواطئ بشوق وحماس أكبر. إنها الطبيعة البشرية التواقة للحرية والمتعة.

لكن الصيف ضيف، وككل بداية خريف استفاق التونسيون، المنهكون مادياً، على وقع العودة المدرسية التي أصبحت كل سنة تكلف أكثر، وأمطار أيلول السريعة التي تتسبب في سيول تتعاظم آثارها مع تدهور حالة البنى التحتية. وخريف 2020 جاء أثقل من سابقيه، فهناك وباء الكورونا وهو ليس في مرحلة انحسار كما كان يتمنى الجميع، بل في موجته الثانية. ذهب الصيف ومتعته ليجد التونسيون أنفسهم أمام الأرقام المقلقة (مقارنة بأرقام الموجة الأولى). هذه الموجة الثانية لم تبدأ يوم 1 أيلول/سبتمبر عند منتصف الليل بل قبلها بأسابيع كثيرة، لكنها جوبهت بالتجاهل والإنكار.

ما الذي حدث في الصيف الفائت؟

لكي نفهم كيف تطورت الأمور، يجب أن نعود إلى نقطة البداية ونتتبع مسار انتشار العدوى في تونس وتغير استراتيجيات التصدي التي اعتمدتها الدولة، وذلك اعتماداً على أرقام قاعدة البيانات الرسمية. يوم 3 آذار/ مارس 2020 تم الإعلان عن أول حالة إصابة مؤكدة بمرض كوفيد-19. ومع تتالي الحالات اختارت السلطات التونسية – لمعرفتها بضعف منظومتها الصحية وإمكانياتها الاقتصادية - اتباع استراتيجية محاصرة الوباء مبكراً، واتخذت تباعاً عدة إجراءات صارمة: تعليق الدراسة، ثم غلق المساجد والمقاهي والمطاعم وتعليق التظاهرات الرياضية والثقافية، ثم فرض حظر تجوال وغلق الحدود الجوية والبحرية والبرية يوم 15 آذار/ مارس وصولا إلى إعلان الحجر الصحي الشامل في 22 آذار/مارس.

كانت هذه السياسة، وعلى الرغم من ثقل تأثيراتها الاقتصادية والنفسية على عدة فئات وطبقات، ناجعة إلى حد كبير. وبدءاً من منتصف نيسان، بدأ نسق العدوى في التراجع، وبدت السلطات الصحية مسيطرة على الوضع بشكل مطمئن. شجع هذا التقدم الحكومة على اتخاذ إجراءات للخروج تدريجياً من الحجر الصحي، فأعلنت خطة من ثلاث مراحل تمتد من 4 أيار/مايو إلى 14 حزيران/يونيو. عادت بعض القطاعات المهنية إلى العمل بنصف طاقتها التشغيلية، ثم تم السماح بفتح المطاعم والمقاهي والمساجد والفضاءات التجارية الكبرى للعموم، وتسهيل شروط التنقل داخل المدن وبينها، وعاد تلاميذ السنة النهائية من التعليم الثانوي إلى الدراسة في آخر أيار/مايو والطلبة بداية من 8 حزيران/يونيو.

ويمكن القول إن الخروج من الحجر كان آمناً. ارتفعت شارات النصر وكثر في الإعلام الحديث عن نجاح تونس في هزم الوباء، وأشادت منظمة الصحة العالمية بجهود السلطات التونسية في محاصرة الوباء، في حين اعتبرتها منظمة السياحة العالمية وجهة آمنة. فما هي أسباب الانتكاسة إذاً؟

