أزمة المياه في حوض صنعاء

تمثل قضية المياه في الجمهورية اليمنية واحدا من التحديات التنموية التي تساقطت في واجهتها الحكومات اليمنية المتعاقبة منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، إلى درجة باتت تشكل هاجساً مخيفاً للدولة والمجتمع في آن، وبخاصة في ظل تنامي الطلب على المياه، الناجم عن ارتفاع وتيرة النمو الحضري علاوة على الاستخدام غير الرشيد للمياه في القطاع الزراعي، حيث عدد كبير من سكان البلاد يمتهنون الزراعة،
2013-02-06

فهمي علي سعيد

أستاذ في جامعة صنعاء مختص بالمياه


شارك
تقلّ حصّة اليمني من المياه عن معدل 70 ليتراً في اليوم (من الانترنت)

تمثل قضية المياه في الجمهورية اليمنية واحدا من التحديات التنموية التي تساقطت في واجهتها الحكومات اليمنية المتعاقبة منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، إلى درجة باتت تشكل هاجساً مخيفاً للدولة والمجتمع في آن، وبخاصة في ظل تنامي الطلب على المياه، الناجم عن ارتفاع وتيرة النمو الحضري علاوة على الاستخدام غير الرشيد للمياه في القطاع الزراعي، حيث عدد كبير من سكان البلاد يمتهنون الزراعة، وفي ظل عجز السياسات المائية الحكومية، وضعف مواردها المالية عن توفير أي مصادر مائية جديدة. كل ذلك كان معوقاً قوياً وسبباً في كبح دوران عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في اليمن.

تناقص بوتائر سريعة ومستمرة

تتعاظم المشكلة المائية في حوض صنعاء الذي تزيد مساحته على 3000 كيلومتر مربع، ويزيد عدد سكانه على مليوني نسمة، بمن فيهم سكان عاصمة البلاد السياسية مدينة صنعاء نفسها. وقد تزامن ظهور نذر المشكلة المائية لهذا الحوض مع ظهور مؤشرات النذر المائية المخيفة على مستوى البلاد برمتها، إن كان ذلك في صور التدني الواضح لحصص الفرد من تلك المياه، وبمستوى يقل عن معدل 70 ليترا في اليوم، أو بالانخفاض المتسارع وغير المسبوق لمناسيب المياه الجوفية في حوض صنعاء، والذي وصل في بعض الأحيان إلى ما يزيد على 10 أمتار سنوياً، وبخاصة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، ومرده مجموعة من التغيرات التكنولوجية والاجتماعية والمؤسسية والاقتصادية التي شهدتها البلاد في تلك الفترة.
ـ فعلى الصعيد التكنولوجي، حمل عقد الثمانينيات من القرن العشرين دخولا واسعا وغير مسبوق للمضخات إلى اليمن، ما وسّع من رقعة انتشار الآبار الارتوازية داخل حوض صنعاء، والتي فاق عددها اليوم 5000 بئر ارتوازية. وقد توفر ذلك بفعل تدني سعر الديزل، وما كان يتبعه بنك التسليف التعاوني الزراعي من سياسات إقراض ميسرة ومدعومة للمزارعين (وهي في مجملها قروض لا تسدد في نهاية المطاف)، وقد استخدمت لشراء مضخات المياه، ما شجع المزارعين على حفر آبار جديدة مع تعميق آبارهم القديمة سنوياً، لسقي أراضيهم الزراعية لساعات طويلة.
ـ أما الجانب الاجتماعي، فتمثل بالنمو السكاني الذي شهدته مدينة صنعاء، وبخاصة ابتداء من عام 1990 باعتبارها عاصمة البلاد بعد الوحدة، بفعل الهجرة البشرية الاعتيادية من مختلف محافظات الجمهورية، والتي واكبتها طفرة عمرانية عالية.
ـ كما أن انتشار زراعة القات، وبمساحات وافرة في حوض صنعاء كان هو الآخر سبباً لشحة مائية قوية واجهتها العاصمة صنعاء، والتي بدأ من خلالها دق جرس الإنذار بأنها ستكون أولى عواصم العالم عرضة لجفاف مصادرها المائية.
ـ في حين تمثل البعد المؤسسي لأزمة المياه في حوض صنعاء في الضعف الملموس لمختلف المؤسسات المعنية بمسألة المياه، إضافة إلى تداخل المهمات في الشأن المائي لأكثر من جهة. فعلى سبيل المثال، استمر التداخل في إدارة الموارد المائية على مستوى اليمن عامة ومستوى حوض صنعاء خاصة بين وزارة الزراعة والري بمختلف مؤسساتها وهيئاتها التابعة لها، وبين وزارة المياه والبيئة بمختلف صنوف هيئاتها ومؤسساتها، ما أفضى إلى بقاء الأزمة المائية تتصاعد سنة بعد أخرى بينما بقيت الحلول تراوح مكانها.

مياه أقل، فقر أكثر...