تتحمل السلطات المسؤولية بالدرجة الأولى، وبدرجة أقل المواطنون. فبداية من النصف الثاني من حزيران/يونيو، اتخذت السلطات قرارات وإجراءات نسفت تدريجياً النجاح الذي تحقق في الأشهر السابقة. فقررت فتح الحدود أمام المسافرين، تونسيين كانوا أم أجانب. صنفت السلطات التونسية الدول إلى ثلاثة ألوان حسب خطورة انتشار الوباء فيها: خضراء لا يطلب من الوافدين منها أي تحاليل أو إجراءات، برتقالية يتوجب على القادمين منها تقديم إفادة بتحليل مخبري، والخضوع إلى الحجر الصحي الذاتي لمدة 14 يوم، وحمراء خطرة لا يقبل منها إلا التونسيون، مع حجر صحي إجباري لمدة أسبوع وإجراء تحليل في اليوم السادس. كان يمكن لفتح الحدود أن يكون آمناً لو تم الالتزام بهذا التصنيف والإجراءات المترتبة عنه بكل دقة، لكن السلطات سارعت إلى تخفيف القيود، وضمت دولاً فيها مئات آلاف الحالات مثل فرنسا وإيطاليا إلى القائمة الخضراء، وخففت الإجراءات على القادمين من دول القائمة البرتقالية والحمراء. ثم أصبح الدخول إلى تونس لا يخضع تقريباً إلى أي قيود جدية إلا في حالة الاشتباه في الحالة الصحية للوافد. فضلاً عن تعمد بعض الوافدين الغش والتحايل على منظومات المراقبة الصحية في المطارات عبر تقديم تقارير تحليل مزيفة، أو تناول مخفضات للحرارة قبل المرور بالفحص.

الخروج من الحجر كان آمناً. ارتفعت شارات النصر وكثر في الإعلام الحديث عن نجاح تونس في هزم الوباء. وأشادت منظمة الصحة العالمية بجهود السلطات التونسية في محاصرة الوباء، في حين اعتبرتها منظمة السياحة العالمية وجهة آمنة. فما هي أسباب الانتكاسة إذاً؟

وسجلت حالات هروب من مراكز الحجر الصحي الإجباري، وأعطيت استثناءات لسياسيين ورياضيين وغيرهم. هذا التساهل الكبير مع الخارج صاحبه رفع يد كلي في الداخل. تصرفت السلطات - ومعها أغلب المواطنين - خلال أشهر الصيف وكأن الكورونا ذكرى قديمة. رُفعت أغلب القيود في أماكن العمل ووسائل النقل ودور العبادة والأماكن العمومية والفضاءات التجارية والشواطئ ومحطات الاستجمام، وكذلك خلال المناسبات الخاصة والتظاهرات العامة والمهرجانات.

يبرر الكثيرون خفة السياسيين التي لا تحتمل هذه بسوء التقدير، ويرون أن المسؤولين أرادوا أن يعالجوا جزءاً من تأثيرات الانكماش الاقتصادي المسجل خلال النصف الأول من السنة عبر تشجيع التونسيين المهاجرين والسياح الأجانب على القدوم إلى تونس وضخ العملة الصعبة وتنشيط الدورة الاقتصادية. كما خففوا - قبل أن يلغوها تماماً - التقييدات على جلّ الأنشطة الاقتصادية والخدمات حتى يسمحوا لمختلف القطاعات بالتقاط أنفاسها وتعويض بعض خسائرها، حتى وإن تطلب الأمر المخاطرة بانتشار جزئي للوباء. أي أن الدولة تريد تخفيف الفاتورة الاقتصادية والاجتماعية للوباء حتى لا تنفجر الأوضاع وتجد نفسها في مأزق كبير. حتى وإن كانت لهذه التبريرات بعض الوجاهة، فلا يمكن إنكار حقيقة أن الدولة خضعت لضغوط كبيرة من لوبي السياحة وكبار رجال الأعمال لتسرع في رفع القيود وبث الطمأنينة في المجتمع ليسترجع نسق العمل والاستهلاك العاديين.

هناك عامل سياسي آخر له تأثير سلبي على أداء السلطات في مجابهة الوباء: عدم الاستقرار السياسي. فعلى سبيل المثال تتالت أربع حكومات على البلاد منذ بداية السنة، والرقم قد يرتفع قبل نهايتها. أربعة وزراء صحة، وفي كل مرة إقالات وتعيينات وإعفاءات على مستوى المناصب الرفيعة في وزارة الصحة. هذا فضلاً عن حالة الاحتقان السياسي التي تعيشها البلاد منذ مطلع الصيف.

لم يعد يلتفت أحد لبلاغات وزارة الصحة وتقاريرها اليومية، ولم يبق من الكورونا إلا عبارة معلقة في أعلى شاشات القنوات التلفزية العمومية : "الكورونا ما زالت، ما وفاتش نردو بالنا" (الكورونا لم تنته بعد فلنلتزم الحذر). تحذيرات لها تقريباً نفس وقع توصيات أم لابن خارج للسهر مع أصدقائه: هو لن يطبقها، وهي تعرف ذلك جيداً.

أصبحت البلاد تسجل في اليوم الواحد عدد حالات كانت تسجله في شهر كامل خلال الموجة الأولى. وربما الأمر الوحيد الذي يخفف من وطأة هذا التطور هو تراجع نسبة الوفيات، فلقد بلغت أكثر من 4 في المئة خلال الموجة الأولى، وهي الآن في حدود 1 في المئة.

طبعاً لم تظهر نتائج هذه "السياسة" الجديدة سريعاً. ففي 3 تموز/يوليو، أي بعد 3 أسابيع من نهاية الحجر، كان عدد الإصابات في حدود 1188 أي بزيادة 53 حالة مقارنة بآخر يوم في الحجر الصحي. لكن في بداية شهر آب/أغسطس بدأت الثمار تنضج. بلغ وقتها عدد الحالات 1642 حالة، ويوم 6 آب /أغسطس أعلنت منظمة الصحة العالمية أن تونس دخلت في الموجة الثانية لفيروس كورونا، وأصدرت وزارة الصحة بياناً بهذا الصدد، لكن السلطات لم تتخذ إجراءات جديدة ولم تطلق صافرات الإنذار، وطبعا لم تنتبه الأغلبية الساحقة من التونسيين لهذه المستجدات، وواصلو استمتاعهم بلحوم أضاحي العيد الكبير وأعراسهم وعطلاتهم.

حتى عندما ظهرت بؤر كثيرة وكبيرة خلال الشهر، كما حدث في معتمدية "الحامة" في محافظة قابس (جنوب شرق تونس)، ومعتمدية مساكن في محافظة سوسة (الوسط الشرقي للبلاد)، وكذلك في محافظة بن عروس حيث انتشرت مئات الحالات في مصانع المنطقة، لم يتغير شيء تقريباً. ابتداءً من 10 آب/ أغسطس أخذ النسق في التصاعد سريعاً، فأصبحت البلاد تسجل أكثر من 50 حالة يومياً، ثم أكثر من 100 حالة، لتصل إلى معدلات تتجاوز المئتي حالة في بداية أيلول/سبتمبر، وأكثر من 300 حالة منذ الأسبوع الثاني منه لتتجاوز ال500 حالة يوميا في نصفه الثاني. أي أن البلاد أصبحت تسجل في اليوم الواحد عدد حالات كانت تسجله في شهر كامل خلال الموجة الأولى. وربما الأمر الوحيد الذي يخفف من وطأة هذا التطور هو تراجع نسبة الوفيات، فلقد بلغت أكثر من 4 في المئة خلال الموجة الأولى، وهي الآن في حدود 1 في المئة.