كل تلك العوامل قد عكست نفسها بقوة على الواقع المائي المتأزم في حوض صنعاء، كما أن ضعف سلطة الدولة ومؤسساتها في جانب المياه أفسح المجال وفتحت الباب لجيش جرار من الشخصيات الاجتماعية والاعتبارية النافذة في الدولة لمواصلة حفرها وتعميقها لعدد لا يحصى من الآبار الارتوازية، ليس على صعيد حوض صنعاء وإنما في مختلف الأحواض اليمنية، كأحواض تعز وصعدة وتهامة. لقد أدى التراخي الواضح من قبل الدولة في تطبيق تشريعاتها وقوانينها المائية أن توسعت دائرة الفقر بين أوساط صغار المزارعين في حوض صنعاء، حيث لا حول لهم ولا قوة إلا شراء المياه بتكاليف باهظة بغية ري محاصيلهم. فمن لم يتمكن منهم على ذلك كان يضطر الى بيع أراضيه الزراعية والانتقال للاشتغال بحرف أخرى. وهو ما حصل على سبيل المثال لمزارعي العنب في حوض صنعاء الذي كان يعد في السابق مصدراً مستداماً للدخل. كما أنه، نتيجة لهذا الوضع، فقد ثار الكثير من النزاعات والصراعات بين سكان الحوض على ما بقي من متاح مائي في ظل فراغ السياسات المائية الحكومية.

... وأمراض

والجدير ذكره أن معظم سكان التجمعات السكانية في حوض صنعاء، وبخاصة الأجزاء الشمالية منه، باتوا مضطرين لتغطية احتياجاتهم المائية للأغراض الزراعية أو للاستعمالات المنزلية باستخدام المياه الرمادية (مياه الصرف الصحي)، من دون النظر إلى ما قد تؤدي إليه من عواقب مرضية وخيمة، حيث نجم عن تلك الممارسات توطن مجموعة من الأمراض، كالإسهالات، والطفيليات المعوية، وأمراض التهاب الجهاز التنفسي، بنسبة طالت ما يزيد على 60 في المئة من إجمالي عدد سكان الحوض، وبخاصة في وسط الأطفال دون سن السادسة. أما تأثيرات تلك المياه الملوثة وذات السمية العالية على كبار السن، فتتمثل في نوبات الصداع أو حال الدوار وضعف التنفس التي تصيبهم، قد تم نقل مسبباتها لهم عن طريق تناول الخضار التي تم سقيها بمياه الصرف الصحي غير المعالجة معالجة كافية وأكلها غضة أو مطبوخة. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية تنامياً ملحوظاً في انتشار بعض الأمراض في أوساط سكان حوض صنعاء، كالتيفوئيد والكوليرا، والديزنتاريا بالإضافة إلى أمراض تليف الكبد والكلى والتهاب المسالك البولية الناجمة عن تركُّزٍ عال للأملاح في مياه الحوض. وهو ما يكبّد سكان حوض صنعاء فاتورة اقتصادية وصحية مُرهِقَة.

الحلول

ناقوس الخطر دق ليسمع كل واعٍ ومسؤول عن المياه في هذا البلد بأن المستقبل القريب ستكون له تداعيات لا تُحمد عقباها، اقتصادية ومجتمعية. وأن من أولى الحلول في هذا الصدد هو تطبيق مبدأ الإدارة المتكاملة والرشيدة للمياه، بالشراكة مع القطاع الخاص، وكل مستخدمي المياه، ومع منظمات المجتمع المدني العاملة في هذا الشأن. وأن جديد السيناريوهات المائية في حوض صنعاء يجب أن لا يغفل هذه الشراكة وصولاً إلى الاستخدام المستدام لهذا المورد. لكن كل هذا لن يتأتى إلا بروزنامة من الحلول يمكن الشروع في تنفيذها على المدى القريب. فعلى سبيل المثال بإمكان الحكومة اليمنية ممثلة بالمؤسسة العامة للمياه أن تُرسل إشارات قوية للمستخدمين أو المستهلكين للمياه من خلال نظام الأسعار. ويتمثل ذلك في كسر التحدي في هذا الجانب والذي به ستتلاشى كافة التشوهات والحوافز التي قادت إلى الضخ المُفرِطْ للمياه الجوفية. ما يعني التحرك سريعاً لتغيير الأسعار النسبية، بغية عدم التشجيع على استخدام المياه الجوفية. وهذا ما حملته مسودة الحلول لمشكلة المياه الراهنة في حوض صنعاء في مراجعتها لتعرفة المياه بما لا يكون مشجعاً على المزيد من الضخ المائي لساعات غير معقولة. إضافة إلى ضرورة تطوير برنامج للحفاظ على المياه، وترشيد استخدامها في الري، مع الرفع من كفاءتها وتحقيق أقصى عائد ممكن منها. ولذا، فمن المهمات العاجلة للجنة إدارة الموارد المائية في حوض صنعاء تطبيق ما ورد في قانون المياه لعام 2002 وبخاصة في مواده (35، 36، 42) والتي بها لا يسمح بحفر آبار جديدة، سواء يدوية أو ارتوازية، إلا بموجب ترخيص صادر عن الهيئة العامة للموارد المائية، ويكون ما زال ساري المفعول ساعة تنفيذه. كما أن من المهمات السريعة والملحة على تلك الهيئة منع مختلف الأنشطة الصناعية والزراعية التي قد تؤثر سلباً في المخزون المائي المتجدد والاستراتيجي لحوض صنعاء.
بات التخطيط المتكامل لإدارة المياه على مستوى حوض صنعاء هو من أهم التدابير التي أوردتها مختلف الخطط والاستراتيجيات في الشأن المائي للحوض، حيث ان تصميم وتنفيذ مجموعة من الاجراءات للحفاظ على المياه وإدارتها إدارة عقلانية، تنتج عنها خطة متماسكة تفضي في النهاية إلى رفع القيمة الاقتصادية والاجتماعية لمورد المياه في حوض صنعاء من جهة، وخفض حدة المشكلة المائية عموماً من جهة أخرى. إلا ان كل ما ذكر لن يرى النور إلا بحكومة فيها لسلطة القانون حضوره الفعلي.

مقالات من اليمن