العودة المدرسية أو المعضلة الكبرى

باستثناء تلاميذ الرابع الثانوي الذين عادوا إلى الدراسة في الفترة ما بين أواخر أيار/مايو، وأواخر حزيران/يونيو 2020 قبل اجتياز امتحان البكالوريا في دورتيه الرئيسية والتداركية (تموز/يوليو 2020)، وتلاميذ السادس الابتدائي والتاسع الأساسي الذين اجتازوا في نهاية حزيران/يونيو وبداية تموز/يوليو امتحانات الدخول إلى الإعداديات والمعاهد الثانوية "النموذجية" (مدارس النخبة)، فإن قرابة المليوني تلميذ يلازمون البيوت منذ بداية شهر آذار/مارس 2020. في تلك الفترة قررت الحكومة في مرحلة أولى إغلاق المؤسسات التربوية توقياً من انتشار الوباء فيها، ثم في مرحلة ثانية إنهاء السنة الدراسية مبكراً عندما تبينت استحالة استكمال التدريس عن بعد سواء عبر الإنترنت أو القنوات التلفزية العمومية، نظراً لعدم جهوزية الوزارة لمثل هذه الوسائل/الوسائط التعليمية، وخاصة لما قد تخلقه من تفاوت في التحصيل حسب الظروف المادية لكل أسرة ومنطقة، ومدى توفر أجهزة الحاسوب والربط بشبكات الإنترنت والاتصالات وحتى وأحياناً.. الإنارة العمومية.

مقالات ذات صلة

انتهت السنة الدراسية الفائتة مبتورة وبلا فرحة أو حماس، وبعد أخذ ورد قررت وزارة التربية أن تكون العودة المدرسية 2020/2021 في التاريخ المعتمد منذ سنوات طويلة: 15 أيلول/سبتمبر. تحديد تاريخ العودة وإن كان مهماً فهو يبدو مجرد تفصيل مقارنة بالتحديات الكثيرة التي يجابهها كل المعنيين بالسنة الدراسية: التلاميذ، المدرسون، أولياء الأمور، الموظفون، والعمالة في المؤسسات التربوية، وزارة التربية، وكذلك وزارتا النقل والصحة. وتتعدد أوجه هذه التحديات، فمنها النفسي والبيداغوجي/التعلمي والزمني والمادي والتقني.

أولى التحديات وأهمها تتعلّق بقاعة الدرس. كيف يمكن التعامل مع تلاميذ انقطعوا عن الدرس أكثر من 6 أشهر، ويعلمون أنه حتى السنة الدراسية الجديدة غير مضمونة وقد تشهد انقطاعات؟ يشتكي الكثير من أولياء الأمور من تزايد إدمان أبنائهم على ألعاب الفيديو وشبكات التواصل الاجتماعي وظهور اضطرابات نفسية لدى الكثير منهم خلال فترة الانقطاع. وفضلاً عن هذه العوائق النفسية التي قد تعترض الكثير منهم، سيتوجب على المدرسين أن يتعاملوا أيضاً مع معضلة كبيرة: كيفية تعويض النقص في البرامج التي لم تكتمل في السنة الدراسية السابقة، المنهاة مبكراً، والتي قد لا تكتمل أيضاً في السنة الدراسية الجديدة التي سيتم خلالها تقليص ساعات الدرس، وتخفيف المحتوى. هذا النقص، إن لم يتم تداركه جزئياً فسيكون له تأثير كبير على مستوى التلاميذ وجودة تحصيلهم العلمي، وقد يصعّب عليهم الأمور عند الانتقال من مرحلة دراسية إلى أخرى (ابتدائي/إعدادي/ثانوي). اتفقت الوزارة المشرفة على التعليم مع النقابات المعنية به على تخصيص الأسابيع الأولى بعد العودة لاستكمال برامج السنة السابقة (بشكل مسرع ومخفف)، وكذلك إطالة السنة الدراسية إلى أواخر حزيران/يونيو 2021 بعد أن كانت تنتهي أواخر أيار/مايو، وأيضاً التقليص في مدة العطل المدرسية القصيرة (4 أيام عوضاً عن 7) والطويلة (10 أيام عوضاً عن 14). لكن ليس هناك إلى حد الآن خطة واضحة للتعامل مع احتمالية الاضطرار لتعليق الدراسة في حالة انتشار الوباء بشكل خارج عن السيطرة. لا تمتلك الوزارة إجابة صريحة، ويفضل الناطقون باسمها ترحيل الموضوع عبر القول بأنهم يتابعون الوضع عن كثب، وسيتخذون القرارات والإجراءات المناسبة كلما استلزم الأمر ذلك.

قبل الدخول إلى قاعة الدرس، وبعد الخروج منها، هناك تحديات أخرى تتعلق بالبروتوكول الصحي للتوقي من كوفيد-19. تعهدت الوزارة - بعد أن اشتكت طويلاً من قلة الاعتمادات المالية الضرورية - خلال اجتماعاتها مع النقابات بتوفير المواد والأدوات اللازمة لتعقيم وتطهير المباني والأثاث وحماية الأفراد والتثبت من حالتهم. لكن هذه التطمينات لم تطمئن الناس كثيراً، أولاً لأن هناك شبه قناعة أن الوزارة لن تكون (حتى وإن كانت إرادتها صادقة) قادرة مالياً وعملياً على توفير ما وعدت به في وقت قصير وبشكل متكافئ بين مختلف المؤسسات والجهات، وثانياً لأن حالة جزء كبير من المؤسسات التربوية التونسية متدهور جداً حتى قبل ظهور الوباء. قبل توفير الصابون والمحاليل الكحولية وغيرها من المطهرات، كان يجب التفكير في تهيئة دورات مياه تحفظ الصحة والكرامة لآلاف التلاميذ الذين يدرسون في مؤسسات مهملة وآيلة للسقوط، حتى إن بعضها لا تصله المياه الصالحة للاستعمال البشري، خاصة في المناطق النائية. كما تعاني أغلب المؤسسات التربوية، وبالأخص في المدن الكبرى، من اكتظاظ رهيب يعقّد العملية التربوية، ويصعّب الفهم والإدراك فضلاً عن كونه عاملاً مساعداً لانتشار العدوى. وفي هذا الصدد قررت وزارة التربية توزيع كل قسم على فوجين حتى يتم تقليص عدد التلاميذ وجعل التباعد الجسدي ممكناً. وتم أيضاً الاتفاق على اعتماد نظام التناوب بين مختلف المستويات الدراسية حتى يمكن إيجاد عدد كاف من القاعات لتطبيق نظام الأفواج. القرارات في المجمل معقولة، لكن واقع المدرسة التونسية قد يجعل تطبيقها أمراً معقداً جداً، وحتى مستحيلاً في بعض المؤسسات والمناطق. وكما بينت الكورونا قصور المنظومة الصحية التونسية فإنها أبرزت أيضاً مكامن الخلل في المنظومة التعليمية، لكنها أظهرت أيضاً أنه من الممكن إيجاد حلول وبدائل ترقى بجودة الصحة والتعليم العموميين لو توفرت أولاً الإرادة وثانياً الاعتمادات المالية.

خارج المدرسة، هناك تحديات أخرى تتعلق أولاً بوسائل النقل الجماعي. حتى قبل ظهور الكورونا بسنوات كان النقل يمثل إحدى المشاكل الكبيرة في حياة التلميذ والطالب وأغلب التونسيين عموماً. ففضلاً عن النقص الكبير في أسطول النقل العمومي وفي عدد السفرات والخطوط، هناك مشاكل تتعلق باهتراء وسائل النقل القديمة ونقص الصيانة وضعف التجديد. وتزيد حالة الطرقات الطين بلة خاصة عندما تنهمر الأمطار والتساقطات. مئات آلاف التلاميذ سيركبون وسائل النقل هذه في الأيام القادمة مرتين على الأقل كل يوم. والتباعد الجسدي في وسائل النقل الجماعي (العمومي والخاص) في تونس هو ضرب من الخيال العلمي في أغلب الأحيان. تصدر الكثير من التطمينات من قبل مسؤولي وزارة النقل تؤكد جاهزية القطاع للعودة المدرسية، وما يلزمها من بروتوكولات للتوقي من الوباء، لكن بلا تفاصيل ولا تعليمات وتوصيات واضحة.

وزارة الصحة هي أيضاً معنية بهذه العودة، فلقد شاركت في وضع البروتوكولات التي يجب تطبيقها في المؤسسات التربوية، كما أنه سيكون لها دور كبير في مراقبة الوضع الوبائي فيها. وعندما تظهر حالات إيجابية في بعض المؤسسات التربوية سيكون لها بالتأكيد رأي في قرار الغلق أو الاستمرار. وفي حالة انتشار الوباء بشكل كبير فإن العبء على كاهلها سيصبح ثقيلاً جداً.

ويجد أولياء أمور التلاميذ أنفسهم في وضعية صعبة ومقلقة. ففضلاً عن مصاريف العودة المرتفعة سيكون عليهم أن يوفروا أقنعة الحماية لأبنائهم (لن توزعها الدولة مجاناً) وأن يحسنوا قدر المستطاع ظروف التنقل، وأن يتعاملوا مع جداول أوقات استثنائية (نظامي الأفواج والتناوب) التي قد تصبح معضلة عندما يكون للعائلة عدة أبناء يدرسون في مستويات مختلفة. وسيكون الأمر أصعب على العائلات التي يعمل فيها كلا الأبوين، ولا يجدان سنداً من الأقارب أو الجيران.

طبعاً هناك الحضانات وغيرها من المؤسسات، لكن تكلفتها ما انفكت ترتفع، وهي تشكل احتمالات إضافية لانتشار العدوى. يعيش الأولياء هذه الأيام مشاعر متضاربة. فمن جهة هناك الخوف على الأبناء والعائلة من إمكانية التقاط العدوى، ومن جهة أخرى ارتياح لعودتهم إلى مقاعد الدراسة بعد شهور طويلة من الانقطاع. وتشكل إمكانية تعطل السنة الدراسية الجديدة كابوساً للكثير من العائلات التي لن تستطيع العناية بأبنائها ومراقبتهم خلال وجودهم في البيت نظراً للالتزامات المهنية للأولياء. كما أن هناك خوف على مستوى التحصيل العلمي للأبناء وحتى سلوكهم الاجتماعي ومخاطر التوحد والانطواء.

الهدنة التي لم يقع استغلالها

يمكن القول بأن الفترة الممتدة من أواخر شهر أيار/مايو إلى بداية شهر آب/أغسطس كانت بمثابة الهدنة بعد الشوط الأول من مجابهة الوباء. هدنة منحت السلطات متسعاً من الوقت لتحضير ما يلزم للشوط الثاني، لكنها لم تفعل. وفضلاً عن تخبط سياساتها وعشوائية بعض قراراتها التي تسببت في تبديد "انتصار" الشوط الأول، فإن الدولة بدت وكأنها تعتقد أن "الحرب" قد انتهت.

وزارة التربية اكتشفت فجأة أن هناك وباء يجب التوقي منه خلال العودة، فصارت تعد الخطط والاستراتيجيات قبل أيام وسويعات من بداية السنة الدراسية الجديدة. ولم يتم التفكير جدياً في مسألة التعلم عن بعد (حتى وقتياً أو جزئياً) وكيفية ضمان وصول كل التلاميذ في كل المناطق لها لضمان تساوي الحظوظ.

كما لم تضبط الدولة بروتوكولات (باستثناء فرض ارتداء القناع الواقي في وسائل النقل والإدارات والفضاءات التجارية الكبرى) حماية صارمة في المصانع وبقية المؤسسات الاقتصادية، وهي تتلكأ في فرض بعض التقييدات على أنشطة المحلات المفتوحة للعموم.

وزارة الصحة التي كانت تشتكي خلال الموجة الأولى من قلة الموارد، وتحذر من إمكانية تعقد الأوضاع نظراً للنقص الكبير في أسرّة ووحدات الإنعاش والرعاية المركزة، تلقت تبرعات كبيرة من مواطنين عاديين ومؤسسات اقتصادية ومنظمات محلية ودولية، لكنها لم توضح إلى اليوم مآل المبالغ المجمعة. ولا يبدو أن عدد وحدات الإنعاش والعناية المركزة قد ارتفع كثيراً. وما زال مهنيو الصحة العمومية يشتكون من نقص في العتاد الطبي وأدوات الحماية الشخصية، وكذلك ضعف جهوزية مسارات فرز المرضى في المؤسسات الاستشفائية ووحدات استقبال المصابين بعدوى كوفيد-19. كما لا تتوافر بيانات رسمية عن حجم المخزون الوطني من الأدوات والمواد اللازمة لأخذ العينات وتحليلها، والأقنعة الواقية والكحول الطبي.

وزارة النقل لم توضح هي الأخرى كيف يمكن تطبيق بروتوكولات التباعد الجسدي، فأسطولها وحتى عندما يعمل بكامل طاقته، لا يستطيع استيعاب المستعملين الذين يتكدسون فوق بعضهم البعض في الأيام العادية، فما بالك عندما يتم فرض مسافة أمان بين كل راكب وآخر. بعض الحافلات والخطوط قد تعمل بنصف أو ثلث "طاقة استيعابها" المعتادة، فما هو مصير مستعملي هذه الوسائل، وأغلبهم من ضعاف الحال والطلاب والتلاميذ؟ حتى استعمال النقل الجماعي الخاص يطرح عدة مشاكل، فكيف يمكن مثلاً تطبيق التباعد في التاكسي الجماعي وسيارات النقل ما بين المدن؟ خلال المرحلة الأخيرة من الحجر الصحي، تمّ مثلاً إجبار السائقين على استعمال نصف المقاعد المخصصة للركاب فقط مع الترفيع في تعريفة الركوب بنسبة 50 في المئة. هذا الإجراء - الذي تم العمل به لمدة أيام فقط - لم يرض الراكب، الذي أصبح يدفع أكثر، ولا السائق الذي أصبح يربح أقل، فما بالك لو يتم اعتماده لمدة أسابيع أو أشهر.

وزارة الصحة التي كانت تشتكي خلال الموجة الأولى من قلة الموارد، وتحذر من إمكانية تعقّد الأوضاع نظراً للنقص الكبير في أسرّة ووحدات الإنعاش والرعاية المركزة، تلقت تبرعات كبيرة من مواطنين عاديين ومؤسسات اقتصادية ومنظمات محلية ودولية، لكنها لم توضح إلى اليوم مآل المبالغ المجمعة.

وقس على هذا في عدة مسائل، مما لا يبعث على الطمأنينة بخصوص انتشار الوباء بشكل واسع، خاصة وأن اللقاحات لم تستكمل بعد ولا يعرف تاريخ تسويقها. تعيش الدولة حالة تشبه الإنكار، ويبدو أنها تعول على "وعي المواطن" - وهو مطلوب، لكنه غير كاف ولا مضمون - متناسية أن إدارة الشأن العام والأزمات الكبرى هي قبل كل شيء مسؤولية الحاكمين. وعلى الرغم من تأكيدها على أن العودة إلى الحجر الصحي غير مطروحة، وأن "التعايش" سيكون عنوان المرحلة القادمة، فهي تعلم أن الأمور قد تخرج عن السيطرة، فتجد نفسها مضطرة لحجر جزئي أو شامل، فماذا أعدت من موارد مالية ومخزونات أدوية وغذاء لمجابهة هذه الفرضية؟ كثيرة هي الأسئلة، ويفترض أنها لا تطرح اليوم بل أن تكون إجاباتها جاهزة منذ أشهر.

****

على كل حال، وعلى الرغم من ارتفاع أعداد المصابين، فإن أرقام الكورونا في تونس ما زالت لم تصل إلى مرحلة فقدان السيطرة. ما زال هناك حيز زمني صغير يمكن استغلاله لتفادي الأسوأ قبل حلول موسم الإنفلونزا الذي سيعقد الأمور أكثر، ويصعب

مقالات من تونس

للكاتب نفسه